اصوليتان: سياسية ومذهبية!
ميشيل كيلو
هل يمكن مقاومة الأصولية المذهبية أو الدينية بسياسة مناهضة للمجتمع المدني وللحريات الفردية والشخصية وسيادة القانون؟ بالمقابل، هل يمكن مقاومة الأصولية المذهبية بسياسة ميدانها وحاملها المجتمع المدني: مجتمع المواطنة والحريات؟. أظن أن الجواب على السؤال الأول سيكون بالنفي وعلى الثاني بـ’نعم’ قاطعة.
هل يعني هذا أن الأصوليتين الدينية والسياسية ستواصلان تقدمهما الراهن في المجتمعات العربية، إن اقتصرت مقاومتهما على النظم السلطوية الراهنة، وبقي المجتمع المدني: مجتمع المواطنين الأحرار، غائبا أو مغيبا، مكبوتا ومطاردا ومضطهدا؟. إن الرد سيكون هنا أيضا بـ’نعم’ صريحة: إذا استمرت النظم السلطوية الراهنة، سيكون من المحال تماما نجاحها في إطفاء الأصولية المذهبية والدينية، خاصة إن هي واصلت كبح وكبت المجتمع المدني : مجتمع المواطنة والحرية، مثلما فعلت في معظم بلداننا العربية خلال قرابة نصف القرن المنصرم، والعقد الأخير منه على وجه التحديد.
تدفعني إلى هذه الاستنتاجات أسباب كثيرة أهمها إطلاقا استحالة مقاومة الأصولية الدينية بأصولية مقابلة، تحمل مواصفاتها الأيديولوجية وتعمل بآليات مشابهة أو مماثلة لآلياتها، هي في ظاهرها أصولية سياسية تتصل بحزب أو بدولة، لكنها في العمق والحقيقة أصولية سياسية / مذهبية، مغلقة ومطلقة كأية أصولية مذهبية / دينية.
عرفت الأصولية المذهبية / الدينية صعودا كاسحا في الفترة التي شهدت صعود وتوطد الأصولية السلطوية. هذه حقيقة فائقة الأهمية يجب التوقف عندها، تؤكد صحة القول بوجود رابطة سببية بين صعود النظم السلطوية في الدولة وصعود الأصولية المذهبية / الدينية في الشارع، وقد كانت جنينية التكوين قبلها، لكنها شهدت انتعاشا غير مسبوق خلال نصف القرن المنصرم، واكب وصول الأصولية السياسية إلى الحكم وإحكام قبضتها على البلاد والعباد، وانفرادها بالشأن العام. تؤكد الخبرة التاريخية هذا التلازم، وتبين أنه حيث توطدت السلطوية خرج المواطن من السياسة كحقل كان عاما لكنه ضاق معها حتى غدا حكرا عليها وحدها، مثلما خرج المواطن أو أخرج من الشأن العام، شأنه شأن الدولة والمجتمع، فرد على ذلك بإخراج السلطة من عالمه الذاتي /الخاص، الذي خلا أكثر فأكثر من السياسة عموما والسائدة منها على وجه الخصوص، وامتلأ بصورة متزايدة بما في رأسه من مخزون معرفي / شعوري مذهبي، أسهم انغلاق النظام السلطوي السائد في جعله أصوليا، بما حمله من تعصب فئوي / حزبي يدعي العصمة والربوبية، ولعب دورا هما في جعله يفقد ما ميز الإسلام من انفتاح وتسامح، وتحويله إلى مجال مذهبي مغلق يستمد تماسكه من تعصب مضاد للسلطة ولحقلها السياسي، حمل سمات شخصية وعامة قواها الجهل وعززها رفض المختلف والرغبة في القضاء عليه، بالعنف كأفضلية أولى.
تبدأ الأصولية المذهبية / السياسية، التي أسميها السلطوية، بإخراج المواطن من حقلها الخاص بما هو حقل السياسة عموما، وإقامة نظام تمييزي مغلق وجفول، ينتجه طابعها القائم على الاستبعاد والإقصاء، والمرتكز على رفض المساواة بين البشر والتنكر للعدالة كمقوم تنهض عليه حياتهم الفردية والعامة. بمرور الوقت تنقلب السلطوية أكثر فأكثر إلى أصولية سياسية مذهبية، تقتصر تدريجيا على أتباعها وأنصارها، فتتسم عندئذ بقدر لا يني يتعاظم من التعصب والتشدد يلغي الآخر والمختلف، ويجعلها ترى في إبادته معنويا أو جسديا الحل الوحيد لمشكلة وجوده ولعلاقته معها.
