استمرارية القطبية في ظرفها التاريخي.. ودعوة لنظر اعمق لحياة ‘المنظر’ الاسلامي
سيد قطب: حياة وإرث مفكر اسلامي راديكالي
ابراهيم درويش
يتعرض كاتب للتشويه وسوء الفهم مثلما تعرض لهما سيد قطب (1906-1966)، فلم يفهمه الاسلاميون الذين كتبوا عن تحولاته المتعددة، وشجبه الليبراليون الذين كان واحدا من اعلامهم في الحقبة الليبرالية الثرية في تاريخ مصر، ولم يفهمه الغربيون الا كونه صانعا للارهاب والتطرف الاسلامي، وابا للاصولية الاسلامية او الارهاب الاسلامي في المرحلة الحالية. وغاب سيد قطب في سير الاعلام الرسمية التي تكتبها الدولة لمبدعيها لان الدولة اعدمته بتهمة الخيانة والتآمر على الحكم فيها…
وقد ظل سيد قطب في كتابات الاسلاميين ‘الشهيد الحي’ قبل ان ينقلبوا على كتاباته بحثا عن معاني التشدد فيها في محاولة لابعاده عن تهمة التكفير التي اصابت عددا من قادة الاسلاميين الذين ذاقوا من سياط الجلادين في سجون عبدالناصر، وهناك من حاول تفسير اعماله الداعية للانقلاب والتغيير عبر مرآة السجن ومرارة التعذيب التي اصابته وزملاءه من الاخوان. ظلم سيد قطب من الاسلاميين مرتين، لانهم اساءوا قراءته ولانهم وقعوا في اسر ‘الجاهلية’ التي كانت عنوان مرحلته بعد تحوله للتيار الاسلامي وحاولوا عزله عن مرحلته الاولى التي بدأ حياته فيها ناقدا وشاعرا واديبا حيث كان من اهم الاصوات الادبية في فترة ما بين الحربين وبعدها.
جدل التقسيمات
فقد قسم الكتاب الاسلاميون حياته الى مرحلتين منفصلتين، الاولى الجاهلية والثانية الاسلامية التي كتب فيها اشهر كتبه واعظمها تأثيرا. كما ظلمه الكتاب الليبراليون العرب والغربيون عندما لم يركزوا الا على عدد من كتاباته التي الهمت جيلا من الجهاديين والناشطين الاسلاميين في كل انحاء العالم.وضمن هذه المفاهيم الجدلية والمتعددة، تعرض سيد قطب للشجب والتمجيد، حيث غابت صورته الحقيقية، فهو كما بدا في كتابات الغربيين خاصة في مرحلة ما بعد 9/11 لا يختلف عن ‘هتلر’ بل حاولت بعض المجلات استعادة بروفايل له على صورة الزعيم النازي، فيما تحول كما قلنا في نظر الاسلاميين الى ملهم و ‘الشهيد’ حيث كان اول مفكر اسلامي يقاد الى حبل المشنقة. ولكن الصورة الحقيقية لسيد قطب تكمن في التفاصيل الحقيقية لحياته وكفاحه ورحلته من بلدته موشا في قلب الصعيد المصري الى القاهرة التي تمثل الانفتاح والفكر والثقافة والسياسة، فعندما غادر سيد قطب بلدته في بداية حياته نحو القاهرة كان مدفوعا للعمل والنشاط من اجل اعانة عائلته واستعادة املاكها، حيث تراجع هذا الحلم لصالح احلام كبرى وابداعية تحول فيها الى منظر للاسلاميين ومفكرهم او لنقل المنظر الاسلامي الوحيد في فهوم هؤلاء ‘الحركية’. وبدلا من الصورة التبسيطية التي تقدم لسيد قطب والتي تتخذ بعدا واحدا لتطور فكره، فحياته تقدم صورة عن شخصية معقدة، ولكي نفهمها يقتضي منا البحث العلمي الموضوعي وضعها في سياقها التاريخي والاجتماعي، وضمن التحولات الهامة التي كانت تمر فيها مصر في العقود الاربعة من القرن العشرين والتي قدمت فيها افكار جريئة