اصبح عندي الآن بندقية الى حلب خذوني معكم
عبد الحميد عبود
أنا غاوي أفلام أكشن ، أنا كاتب كاسد برتبة مقاتل ، أنا مجنون ولكن بشكل عاقل ، أول ما وصلت حلب ناداني ثوار الجيش الحر “حجي” وحين عرفوا اني أكتب نادوني “أستاذ” وحين طالت ذقني نادوني ” شيخي”، حين عرفوا اني رامي قاذف آربي جي نادوني “معلم”، رغم ان معلميتي تقريبية، ، انتبهنا إلى ان وجبة الطعام ليست من عصيدة “المأمونية” بل من الدجاج والرز والمُعصفر ففهمنا من هذا الدلال ان علينا التهيؤ للمصاعب ، الانتقال من الخطوط الخلفية للأمامية ، تسللنا في نزهة مخيفة في الشوارع المقفرة ، كأن هولاكو مر من هنا بعد 750عاما من مروره الاول ، الموت ينز من حلب ، من قلعة حلب ، من إكسْ عدسة التصويب في بندقية القناص ، من القذيفة العشوائية ، حلب مدينة أشباح ،لا أضواء ولا ضوضاء ،والصمت له أنياب وأظافر ، ما أشهى منظر الدمار لرجل لا يملك شيئا، المدينة برمتها منذورة للخراب ، كل أحيائها صارت تتشابه بسبب الدمار والركام ، بستان القصر ، الشعار ، سيف الدولة ، الزبدية ، ثكنة هنانو ، السكري، حي الإذاعة ، صلاح الدين ، قرب مخبز الذرة ثمة اعلان بيان صادر عن الجيش الحر يمنع منعا باتا شراء خبز بأكثر من 50 ل س للعائلة الواحدة ، وذلك تفاديا لافتعال أزمة، توقفنا قرب مسجد شيط ( خط التماس ) مر احد سكان الحي من قربنا وحّيانا “الله يحميكم” يقيناً فإن نفس الرجل سيمر بعد خطوات على حاجز الجيش النظامي ويقول لهم “الله يحميكم وينصركم “، حلب تتأقلم كما تستطيع مع الأمر الواقع ، بعضهم لا يميز الثوار من النظاميين فيغلط ويشطح لسانه ويقول للثوار “الله يخلصنا من الجيش الكر والارهابيين ” عسكرنا في الطابق الرابع من عمارة مشرفة ، رابطنا بين ظلام الليل وزمجرة الدبابة، من بركات الحرب انها كلها لعنات ، تعطيك بعضا من قلقها وتأخذ شيئا من طمأنينتك ، تبقيك في مجال التوحد والتركيز والتقشف والإيثار والمقاومة الداخلية، تضعك وجها لوجه أمام وجهك ، استثنائيتك ، ذاكرتك المشاغبة ، هواجسك المقلقة، ماذا لو دخلت قذيفة من هذا الحائط ؟ من الطرف القبلي ! من السقف! الموت مسألة التقاء صدفتين ، ان تعبر رصاصة من مكان ما وأن تعبر انت من عين المكان ، رصاصة القناص دائما غادرة لأنها تأتيك من مكان مجهول ، قائد المجموعة ابو حفص قال لنا كونوا كالشيشان يقاتلون حتى الموت ولا ينسحبون ، لكن معظم الشباب يريدون ان يكسبوا الحرية دون ان يخسروا حياتهم ، ويفضلون البقاء أحياءاً لأطول مدة ممكنة ، أنا من جهتي مصمِّمٌ على إهلاك نفسي ولكني غير مستسلم لهذا التصميم ، لا أبحثُ عن الخلود بل عن استنفاذ حدود الممكن ، لا أريد الموت لأنه ليس لدي شيءٌ ضد الحياة ، أريد فقط ان أقترب اكثر ما يمكن مع العالم الآخر ، وسأبقى حيا لأني لا أريد ان أكون البطل الذي يموت من الصفحة الأولى ، ثم كيف أموت وتلك النجمة في السماء وصمة لأبديتي ؟و حتى لا أختص وحدي بدور دونكيخوتي قررتُ ان أتقاسم دور البطولة مع السانشو بانزا (ت) المتطوعين ، اقترحتُ عليهم ان أدربهم على الرمي بالقاذف فتوجسوا ، القاذف سلاح خطير ، صوته مهول ، قلت لهم ” وحياتكم ما في أهون من الرمي عليه، هي القذيفة الأولى المرعبة لأنها تصم الأذنين، اما صوت القذيفة الثانية فيشبه العزف على الكمنجة ، الرماية لأول مرة على القاذف تشبة ليلة الدخلة ، تظنها مرعبة وهي عسل” وهنا تجاوب الشباب مع التدريب، هذه ليلتي،قذيفتي الأولى وحلم حياتي ، الحرب والحب صنوان وكلها