بهذين الإقصائين المتبادلين، تأخذ الأصولية المذهبية / الدينية طابعا سياسيا، والأصولية السلطوية طابعا مذهبيا. وتشتركان في آليات اشتغال متماثلة أو متشابهة، وتعتمدان أهدافا متنافرة ظاهريا ولفظيا، لكنها تفضي إلى نتائج متماثلة عمليا، تتركز على إقصاء الآخر، وتقويض العقل والعقلانية، وتدمير ملكة المحاكمة والنقد، وسيادة الانغلاق والتعصب والعنف، والتخلي المتبادل عن الحوار والأساليب السلمية، وإضفاء طابع أيديولوجي على التفكير والموقف من العالم، ومذهبة كل شأن مهما كان تافها أو عرضيا أو دنيويا وإضفاء طابع تقديسي عليه، ونفي المشترك الإنساني والمواطنة من خلال إعلاء شأن التمييز بين الناس وفق أسس مذهبية / فئوية نافية لحريتهم كسمة تعين وجودهم، وتعمق اختلافاتهم وخلافاتهم، التي تستغلها كرأسمال سياسي / عنفي ينفرد فوق كل ساحة وميدان وشخص.
في الأصولية المذهبية، من ليس من الجماعة لا يستحق أن يكون مساويا لأعضائها، فما ينظم علاقات وهوية البشر يقتصر على مذاهبهم، التي تنتج سياسية تفضي إلى انغلاق جماعاتهم على ذاتها باعتبارها جماعات سياسية أيضا، من غير الجائز أن تكون مفتوحة وتتسع للآخر والمختلف، الذي لا يجوز تاليا التساهل معه أو السماح بانتمائه إليها. بالمقابل، من لا ينتمي في الأصولية السياسية إلى الجماعة الخاصة لا يستحق أن يكون مساويا في القيمة لأعضائها، وتنظم السلطوية وجود وعلاقات البشر في أطر خاصة تغلق جماعتها على ذاتها وتحولها إلى أخوية مذهبية دهرية (وربما علمانية/ كفرية !)، تمارس نشاطها التنظيمي والأيديولوجي باعتباره امتيازا يحتكره أعضاؤها، يحرم من منافعه ويخضع للنبذ والإكراه كل من لا ينتمي إليها. لا عجب أن الأصولية المذهبية تلغي مقولة الإنسان من الدين، والسلطوية تلغيها من السياسة باعتبارها دين سلطة وحكم. ولا غرابة في التقاء الأصوليتين على منطق واحد وحجج متماثلة أو متشابهة، وعلى سلوك واحد حيال ما يطرح عليهما من مشكلات ومسائل، خاصة فيما يتعلق بعصمة رموزهما وصحة مواقفهم، والخروج على أوامرهم بوصفه عصيانا وكفرا يهدد استمراره وجود الجماعة لأصولية : المذهبية والسلطوية. في الأصولية المذهبية، يحل الشيخ محل السلطة العليا التي تتماثل في نفس المؤمن مع القدرة الإلهية، وينظر إليه باعتباره على اتصال معها، ويعد رئيس النظام السلطوي نوعا من إله متعال / معصوم، يتمتع بصفات فوق بشرية، حتى ليزعم إنه خالد لا يموت، وأن حكمه سيدوم إلى الأبد، لأن بلده لا يمكن أن يحكم من غيره، لعدم أو لاستحالة – وجود من هو مثله أو مشابه!.
تغذت الأصولية المذهبية من الأصولية السلطوية، التي مهدت لها طريق الصعود، وقوضت إلى حد بعيد أي شيء أو تكوين أو فكرة يمكن أن يكبح نموها أو يعيق توطدها، سواء تعلق الأمر بأفكار حديثة، أو بمناهج علمية تربوية، أو بأحزاب ومنظمات، أو بتكوينات مجتمع مدني، أو بحريات عامة وسيادة قانون ومساواة وعدالة. باختصار: فعلت السلطوية كل ما من شأنه خلق الأجواء والمقدمات اللازمة لنشوء وتوطد الأصولية المذهبية: على صعيد الأبنية والتظاهرات الفكرية والسياسية والمجتمعية، وفي مستوى السلطة والعمل العام. وبينما منعت أي تواصل بين الأحزاب الديموقراطية والمجتمع، سمحت بجميع أشكال التفاعل والتداخل والتكامل بين المذهبية وشرائح البشر المختلفة، تارة باسم الدين وطورا باسم الدنيا: مرة في إطار المسجد وأخرى في حاضنة منظمات المجتمع الأهلي ونظم الخدمات الاجتماعية والاقتصادية والتربوية / التعليمية التقليدية، التي دأبت على رعايتها وإدامتها، ودمجتها في الوجود الملموس لفئات اجتماعية واسعة، وفي وعي الفرد العادي.