سواء على مستوى الاصلاح الديني والاجتماعي او الادبي. ففي فترة ما بين الحربين تصارعت على ‘فكرة’ مصر قوى حاول كل فريق فيها تحديد هوية مصر، تماما كما يجري اليوم على الساحة المصرية، فقد جرى الجدل حول هوية مصر التاريخية- الفرعونية والعروبية والاسلامية والغربية، وكل فريق حاول الانتصار لرؤيته، ولا غرو ان الرؤية العروبية الاسلامية انتصرت في مرحلة ما سواء بفعل انتشار التيار الاسلامي المنظم للاخوان المسلمين الذي قام على تراث المدرسة السلفية المصرية، ولا بد هنا التفريق بين سلفية الافغاني الثائرة والسلفية الحالية الداعية الى نصرة ‘ولي الامر’ حتى ولو كان ديكتاتورا، فسلفية عبده تلميذ الافغاني وان انحرفت عن اطارها العام الا ان الاخوان المسلمين او قل حسن البنا واصل تراثها بطريقة او بأخرى وان كان بنسخة سلفية معدلة على طريقة رضا. وبالعودة لفكرة مصر فقد اثرت ظروف الحرب العالمية الثانية والكساد العظيم قبلها على تحولات في كتابات عدد من رموز الليبرالية حيث تحولوا في مرحلة ما للكتابة في الموضوعات الاسلامية ولتصبح هذه الكتابات عنوانا لهم، فقد نزع عدد من كتاب المرحلة ورموزها للتجريب والكتابة في الموضوعات الاسلامية حيث سمى تشارلس سميث محاولات كتاب ليبراليين العودة الى الجذور الاسلامية والكتابة عنها ‘ازمة تكيف’ في مقاله عام 1973. وايا كانت محاولات هذا الفريق والتي تضم اعلام الليبرالية في مصر من طه حسين ومحمد حسين هيكل الى العقاد وتوفيق الحكيم، حقيقية في بحثها ام مجاراة للتيار فانها تعبر عن تمظهرات ونقاشات حول الهوية المصرية.
ابن المرحلة
وقد كان سيد قطب ابن هذه المرحلة التاريخية وفي مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية اصبح واحدا من اهم النقاد في مصر، وكانت في جعبته انجازات شعرية وروائية وسياسية، مهما حاكمها النقاد ،وكان موقف مجايليه منها خاصة التجربة الشعرية. ولكن سيد قطب تأكد موقعه في المشهد الادبي المصري لدأبه اولا ولعلاقته مع شخصية ادبية ظلت تحوم حوله حتى نهاية الثلاثينات قبل ان يتخلص من ظلها وهي العقاد الذي كان بمثابة الاب الروحي له، وهو الذي فسح له المجال للازدهار والتطور ولكن في حدود معينة، وعليه كما ناقش كتاب عرب، فقد خاض سيد قطب نيابة عن العقاد معارك ضد اتباع الحركة الشعرية ابولو، وضد دعاة الكلاسيكية الممثلين بمصطفى صادق الرافعي، وضد دعاة ربط مصيرالشعر بالحداثة الغربية وهو ما دعا اليه طه حسين. لكن سيد قطب الذي مشى مع العقاد في خطواته الادبية وقلده في انتماءاته السياسية حيث غير دعمه التقليدي لحزب الوفد الى الحزب السعدي الذي انشأه ابراهيم عبدالهادي بعد انشقاقه عن مصطفى النحاس، قبل ان يتخلص نهائيا من سحر العقاد. وقد قيل الكثير في العلاقة بين العملاق والتلميذ، حيث حاول البعض ربط تحولات سيد قطب في مرحلتها الاخيرة بنزعة التمرد والغضب على الاستاذ الذي رفض الاعتراف بشاعرية التلميذ، ويمكن فهم هذا ان قطب قرر التخلي عن كتابة الشعر نهائيا لصالح النقد والدراسات القرآنية في مرحلة ما بعد الحرب الثانية.
