استقالة الميقاتي سورياً
عمر قدور
تشكيل حكومة موقتة للمعارضة السورية تليه استقالة الحكومة اللبنانية؛ قد لا يكون قسراً للوقائع الربطُ بين الحدثين، وقد لا يكون من المجازفة القولُ بأن الرد السياسي للنظام على تشكيل الأولى أتى من بيروت هذه المرة، بعد أن أتى جزء من الرد الميداني أيضاً بقصف أراضٍ لبنانية والتهديد رسمياً باستهدافها. تذهب التحليلات السورية المتفائلة إلى اعتبار استقالة الميقاتي نوعاً من الانشقاق على النظام السوري، فحكومة الثامن من آذار التي ترأسها كانت رهينة حلفاء النظام، ولم تخفِ مساندتها للأخير على رغم إعلانها سياسة “النأي بالنفس”، وقد كان يُعتقد إلى وقت قريب أن وجودها مصدر ارتياح له، لأن تجميد الوضع لمصلحته في بيروت يسهّل له التفرغ للمعارك التي تقترب من مركز دمشق.
لكن المعرفة بطبيعة النظام تدلّ على أنه لا يركن إلى الحد المريح الذي أمنته له حكومة ميقاتي، وهو لم يتوقف يوماً عن طلب المزيد من الولاء، وأخيراً المزيد من الانخراط في حربه على السوريين، بما يتجاوز قدرة بعض الحلفاء. لا يرضى النظام بأقل من التبعية المطلقة، وهو في تاريخه كله لم يترك “ورقة توت” لأيّ من حلفائه، بل لطالما أذلّ حلفاءه على العلن ليفهمهم أنهم ليسوا شركاء له، باستثناء حزب الله الذي حاز مرتبة الشريك من البوابة الإيرانية. على ذلك، لا مكان للوسطية في قاموس النظام، حتى إن كانت نظرياً مفيدةً له، فهو يتطلب من كافة المشاركين في الحكومة ما يطلبه من شبيحته المحليين، أو أقله ما يطلبه من أبواقه المأجورة وشبه المأجورة في لبنان.
في الواقع كانت الحكومة اللبنانية المستقيلة أشبه بعبوة مفخخة يضمن النظام نفسه تعطيلها، أو انفجارها عند اللزوم، بمعنى أنها كانت البديل عن الفراغ والفوضى اللذين يهدد بهما اللبنانيين والإقليم ككل. ومن المرجح أن تفجير الوضع اللبناني أصبح مطلباً ملحاً للنظام، لكي يستعيد من خلال ذلك ورقة المفاوضات مع قوى دولية وإقليمية باتت على قطيعة كاملة معه. لقد كانت البوابة اللبنانية دائماً المدخل الأسهل للمفاوضات القذرة، ولطالما كسب من خلالها أوراق نفوذ إضافية خارجياً، فضلاً عن كونها الضمانة الأقوى لترسيخ بقائه داخلياً. إننا إذ نتحدث عن ثلاثة وأربعين عاماً من حكم نظام الأسد لا ينبغي أن نتجاهل ثلاثين عاماً منها مارس فيها الوصاية المباشرة على لبنان، ومن ثم نحو ثماني سنوات أجهض فيها انتفاضة الاستقلال وعاد إلى الوصاية تحت تهديد سلاح حلفائه تارة، وعبر الانقلاب على روحية الميثاق اللبناني تارة أخرى. إن أيّ قراءة لمكامن قوة النظام لا يمكن أن تتجاهل هيمنته على لبنان، ولا يمكن أن تتجاهل أثر هذه الهيمنة على وضعه الداخلي، لأن الوصاية على لبنان كانت طوال عهده نوعاً من الاستقواء المباشر على السوريين أيضاً.
ليس لبنان بالنسبة إلى النظام ورقة نفوذ إقليمي، هو بالأحرى مسألة وجود بكل ما تعنيه هذه الكلمة ومن ذلك أخيراً، وبخاصة في عهد الأسد الإبن، وجوده كحلقة وصل وحيدة بين نظام الملالي وحزب الله في لبنان. ففي زمن تصاغر النظام إلى وكيل لطهران بات يستمد أهميته، في نظر رعاته أيضاً، من كونه البوابة الضرورية على لبنان، وفي حال فقدانه لهذه الميزة سيفقد جزءاً أساسياً من وظيفته، ويفقد بالتالي أهم مصدر للدعم والرعاية، بل إن كل ما يُشاع عن مخططات إقليمية لتقسيم سوريا وإنشاء دويلة علوية، لا يخرج عن كونه مطامع للإبقاء على وجود تلك البوابة على لبنان، في حال سقط النظام في دمشق.