معارك سواءا على السرير أو على الجبهة ، بين الحب والحرب راء بحجم الرعشة ، بما ان أغلب المتطوعين عُزاب فقد حدثنا أبو حفص عن جزاء الشهيد في الجنة، وكيف يحظى ب 72 حورية من الحور العين ، سألته “اذا كانت شهيدة فماذا ينتظرها ؟” فرمقني بعين وهابية صارمة وقال “الله يرزقها” هكذا تفوه يوحنا فم الذهب ولم يقل كم حوريا يرزقها، يا لكيد الرجال ! يا لمكر اللغة ! صلينا جماعة وجمعنا كل صلاتين معا واقتصرنا في الركع، ابو حفص أمّ الصلاة وتلى سورتي الفتح والقارعة ( الحرب هي القارعة وخاتمتها الفتح )، الحرب مش لعبة ولكنها معمودية الرعب والمرة الأخيرة ، عركت المعركة قصفا شديدا ومركزا من الدبابات المتمركزة قرب الاذاعة ، من القناصين اللاطين في مبنى العجزة ، من مدرسة المدفعية في “الراموسة” ، أطلقوا الرصاص غزيرا علينا فرد الشباب برشقات طويلة من “الله اكبر” و” سيدنا محمد قائدنا للأبد “، إحذر ان تموت وأنت على قيد الحياة، بأن تفقد مصدر الطاقة وهي الثقة بالنفس، الموتُ قريب بما فيه الكفاية كي لا أرتاع منه، ان تسمع صوت القصف دليلُ حياة فالقذيفة التي ستقتلك لن تسمع صوتها، القصف بعد طول مدة صار موسيقى سمفونية، لم أعد أنقز ولم أعد ألطي ، صارت القذيفة تنفجر قريب ولا أبالي ، تأقلمتُ مع الرعب حتى لم يعد رعبا ، سقطت قذيفة علينا ، عرضية ، الله ستر ، مفيش ضحايا سوى القط هارون ، أُصيب بساقيه الخلفيتين فأخذ يلعبط ويموء قبل ان يجهز أحدهم عليه برصاصة الرحمة ، أبو حفص شغّل الجوال على أنشودة “نحن جندك يا أسامة “، الحرب تُكْسَب بطبول الحرب ، الحرب لا تحتاج للشجاعة بل للمجالدة ، الحرب كر وفر لكنها قبل كل شيء مسألة إمكانيات، أمسينا محاصِرين وأصبحنا مُحاصَرين ، القناص الشبيح ماسك الشارع ولا يدع قطة تعبر ، في لحظات التسامي تحس ان الثوار أبطال وفي لحظة الشدة تدرك انهم بشر ، مع خيوط الفجر انسمع صوت محرك دبابة تتحرك باتجاهنا فَنُودي علي ، الآر بي جي تورط وتوريط ، ماذا يفعل اللحم العاري أمام دبابة تي 82 ، هذه الكتلة الفولاذية الملعونة حين تغضب تبعثر لعناتها على الكل ، الشباب عندما تكون معنوياتهم مرتفعة يقولون “أحرقنا الدبابة بالمولوتوف” ، وعندها تطحش عليهم يقولون “لا تؤثر فيها قذيفة الآربي جي “،وللحق فإن هذا القاذف المصدئ سلاح عفى عنه الزمن وهو مضاد لدبابة ت 42 وليس ، ت 82 ، خطوتُ أعسر خطوات في حياتي في المجال الحيوي للرعب ، الرعب ،ببهجته التلقائية ونشوته الصوفية ، المنية الحتوف ، العدم المُعَلّب ، و كل الأشياء التي هي داخل الحلم ، إنه لشعورٌ فريد أن يتفرد المرء بوحدته في مواجهة وحشة النهاية المصيرية، بوووم ! وشعرتُ بشحنة من التوتر العالي تمر في صدغي، لم أصب الهدف بسبب العتمة مع ذلك فإن الشباب ( الذين لم يشاهدوا المشهد) كبّروا وأصروا على اني أعطبتها ، كبرتُ في عيونهم وصغرتُ في عيون نفسي فقد أهدرتُ خمسين ألف ليرة سوري( ثمن القذيفة) وكان عزائي الوحيد اني جعلت الدبابة تتراجع وتطفئ المحرك لا أكثر ،اذ راوغني صوتها من جديد ، يا الله شعبك أعزل يا الله ، نحن وحدنا ولا ذخيرة كافية ، اخذنا نبحث عن ذرائع للانسحاب، المعنويات يوك وثمة من ربط يده السليمة بضمادة وعلقها برقبته ليظهر انه معطوب، في لحظة الشدة يكون القرآن هو الملاذ الحقيقي للمتدينين وتكون السيجارة ملاذ المدخنين، تمنينا لو يستشهد شهيد او يصاب جريح لننقله إلى النقطة الطبية ونبقى معه ، الشباب اذ يعجزون عن إنكار الواقع يرددون عبارة “حسبي الله ونعم الوكيل “،( هذه هي العبارة الأكثر شيوعا على ألسن المتطوعين ) هكذا يتحايلون على قلة الحيلة ،يقحمون الله في المعركة باعتباره المعادل الميتافيزيقي للدبابة ت 82 والميغ 27، لكن الله في السماء بعيد بعيد ، والجيش النظامي على الأرض قريب قريب ، صرنا كلما اشتد القصف نهبط طابقا حتى رابطنا بالطابق الأرضي حيث لا تصل قذيفة الدبابة ، عندما تنطفئ أعيننا يصحو كلّ شيء ويبدأ ، عاد الهدوء لكن حتام ؟ استراحة المحارب هدنة قصيرة لِشَدْ الحيل ، تحمّمتُ وغسلتُ ثيابي الداخلية والخارجية ولبستها مبللة ، عدّلتُ مزاجي بفنجان قهوة ، أشعلتُ سيجارة ثم ثانية ثم ثالثة ، ثم اكتشفت اني رجعت للتدخين ، دوّنتُ عدة ملاحظات في كراسي ، سقيتُ كل الزّريعة الناشفة ، فتحتُ علبة فول للقطة الهزيلة ، وقعتُ على العدد الأول من مجلة “جسد” ما أحوجنا لشيء من الجسد وسط هذا الموات ، ما أحوجنا لقليل من جُمانة حدّاد وسط هذا الحِدَاد، جو المعارك ذكوري بشكل مزدوج ، مرة لأنه شرقي ومرة لأنه حربي ، فكرتُ طويلا ب ” لور ” تذكرتُ في خضم الحرب اني أحبها، وإني مشتاق لها شوق بحّار إلى عشبة خضراء ، انتبهتُ إلى اني هنا من أجل جسدي ، كيف أفهمكم هذا ؟ المغامرة (الحرب) تعيد قولبة الجسد ، الهدوء دائما نسبي وسرعان ما تتبعه العاصفة ، طاخ طاخ بووم إلى ما شاء الله ، إيقاعات على وتر واحد، يبدو ان في جعب جنود الأسد ذخيرة وافرة ويريدون تبديدها بكل السبل وخاصة على سبيل يا رب تجي بعينه ، لقد مللنا من هذا المزاح الثقيل، زهقنا من الحروب الصغيرة ، خمس أيام مرابطة في بوز المدفع ، لم نعد نميز أيام الأسبوع ، لم نعد نميّز رقصة هز الخصر من المارش العسكري ، حسناً ،إنها مسألة نافلة ان ننسحب ( تكتيكيا) من زقاق في سيف الدولة ولا سيما اننا ربحنا ثكنة هنانو ، فالمعادلة هي حرب استنزاف من جهتنا وأرض محروقة من جهة النظام، لقد احترق كل شيء في حلب وهذه هي علامة احتراق النظام ، النظام يحفر قبره بيده ، فكل رصاصة يطلقها على الشعب يطلقها على نفسه،
ختاماً أستطُردُ بعيدا عن ميادين القتال (وبناءا على ما عاينته بميادين القتال) لأقول: ما أشد التشابه بين زين الدين بنعلي والأسد ! ومع ذلك فقد رحل الأول بعد أسبوع وبعد سقوط 800 ضحية ولم يتزحزح الثاني بعد عشرين ألف جنازة ، إذن ما أشد الفارق بين تونس وسوريا ! تونس سنية على المذهب المالكي بنسبة 99 بالمئة وليس للثورة فيها خلفية مذهبية كما هو الحال في سوريا حيث الأحقاد تستلهم التاريخ وجراحاته التي لم تندمل ، بدئاً من يوم السقيفة، مرورا بمعارك صلاح الدين في الساحل السوري، وانتهائا بالحركة التصحيحية ، الحرب في سوريا طائفية وأتحدى من يقول العكس ، أتحدى أتخن شنب ، إنها أولا حرب علوي سني ، وثانيا هي حرب طبقية ، فقراء ضد أغنياء ، في باريس كنتُ أعاين ان معظم الذين يتظاهرون لنصرة الثورة السورية هم من المثقفين والأغلبية منهم علمانيون ، أما على الجبهة فقد عاينت ( بأم عيني )ان الأغلبية من الشعب وكلهم سنيون متدينون ، ستبدي لكم الأيام ان ما وقع في أوروبا منذ خمس قرون واقع لا محالة عندنا (مع حفظ الفروقات) كل المعطيات تشير إلى اصطدم الهلال الشيعي بالقمر السني ، والمؤسف هو ان السوريين وحدهم يدفعون فاتورة هذا السعير بينما يقبض الخليجيون الفاتورة ، ولا غرو فالمعادلة لم تتغير منذ عام 1948 كلما رخص الدم العربي يرتفع سعر النفط الخليجي، بإمكان سوريا ان تحترق ، بإمكان سوريا ان تتفتت كرمى لعيون طويل العمر .