رحلة اكتشاف
وبدلا من رسم نموذج المتمرد لقطب من الافضل قراءة حياته على انها رحلة اكتشاف وتحول، وانتصار لجذوره الصعيدية التي ظل متشبثا وفخورا بها. فابن موشا لم ينس جذوره الريفية على طريقة ‘ابن البلد’ الذي يخلع عمامته ويرمي نبوته عندما يصل الى ام الدنيا. كان قطب استاذا ومفتشا عمل 34 عاما في وزاراة التربية وقيل انه بعد ثورة الضباط الاحرار كان يطمح لان يكون وزيرا للتربية لكن الجهود لتعيينه فشلت وهو ما دعاه الى الاستقالة من منصبه على الرغم من معارضة مسؤوله في الوزارة، وقيل ان تحولات للاخوان جاءت بعد سفره للولايات المتحدة التي اختلفت التفسيرات حول سببها ودواعيها هناك، وما عقد مهمة البحث في اصدائها هي المقالات التي كتبها قطب في مجلات مصر الادبية ورسائله الى اصدقائه خاصة انور المعداوي التي رسم فيها صورة قاتمة للحلم الامريكي، وعبر فيها على خلاف ادبيات المواجهة بين الشرق والغرب عن تشاؤم من العالم الامريكي حيث صور نيويورك بانها مسلخ العالم، وانتقد الفراغ الروحي والمادية الامريكية. وقد قيل الكثير عن الاسباب التي دعت قطب للسفر لامريكا، سياسية ام ديماغوجية، ام رحلة تعرف واكتشاف والراجح انها محاولة لابعاده عن مصر لفترة بعد ارتفاع صوته في النقد للدولة وسياساته. وقد جاءت في الوقت الذي تأكدت فيه الرؤية الاصلاحية الاسلامية عنده وان انتصرت جذوره القرآنية في موشا، حيث وجد نفسه وهو الذي حفظ القرآن في سن العاشرة مدفوعا للبحث وان برؤية ادبية جمالية- علمانية تقترب اولا من النموذج الذي اتبعه حسين وعلي عبدالرازق عن المناحي الجمالية في القرآن الكريم والتي برزت في كتابيه ‘التصوير الفني في القرآن الكريم’ و ‘مشاهد القيامة في القرآن الكريم’ وكلا الكتابين محاولة للتفسير على المستوى الجمالي بعيدا عن المستوى التشريعي للقرآن وهي محاولة كان يمكن ان تضعه في مشاكل لانها لا تختلف عن محاولات ادباء اخرين حاولوا التعامل مع القرآن كنص بياني معجز بعيدا عن محتواه التشريعي. وقد وجد قطب نفسه مندفعا للنص القرآني ويبتتعد شيئا فشيئا عن اهتماماته النقدية مع انه نشر رواية في هذه المرحلة ودافع عن نتاجات كتاب وروائيين من اهمهم نجيب محفوظ. ويبدو ان قطب قد انجذب اكثر نحو الدراسات الاسلامية كمفكر مسلم وليس كناشط واهتم بعد مرحلته الجمالية بالبعد الاجتماعي في الاسلام. ومن هنا فالعودة الى كتبه الاولى عن الاسلام او ما يعرف بالمرحلة الاسلامية تعطي فكرة ان سيد قطب كان مشروع مفكر بل ومفكرا حقيقيا وليس ناشطا، وكان مفسرا للقرآن وحركة الاسلام في التاريخ اكثر منه قائدا، وكما تشير احداث حياته الاخيرة والتنظيم الذي اتهم بقيادته فقطب كان ينظر للتغيير على الصعيد الفكري والنظري منفصلا عن واقعهما العملي، ولكن الاحداث كانت اكبر منه ولم يكن قادرا على منع اتباعه او اعضاء دائرته المتأثرين بفكره من الوصول الى السلاح ووضعه في يد التنظيم السري. فما بدأ كحلقة دراسية في السجن ومحاولة لتوسيع برنامجها لخارجه تحول كما تقول الدولة الى محاولة انقلابية وانتهى قطب واثنين من قادة التنظيم على منصة الاعدام.
فيلسوف الارهاب؟
كل هذا يجعل من سيد قطب شخصية مثيرة وجذابة للقراءة والتفسير، خاصة في الغرب الذي قدمه كعميد للارهاب وداعيته، كما بدا في مقال بول بيرمان الذي كتب بعد هجمات ايلول (سبتمبر) 2001 مقالا في ‘نيويورك تايمز ماغزين’ تحت عنوان ‘فيلسوف الارهاب الاسلامي’، وكذا مارتن ايميس عام 2006 في ‘اوبزيرفر’ البريطانية ‘عصر الارهاب’ وبيتر اورين في ‘الغارديان’ 2001 ‘هل هذا هو الرجل الذي الهم بن لادن’ ولورنس رايت وكريستوفر هيتشنز ممن ركبوا قطار ‘الوطنية’ واخذوا يحللون ابعاد التهديد الاسلامي، وكلهم حملوا قطب مسؤولية الارهاب العالمي، حيث غاب في التفاصيل كما يقول جيمس توث في كتابه الجديد الصادر عن دار نشر جامعة اوكسفورد ‘سيد قطب حياة وإرث مثقف اسلامي راديكالي’، الحديث عن تنوع وجوه وانجاز وتراث سيد قطب الكاتب والاديب والمربي والاصلاحي والمتشدد المدمر، والديمقراطي الاجتماعي، ومفكر لاهوت التحرير. فقطب الذي دعا للحذر والتعليم لحل مشاكل وامراض المجتمع اضاء للاخرين شعلة الجهاد. ويقول توث ان قطب كان كاتبا غاضبا على المؤسسة واعتذاريا لمن هم في السلطة في نفس الوقت. وكان شخصا يتمتع بإرادة قوية ولكنه عانى من الامراض طوال حياته، وكان يحب والديه ومع ذلك ظل وحيدا طوال حياته، ولم يجرب من الحب الا قصة وحيدة باءت بالفشل وسجل ملامحها في روايته ‘اشواك’ على ما يتفق كتاب سيرته وما اكثرهم. وكما اشرنا بدأ قطب حياته حداثيا يدعم مدرسة الديوان وافكار استاذه العقاد وانتهى في احضان الاخوان خاصة بعد عودته من امريكا التي فرحت لاغتيال حسن البنا. واهم ملمح في كتاباته وحياته هو عداؤه للامبريالية الغربية امريكا والغرب والروس، وكذا حنقه على النخب المصرية التي قلدت الغرب في كل شيء. ومن هنا فقراءة حياة قطب مثل قراءة اي مفكر اسلامي حديث عادة ما تقود الباحث للافتراض انه كاتب متناقض يقدم رؤية متناقضة ولا يمكن النظر اليه عبر نص او نصوص منسجمة مع نفسها وهي نظرة يراها نداف سفران في قطب وغيره. ولكن ما يفشل الكتاب الغربيون في فهمه والتعامل معه هو قراءة كتابات الاسلاميين على انها نتاج وقتها وانها جاءت كرد فعل على احداث كانوا هم شهودا عليها يحللونها ضمن التزامهم الفكري بالتغيير، سواء كان هذا تدريجيا ام انقلابيا. وعليه فحياة قطب لا تختلف عن حياة اي كاتب جرت عليها تحولات عدة فقد بدأ علمانيا وطنيا مصريا وكاتبا سياسيا واديبا ثم تحول تدريجيا لدراسة القرآن والاسلام وانتهى منظرا اسلاميا في ظل الاخوان ثم شهيدا. وما يهم في هذا التدرج انه في كل مرحلة من مراحل حياته لم يتجاوز انجازه الماضي، اي لم ينفصم عنه اويتحلل من رقبة ‘جاهلية الحداثة’ الى ‘حركية الاسلام’، فقد ظل ذلك المفكر العضوي المنشغل بهموم مجتمعه ومرتبطا بالعالم وقضاياه ومستقبل الاسلام، يستخدم نفس الادوات وان بتركيزات مختلفة، فغضبه على الواقع السياسي واخطاء الحكومة والغطرسة البريطانية ظل معه في مرحلته الاسلامية.