بالمقابل، غدت الأصولية المذهبية الأصولية السلطوية، بإسهامها في نزع السياسة من المجتمع من خلال المذهبية، وفي تحويلها إلى مشكلات لا علاقة لها بالدنيا ومسائلها: بمآزقها وهمومها ومسراتها وضروراتها، ولعبها دورا خطيرا في تحويل المجتمع إلى مزق وفرق أغلقت كل واحدة منها تجاه الأخرى، وشحنتها بحمولة تعصبية أيديولوجية جعلت منها عوالم متناقضة ترى في العنف لغة وحيدة فاعلة يتحتم استخدامها لضبط علاقاتها مع غيرها، وللدفاع عن ما تؤمن به. أخيرا، أسهمت المذهبية في ترسيخ السلطوية عبر الصورة التي نشرتها حول الحياة الأخلاقية، وتقوم على وجود كائن أسمى، ملهم، يجلس على قمة الهرم الاجتماعي، يتبعه أنصار ومريدون يؤمنون بعصمته ويطيعونه دون نقاش أو اعتراض، وينفذون كل ما قد يصدر عنه ضد أي كان. تعتبر الأصولية المذهبية قياداتها موصولة بالله وتتلقى الوحي والإلهام منه فهي جهة مقدسة / معصومة، بينما ترى الأصولية السلطوية في قائدها جهة تتمتع بعين صفات الذات الإلهية، فهي ذات تعيين مذهبي صرف، لا يتناقض وجودها مع نظرة الأصولية المذهبية، التي يقتصر اعتراضها على ما يصدر عنها من مواقف وآراء، لكنها ترى فيها ما يعزز رؤيتها لما يجب أن تكون عليه السياسة: فعل ملهمين ومعصومين مقدسين كأنما يوحى إليهم !. بقول آخر: تقيم السلطوية نظاما أصوليا تقول المذهبية بضرورة إزاحة من يمسكون بأعنته، لأن إزاحتهم تعيد إليه هويته الأصلية: الأولى والنقية، وتمكنها من استبدالهم بجماعتها، التي لن تغير شيئا من النظام السلطوي، بل ستستخدمه لتحقيق مقاصدها، مثلما حدث في أمثلة حديثة متنوعة حلت الأصولية المذهبية فيها محل الأصولية الاستبدادية.
أعتقد أن الجواب على هذه الأصولية المزدوجة، التي يعززها وضع سلطوي، يذهب إلى أحد بديلين: إما الدوران في حلقة مفرغة لا تني تضيق نتيجة لانقسام العالم الذي تنتجه السلطوية إلى كيانين متناقضين / متعاديين: واحد أصولي / سياسي يتخندق فوق، على مستوى السلطة وتشكيلاتها التي تمسك بالمجتمع، وآخر أصولي / مذهبي يتخندق تحت، على صعيد القاع الاجتماعي وامتداداته، مع ما يترتب على ذلك من صراعات متفجرة وأزمات دائمة تفضي إما إلى انفجار حتمي، أو إلى كسر هذه المعادلة والخروج منها، وإعادة إنتاج الواقعين الفكري والسياسي في حاضنة مغايرة لتلك التي أنجبت الأصوليتين، هي بالقطع والضرورة حاضنة المجتمع المدني : مجتمع المواطنين الأحرار والمنتجين، التعاقد والعمل، الحرية والمسؤولية، القانون والعقل، مجتمع البشر الطبيعيين، الذين يرفضون العيش في مشفى أمراض عقلية يحمل اسمين: المذهبية السلطوية ،والمذهبية الأصولية مجتمع المواطن العادي، الذاهب إلى حريته، لأن استمرار افتقاره إليها يعني أمرا واحدا بات أكيدا : نهايته وموته.
لا حل بغير رؤية وممارسة تعتمدان المجتمع المدني أرضية للشأن والعمل العامين، يقف العقل وتقف السياسة فيه على أقدامهما، ويتأسس حقل عام تواصلي يتكامل المواطنون فيه من خلال تنوعهم التفاعلي السلمي والحواري، وليس بالكرباج. السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو التالي: هل يحدث اختراق مجتمعي ما من خارج الأصوليتين، يمكن بعض أهل السلطوية، الذين يرون ما آل إليه عمل نظمهم، من مبارحة موقعهم الحالي والبحث عن بديل له ؟. بغير هذه الإمكانية، سيخطو العالم العربي أكثر فأكثر نحو الموت وقد يتلاشى تماما، لأنه لن يقوى على العيش في ظل أصولية مذهبية، ستلي أصولية سلطوية أزهقت روحه أو كادت !.
‘ كاتب وسياسي من سورية
القدس العربي