صفحات الثقافة

كوستا غافراس، البرابرة والمال الذي لا ينام!

    هوفيك حبشيان ـــ تسالونيك

إنقاذ الناس أم إنقاذ الاقتصاد؟ هذا هو الهمّ السائد اليوم في اليونان، البلد الذي شهد الاسبوع الماضي عودة ابنه كوستا غافراس اليه، ضمن احتفالية فخمة، ليقدم فيلمه الجديد “الرأسمال”، المقتبس من رواية لستيفان أوزمون صدرت عام 2004.

في لقاء مع مخرج “الاعتراف”، تزاحمني صحافية يونانية لتسأله عن وضع البلاد وكيفية انقاذها من براثن الجشع، وكأن الرجل الذي صار على مشارف الثمانين خبير اقتصادي أو قارىء غيب قادر على تعطيل مخططات رجال الأعمال في وول ستريت. غافراس يُرشَق بالأسئلة، في تسالونيك وسائر اليونان، كما لو كان مهديّ الاقتصاد المنتظر. انه زمن اليأس والضباب في هذا الجزء من أوروبا. وأمام سؤال مفاده كيفية انتشال مواطنيه من الأزمة، لا يملك غافراس الا ردّاً واحداً: “لستُ الا سينمائياً. لا حلّ عندي. المخرج يطرح أسئلة. وأحياناً لديه أسئلة جيدة. ليس من السهل أن يتوفق بالأسئلة. الحلّ بين أيدي مَن ننتخبهم، المؤهلين ايجاد وظائف للناس”.

“الرأسمال”، وهو الشريط التاسع عشر للمخرج اليوناني الكبير، يروي الصعود الاستثنائي لشاب (جاد المليح) الى رأس مصرف يُعتبر واحداً من أكبر المصارف في أوروبا والعالم. أسئلة غافراس قديمة جديدة: كيف نتصدى لجنون الرأسمالية المتفلتة من كل معيار أخلاقي وسقف قانوني؟ المقاربة شاملة، الطرح فكري وعام، والغضب متأتٍّ من وحي النظام المالي القائم. يعرف غافراس ان المال لا ينام. باختصار، ليست اليونان وحدها معنية بالفيلم. بيد ان عرضه في هذا المكان وفي هذه الظروف تحديداً، وكون صاحبه مخرجاً معروفاً بيساريته غير القابلة للانكسار، دفع كثيرين الى إسقاط احداث الفيلم على الواقع اليوناني. في فيلمه السابق، “عدن في الغرب” عام 2009، كتبتُ الآتي: “منذ بضعة أفلام يبلور كوستا غافراس أنماطاً سينمائية هجينة وغير صارمة تتجه الى قطع العلاقة مع التجارب التي صنعت أهميته ومكانته ضمن الفيلم السياسي في ستينات القرن الماضي وسبعيناته، ولكن من دون التنكر لهذا الماضي. ملل؟ نهاية مرحلة؟ انهيار القضية؟ أو صعوبة في ايجاد ما يُلهم؟ قد يكون هذا كله معاً”. هذا الكلام لا يزال صالحاً بحرفيته عن فيلمه الجديد: كوستا غافراس في ورطة. لديه الكثير ليقوله عن العالم، لكن دائماً بسطحية وخفة مثيرتين للريبة. الأسوأ أننا نعلم كم هي نبيلة نيات هذا الرجل المحب.