من جهة أخرى، ما كان لحكومة الميقاتي أن تستمر لولا إعلانها سياسة النأي بالنفس عما يجري في سوريا، فهذه السياسة تكاد تكون مطلباً لبنانياً عاماً، على رغم القناعة العامة أيضاً بصعوبة تجنيب لبنان آثار الحدث السوري. ومن الضروري التذكير بأن النأي بالنفس ليس إنجازاً يُسجل للحكومة لأنه كان الإنجاز اليتيم لآخر طاولة حوار رعاها الرئيس اللبناني. بخلاف ذلك كانت التطورات على الأرض تمضي حثيثاً باتجاه انخراط مقاتلين لبنانيين في حرب النظام في سوريا، ولم يعد بالإمكان إنكار تلك المشاركة بعد أن بدأت التوابيت في العودة إلى البقاع والهرمل وغيرهما، وقد لا يكون من المصادفة أن يتم الاعتراف بوجود مقاتلي حزب الله في أكثر من موقع سوري بُعيد استقالة الحكومة، أي أن الحدث الأخير كان مسوغاً للانقضاض جهراً على سياسة النأي بالنفس.
وإذ لا تخفي الجهات عينها أن حربها مع النظام هي حرب تتعدى الجغرافيا السورية، فهذا لا ينذر فقط بالانخراط الكلي في الحرب وإنما ينذر بتوسيعها لتطال استقرار لبنان أولاً. هذا التدخل الفظ، الذي قد يستجلب ردود أفعال من مقاتلي الجيش الحر، يرمي على الجبهة السياسية إلى تأليب اللبنانيين على الثورة وجرهم إلى خندق النظام. كأن ما حدث في حرب تموز يعود إلى الواجهة، ولكن هذه المرة عبر التحرش بالثورة السورية، لا بإسرائيل، بعد الحزم الذي أبدته القوى العظمى تجاه أي تصعيد على الجبهة الإسرائيلية. فالمشاركة الحثيثة في حرب النظام تتعدى دعم قواته في سوريا لتهدد مباشرة الاستقرار اللبناني، ولتضع اللبنانيين جميعاً تحت طائلة الحرب، ومن ثم تضعهم في موقع العداء مع الثورة، التي يُفترض أن تبشّر بنهاية نظام الوصاية الذي عانوا طويلاً منه.
على ضعفها وعلى علاتها أصبحت الحكومة اللبنانية حجر عثرة أمام مخططات النظام وحلفائه في لبنان وطهران، وهذا ما ينطبق على أية حكومة لبنانية تتوخى الحد الأدنى من لبنانيتها، لذا من المرجح ألا يسمح هؤلاء إلا بالفراغ السياسي الذي يسمح لهم بالعبث بالساحة اللبنانية من دون أدنى رادع. لقد أفشل بعض اللبنانيين مخططات التفجير الأمني رغم وجود حكومة تُعد موالية لنظام الأسد، فصار الفراغ الحكومي مطلباً لتعطيل ما اكتسبه بعض المؤسسات الأمنية في أثناء انتفاضة الاستقلال، خاصة بعد تعطيل طاولة الحوار الوطني مراراً وتكراراً من قبل الفريق ذاته.
منذ بدء عهد الوصاية لم تعد استقالة الحكومة حدثاً لبنانياً صرفاً، إلا أن دفعها إلى الاستقالة مؤخراً هو حدث سوري بالدرجة الأولى، فهو يؤذن بنقل الانقسام الحاد من الساحة السورية إلى نظيرتها اللبنانية. وعلى الرغم من أن كافة المعطيات تشير إلى “تلازم” معركتي الاستقلال في البلدين إلا أن الغالبية على الضفة السورية لا تتمنى انخراطاً لبنانياً مباشراً في الشأن السوري، ولا ترجو من اللبنانيين سوى المساعدة الإنسانية الضرورية في مثل هذه الظروف. لا أحد في معسكر الثورة يريد من اللبنانيين سوى التعاطف الإنساني والسياسي مع القضية العادلة للشعب السوري، فالجميع يقدّرون حساسية وهشاشة الوضع اللبناني، واستقرار لبنان في هذه المرحلة على قاعدة عدم التدخل المباشر في سوريا عامل مساعد للثورة السورية، وهذا ما يدركه النظام الذي لم تكن إقالة حلفائه للحكومة سوى إعلان حرب من قبلهم على السوريين واللبنانيين معاً.
بحد ذاتها ليست استقالة هذه الحكومة خسارة للبنانيين أو السوريين، فوجودها أصلاً كان بمثابة انقلاب على الحد الأدنى من التوافق اللبناني، غير أن إقالتها الآن تعني أيضاً استكمال ذلك الانقلاب الذي بدأ في السابع من أيار عام 2008.
المستقبل