روائع قطب
وقد استطاع قطب كما يقول توث ان يحدد ويعرف الحركة الاسلامية في كتاب بعد كتاب، حيث يعتبر كل كتاب ‘جوهرة’ في حد ذاته، اي في شرحه ودعوته واقناعه، ذلك ان قطب ‘ دعا الى دور اجتماعي- سياسي قوي للاسلام’ ليس من اجل العالم الاسلامي ولكن للعالم، فتكراره الهادىء والدائم على عالمية الاسلام جعلت ‘الاسلامية’ المنافس القوي للحداثة الغربية التي رأى فيها قطب وغيره تعبيرا عن البروتستانتية المسيحية والتي جرى فرضها على العالم من خلال الامبريالية. ويلحظ ان القارىء لتراث سيد قطب يكتشف تنوعات وتأكيدات مختلفة تعبر عن موقف متعدد ورؤى مختلفة ولكن ليست متناقضة، خذ مثلا كتاب ‘معالم في الطريق’ الذي تم الاحتفاء به في الغرب على انه ‘انجيل’ الحركات الجهادية وبيان الثورة الداعية للتغيير والانقلاب على المجتمعات الجاهلية في العالم الاسلامي، وهو كتاب يختلف عن ‘ الاسلام والعدالة الاجتماعية’ الذي انهى مخطوطته قبل سفره لامريكا وصدر اثناء وجوده هناك. ويمثل هذا الكتاب رؤية اصلاحية اجتماعية معتدلة وبحثا في النظام الاجتماعي في الاسلام، وقد حظي الكتاب باهتمام الاخوان المسلمين، وفي تحليل ويليام شيبرد لطبعاته التي صدرت من نهاية الاربعيينات الى ما بعد ثورة الضباط الاحرار لاحظ فيها انسجاما مع تحولات قطب من المفكر الاسلامي المستقل الى الملتزم في تيار الاخوان. فقد عمل قطب مع الاخوان قبل ان يقرر الانتماء اليهم وكان هذا بسبب علاقته مع صالح عشماوي. وعندما انتمى للاخوان لم يقف في اثناء الازمة الداخلية في الاخوان الى جانب صالح عشماوي بل ودعم تيار المرشد حسن الهضيبي. وحتى عندما قرر سيد قطب تحديد موقفه الايديولوجي فانه اشتغل في القسم الاعلامي للاخوان دون ان يكون ‘اخا’ ملتزما، ويفصح كتاب توث عن الطريقة التي تطورت فيها علاقة قطب مع الضباط الاحرار ثم ساءت وانتهت لقطيعة وسجنه الاول وهي الفترة التي بدأ فيها رحلته مع القرآن، فقد بدأ قطب تفسيره على شكل حلقات نشرتها مجله ‘المسلمون’ في تموز (يوليو) 1952 ولفتت الحلقات دار ‘احياء الكتب العربية والتي وقعت معه عقدا لمواصلة التفسير ونشره في كتاب كامل، ولعل هذا العقد هو ما سمح لقطب مواصلة التفسير حيث قدمت الدار دعوى قضائية ضد الحكومة التي منعت قطب من الكتابة وانتهت القضية لصالح الدار حيث سمح له بمواصلة التفسير. ويرى توث ان تفسير ‘ظلال القرآن’ يظل ‘ماغنوس اوباس′ ( العمل الاعظم/الاهم) لسيد قطب، وهو من الاعمال المثيرة التي قام بكتابتها في ظروف السجن الصعبة في ليمان طرة، وهو النص الذي يطلق عليه اوليفر كاري ‘النص- الايقونة’، وهو النص يقبل عليه ويقرأه المؤمنون فان كان كتابي معالم في الطريق والعدالة الاجتماعية في الاسلام من اهم الكتب المقروءة لقطب في عالم الغرب، فظلال القرآن وبدون شك من اكثر الكتب قراءة لقطب في العالم الاسلامي. ويحكى في هذا السياق ان دور النشر في لبنان كانت تلجأ لطباعة ‘في ظلال القرآن’ عندما يكسد سوق كتبها، هذا ما قيل. طبعا يعتبر قطب من اكثر الكتاب الاسلاميين الذين تم التطاول على كتبهم وطباعتها في طباعات مسروقة او حتى اصدار كتب باسمه بعضها تجميع لمقالاته او مستلة من كتبه وحظيت مع ذلك بقراءة واسعة، هذا قبل ان تتوصل عائلته، شقيقه محمد قطب لاتفاق مع دار الشروق المصرية كي تصدر الطبعات الرسمية لكتب قطب. وما يهم في تفسيره ان قطب انتقل الى مرحلة جديدة في الكتابة واصبحت مرجعيته اسلامية صافية من ناحية الاعتماد على المراجع والكتب على خلاف مرحلته الادبية التي اعتمد فيها على مرجعيات ادبية غربية، مترجمة، ولكن قطب اخذ من كتاب جنوب آسيا الاسلاميين افكارا عن ‘الجاهلية’ و’ الحاكمية’ وهذه وغيرها ستعلم فكر قطب وتأثيره على الاجيال الاسلامية. ما يهم في كتاب توث هو تحليله لافكار وملامح تجربة قطب الاسلامية وربطها بماضيه الحداثي وعدم تفريقه بين المرحلتين، كما يفصح الكتاب عن وعي بأهمية الافكار واستمراريتها خاصة فيما يتعلق بمفهوم الدولة عن قطب والجهاد، والحاكمية والجاهلية، ثم ما طرأ على افكار ‘الشهيد’ الحي، حيث جاء اعدامه بناء على وثيقه واحدة وهي ‘معالم في الطريق’، وباعدامه استشهاده انضم قطب الى قائمة الاسماء التي دافعت عن الاسلام باعتباره فكرة وحركة، ولكن وفاته جاءت في وقت تحولت فيه الدولة المصرية الى الطرف الاوحد في تقديم تفسيرات احادية الجانب ومشوهة عن الحركة الاسلامية. وهذا يقودنا لحاضر الاسلاميين- الاخوان الذين ظل قطب حاضرا في حركتهم.