بعيداً من تأويلات الصحافيين الذين يريدون اعطاء اسباب اخلاقية لوجود مثل هذا الفيلم، هناك الدافع الحقيقي الذي جعل غافراس ينكبّ على نصّ أوزمون. الآتي، من كلام له خلال مقابلة أجرتها معه “النهار” في مهرجان تسالونيك الذي اختتم السبت الماضي: “هذا الفيلم عن المال. كيف يغيّر المال المجتمع ويغيّر الناس. الفكرة قديمة، انطلقت فصولها الاولى قبل سنوات، عندما وقعت حادثة في اليونان، مرتبطة بـ”قضية كوسكوتاس” [توضيح من المحرر: يورغوس كوسكوتاس رجل اعمال يوناني اغتنى في اميركا ثم اتهم باختلاس 230 مليون دولار من المال العام وحُكم بـ25 عاماً سجناً]. هذه القضية كانت نوعاً من تراجيكوميديا انذاك. كنتُ اريد نقلها الى الشاشة، لكني وجدتُ ان ما سينتج منها سيكون فيلماً ضد اليونان، فوضعتُ المشروع جانباً لأنني لا اريد اقحام اليونان في مأزق جديد، والحال هي ما هي عليه اليوم. اذاً، قابلتُ أناساً وطالعتُ مراجع، ثم وقعتُ على كتاب ستيفان أوزمون “الرأسمال”. في الكتاب، عثرتُ على القصة والشخصيات، ولكن كان عليَّ ان أغيّر الكثير. ولاسيما ان الشخصية في النهاية تنهار وتصبح مدمنة مخدرات، الخ. كنتُ أريد شيئاً اقرب الى الحقيقة. فقابلتُ كبار المسؤولين في المصارف، وهذا ما جعلني اكتشف أنني أمام اشخاص في منتهى الذكاء والحنكة. اكتشفتُ انهم ملمّون بأدق تفاصيل الأزمة الاقتصادية. فاستنتجتُ ان شخصية من شخصيات عالم المصارف لا تدمن المخدرات بسهولة. صحيح ان لهؤلاء الكثير من العيوب، لكن استبعد أن يقعوا في المخدرات”.

على هامش هذا كله، لا يوفر غافراس الأميركيين في نقده وسخريته، كاشفاً الهوة بين الثقافتين الأوروبية والأميركية. اذا سألته عن السبب بطل العجب: “أين بدأت المأساة المالية العالمية؟ في الولايات المتحدة. بسبب مَن؟ بسبب المصارف الأميركية. مَن خلق علاقة سيئة بين اليونان والمصارف؟ المصرف الأميركي “غولدمان ساكس” الذي سرق الحكومة”. في خضم هذا، توجب معرفة المزيد عن ملامح هؤلاء الوصوليين الذين يصوّرهم غافراس، اذ في نظرته لهم ثمة اشكالية. فنلاحظ مثلاً أن رئيس المصرف الشاب، الذي يضطلع بدوره جاد المليح في أول تجسيد جديّ له، ليس بالشخص السيئ، لكنه مأخوذ بالسلطة والمال وما يتيحانه من امتيازات، بدءاً من الراحة وصولاً الى اقتناء الكماليات التي يحاول الترويج لفكرة دمقرطتها.

خطاب غافراس لا يحمل وجهين، فهو يقول بالحرف الواحد: “هؤلاء المصرفيون برابرة، لكنهم برابرة متمدنون. يعرفون مشكلات المجتمع، لكن فقط من خلال الأرقام. يتواصلون بعضهم مع البعض عبر الشاشات. يعيشون بين الناس ولا يرونهم. ويموّلون شركات ألعاب الفيديو التي تؤذي الأطفال”. ولكن، في المقابل، الامتناع عن تصنيف المدير الانتهازي شراً مطلقاً، اخطر مما لو كان شريراً. غافراس يعتبره ضحية الاغواء. ونحن نعلم مدى انسانية الاغواء. وقد يقع في شراكه أيٌّ كان. في هذه المقاربة، تتجلى شطارة غافراس، كونه يرفض ابلسة الرأسماليين. بدءاً من صاحب المصرف الذي يموت بعد اصابته بسرطان في الخصيتين، وصولاً الى واريه الشاب (المليح) الذي ستبتزه قريباً شهوته الجنسية. لا يجد غافراس امام تعليقي هذا الا أن ينحاز إلى صفّ اصحاب الرأسمال، خشية الوقوع في الكاريكاتور وقول أشياء مضحكة لا تمت الى الواقع بصلة: “صحيح انني لم اقدمهم كشياطين. أولاً، هؤلاء يتطورون ويعملون ضمن الاطر القانونية، والناس بحاجة اليهم. والحكومات بحاجة اليهم ايضاً. لكن، خلف كل حقيقة هناك خفايا لا نعرفها. أنا كنت مهتماً بما يجري في الكواليس. يعني الجانب المظلم. غالباً، هذا الجانب هو الذي يقود العالم، ليفضي بنا الى حيث نحن الآن، في اليونان أو اسبانيا. لكن، حتماً، لم اكن اريد اشراراً على طريقة الأفلام الهوليوودية. أردتُ أن يجتمع في الشخصية الواحدة، وفي الحين نفسه، كلٌّ من الخير والشر. “وول ستريت” فيلم ممتاز، لكن نهايته السعيدة افسدته: الشرير يلقى جزاءه والنقابي ينتصر على الشرّ. هذا شيء مضحك، لأنه لا يشبه الواقع. شيء مماثل لا يحصل ابداً”.