استمرارية الفكر القطبي
والقارىء لكتاب توث يرى ان قطب وارثه ظل مستمرا بدرجات معينة في الفكر الاخواني، فعلى الرغم من التحولات الفكرية للاخوان وبرنامجهم السياسي بعد الثورة والمختلف جذريا عن برنامج عام 2007 الا ان الحركة ظلت منقسمة بين تياري التشدد اوالالحاح على ارث قطب والاعتدال والقبول باللعبة السياسية وشروطها. ويقول توث ان وصول محمد بديع عزت، لمكتب الارشاد يعتبر تقدما للبرنامج الذي تمثله افكار قطب. ويقول توث ان ارث قطب مستمر على الرغم او ربما بسبب تقدم الحداثة، لان قطب هو الرجل الذي حلل وبلور وشرح الكثير من الافكار التي اسست للحركة الاسلامية المعاصرة، واصبح العدسة المكبرة التي سلط الضوء من خلالها على نقطة واحدة، وهي جمع كل تيارات الفكر والعمل وتجميعها في بوتقة واحدة، وعبر عن الغضب والغيظ وترجم كل المواقف الخاطئة وغير عن الاسلام، وطلب من المسلمين التخلي عن تقليد الغرب والتغلب على الجهل بالاسلام والعودة للظروف والمبادىء التي جعلت من الاسلام متميزا ورائعا ودينا يفتخر به. فقد اقتنع سيد قطب بعد رحلة من التجربة والخطأ والتجريب ان الاسلام الايديولوجية الاولى التي تعلمها صغيرا هو في الحقيقة هو الدين الافضل والصحيح. وختم توث بالقول ‘الان وبعد 50 عاما من موته، يحاول ورثته بتحقيق رؤيته باقامة حياة اسلامية حقيقية في مصر’ ، والغريب ان ورثة سيد قطب الان يواجهون نفس السيناريو الذي واجهه من قبل منظرهم، وهو الاستبعاد والحرب والاعدام، ففي 29 آب (اغسطس) 1966 تقدم سيد قطب نحو حبل المشنقة ليصبح كما قلنا اول منظر اسلامي يحكم عليه بالاعدام وينفذ فيه من قبل الدولة، حيث تأكدت شهادته. واليوم وبعد اعوام من الضياع في اقبية السجون والمواجهات التي ابتدعها انصار قطب او اجبروا عليها مع الدولة، وسنوات من العمل السياسي والوجود الملتبس وبعد عام على حكمهم لمصر يجد الاسلاميون- ورثة قطب منهم- انفسهم في مواجهة جديدة مع الدولة. وهذه المرة ستكون تداعياتها اكبر ليس على مصر ولكن على المنطقة العربية ومستقبل الاسلام السياسي. فهل سيعود ‘النبي المسلح’ كما يحلو للمنظرين الغربيين وصف الاسلام السياسي المتشدد للقتال، وهل ستكون رابعة العدوية والنهضة ومسجد الفتح وعزل محمد مرسي بداية لمعركة مفتوحة؟ وهل سيعود القطبيون الذين جربوا التعايش مع صندوق الانتخابات الى المواجهة، مصر على ابواب مرحلة جديدة بالتأكيد. وما يهم في النهاية ان كتاب توث مختلف في شرحه لحياة قطب وافكاره وفيه دعوة لفهمهما في سياق التاريخي، والسؤال لماذا تصر مصر والنخبة التي تقود صناعة الافكار على فكرة ‘حظر الجماعة’؟
Sayyid Qutb
The Life And Legacy Of A Radical Islamic Intellectual
By: James Toth
Oxford University Press.
Oxford- 2013
القدس العربي