دائماً يصعب الاكتفاء بالجماليات السينمائية عند الحديث مع غافراس. أفلامه تستدرج المرء الى السياسة والقضايا التي ينهل منها منذ أول أفلامه في أواخر الستينات. في مشهد من “الرأسمال”، يناقش رئيس المصرف مع خاله خياراته المهنية ومفهومه للرقيّ الاجتماعي. يلوم الخال ابن اخته لأنه باع روحه من النظام الرأسمالي المتوحش، الذي لا يرأف بصاحب الدخل المحدود. هذا النقاش يفضي الى خلاصة، مفادها أن الجيل الذي ينتمي اليه الخال، وهو الجيل الذي ينتمي اليه غافراس ايضاً، هو المسؤول الأول في جعل القارات مفتوحة بعضها على البعض، وهو الذي سعى لفرض النموذج الأوحد، من خلال مساندة الشيوعية.

مراهناً على عنصر التناقضات والزلة التي قد تخرج منه، سألتُ غافراس عما اذا كان يمكن أن نرى هنا نقداً لمرحلة كاملة، فقال: “لا أحمل المشاعر نفسها التي يحملها الخال ازاء ابن أخته، لكن احمل معتقدات جيل كامل، هو جيلي أنا، وكان هذا الجيل صادقاً في اقتناعاته. كان يعتقد ان النظام الشيوعي قادر على تغيير العالم، وعلى الأرجح كان فعل ذلك. لكن هذا الجيل آمن كثيراً بالاتحاد السوفياتي، حدّ انه جعل الحلم يتبدد. والآن، لم تعد عندنا مرجعية. ستالين قضى على الحلم. لم يبق لنا الا ان نستمع الى ما يقترحه الجيل الجديد، وما يقترحه طبعاً ليس شيئاً مثالياً”.

ولأن الموضوع يجر الموضوع الآخر، بدأ الحديث بالاتجاه الى واقع اليونان الذي يخشى مخرج “زد” ان يتحول الى بلد نامٍ. الشارع يغلي، المحال التجارية تقفل أبوابها، والمتظاهرون يحملون المكبّرات يومياً للمطالبة بتعديل قرارات اتخذتها الحكومة أخيراً، وهي قرارات يقولون انها لا تصب في المصلحة العامة. تيارات متطرفة ومعادية للأجانب تنبت كالأعشاب البرية. هل يرى غافراس في اليسار اليوناني منقذاً؟ هذا السؤال يستفز عنده هزة رأس، ثم يفتح الجريدة التي أمامه، ويقول باستهزاء: هذه المقالة وجدتها اليوم. ولكن كوني لم انته من قراءتها بعد، فلن استطيع أن اضمن لك جواباً شافياً. كل ما اعرفه انه لدينا برابرة في اليونان يسمّون انفسهم اليمين المتطرف. هناك برابرة في كل بلد، وهؤلاء يطلون علينا كلما تصاعدت حدة العنف في المجتمع وتفتتت بنيته. ربما، علينا التفكير في تيارات أخرى، غير اليسار واليمين، لانقاذ مجتمعنا، ولفرض ديموقراطية جديدة، غير موجودة في اليونان، منذ، منذ، منذ… (يفكر)، لا اعرف منذ متى. فعلاً لا اعرف. ربما منذ دائماً. حتى جان ماري لوبن والجبهة الوطنية الفرنسية أفضل من البرابرة اليونانيين. على الأقل، لديهم نوع من حنكة سياسية، الشيء الذي ينعدم تماماً لدى اليمين اليوناني، فهم في الأخير زمرة برابرة يمجّدون افكاراً نازية، ولا يفقهون شيئاً بالتعددية والديموقراطية. للأسف، بعض الناس يرون في هذه الجماعات الحل. هذا نتيجة اليأس. من الضروري ان نشرح لهؤلاء أن الحل ليس في يد البرابرة. في كل مرة يتسلم أمثال هؤلاء السلطة، يغرق العالم في الفوضى. أول من يدفع الثمن هو البلد الذي ينتمون اليه. التاريخ الأوروبي شاهد. يكفي ان نرى ما حصل عندما جاءنا هتلر وموسولليني وستالين. لا تجوز العودة الى أساليب قديمة في الحكم”.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى