اقتصاد الممانعة وأخلاقها
يوسف بزي
عندما حوصر حافظ الأسد في الثمانينات، دولياً وإقليمياً، وبات الاقتصاد السوري أشبه باقتصاد كوبا المدقع، لجأ النظام السوري الى «الرئة» اللبنانية، بحثاً عن مصادر «العملة الصعبة»، ولتمويل إنفاقه على بطانته وضباطه وأجهزته. وفي لبنان آنذاك كانت الميليشيات الموالية للأسد تسيطر على أنحاء واسعة من البلاد، كما أن جيشه كان ينتشر في مناطق كبيرة، خصوصاً منها سهل البقاع.
في بيئة «الممانعة» تلك، التي كان اسمها «الصمود والتصدّي»، كان فلتان السلاح سمتها، والفوضى صفتها، والممارسة الإجرامية يومياتها، وغياب القانون ركيزتها. كانت سرقة السيارات مثلاً أمراً شائعاً على نطاق واسع (عدا توزيع السيارات المفخخة). كان فرض الأتاوات (الخوّة) على المحال والبنوك والمؤسسات.. أمراً اعتيادياً، كما أن الاشتباكات الفردية بالرصاص والقنابل على نحو يومي، عدا الصدامات المسلحة بين زمر الشبان أو المجموعات الميليشياوية، كانت كلها تهيمن على حياة اللبنانيين هيمنة كابوسية لا تُحتمل، وكانت تلك الفوضى العارمة والقاتلة تديرها أجهزة النظام السوري و»تلاعبها»، وتسوغ لها تمديد وصايتها على بلد بلا دولة. الدولة المغيّبة عمداً من قِبَل جهاز الوصاية وأتباعه.
هذه البيئة التي كان يحتضنها النظام السوري ويرعاها، كانت ضرورية لظهور «اقتصاد» التهريب، الذي تطوّر وسوقه السوداء الى شبكة هائلة، تطغى على النشاط الاقتصادي الفعلي، وتطال كل شيء وكل أنواع البضائع، تحت إشراف أجهزة المخابرات السورية وضباطها بـ»التعاون» مع «نخبة» قادة الميليشيات.
كان تهريب السلع والمتاجرة بها، مضافاً إليها عمليات واسعة النطاق لتزوير العملات وتبييض الأموال، سراً من أسرار رفد اقتصاد نظام حافظ الأسد وماليته (من يذكر مطابع الدولارات في البقاع؟).
الى جانب التهريب والتزوير والتبييض، «ارتقت» سرقة السيارات من مهنة العصابات المحلية الى حرفة عالمية، فقامت شبكة دولية بين أوروبا ولبنان تعمل على جمع السيارات المسروقة من شوارع بيروت أو من شوارع روما أو زيوريخ، في البقاع، حيث انتشرت ورش تفكيك قسم منها لبيعها قطع غيار أو تزوير أرقام محركاتها وتزوير أوراقها الجمركية.. ليصار الى إعادة تصديرها الى دول عدة في العالم الثالث. وكان بعضها يذهب لـ»التفخيخ» أو هدايا للنافذين من أركان نظام الوصايا أنفسهم.
لكن النقلة «الاقتصادية» النوعية أتت في مجال الزراعة! إذ فجأة تحوّلت زراعة نبتة الحشيش، القديمة والمحصورة في بعض مناطق البقاع الشمالي، الى ظاهرة متفشّية عبر السهل الواسع، وتورّط النظام السوري في أسرارها زرعاً وحصداً وتجارة وتهريباً، وأمّن لها التوسّع الهائل في طرق التهريب عبر الموانئ والمطارات التي يسيطر عليها في لبنان وسوريا، واضطلع بدور الحامي والراعي والشريك الأساسي في ازدهارها وفي تحصيل أرباحها وفي توزيع الحصص، وفق نظام مافياوي على مستوى دولة.
مع اشتداد ضائقة حافظ الأسد في السنوات الأخيرة من الثمانينات، أقدم النظام السوري على «قفزة نوعية»، إذ فجأة أيضاً تحوّل قسم هائل من البقاع الى سهل لزراعة الأفيون بدلاً من الحشيشة. وارتقى العائد المادي من مئات الملايين من الدولارات الى المليارات. أفيون على مد النظر كيفما سرت واتجهت في ربوع القرى البقاعية وحقولها، والتي تتوزّع في أنحائها مراكز المخابرات السورية ومفارزها، عدا قطعات الجيش السوري ودباباته وحواجزه.. الذي كان آنذاك يرفع شعار «التوازن الاستراتيجي مع العدو الصهيوني».
في هذه «البيئة الحاضنة» التي تغلّفها أدبيات «يساروية» (هي بالأحرى شعبوية) تكره الثقافة الرأسمالية وتمقت أنظمة الضرائب والمحاسبة وتذمّ أخلاق العمل وتحتقر القوانين وتزدري الحقوق.. انتعش اقتصاد الصمود والتصدّي و»قاوم» حافظ الأسد ونظامه العقوبات الدولية والحصار السياسي، وتنفّس من «الرئة» اللبنانية. وكان شرط كل هذا أن يكون لبنان ساحة مستباحة، بدولة عاجزة أو غائبة، مع انفلات السلاح والميليشيات، وتوطّد غواية الفساد واستشرائه في كل مفاصل الحياة العامة.
اليوم، وبعد انقضاء أكثر من 12 عاماً على انتهاء الحرب وأكثر من 7 سنوات على انسحاب الجيش السوري ومخابراته، ما زال لبنان يعاني أعراض حقبة الثمانينات تلك. فبيئة «الممانعة والمقاومة» وريثة بيئة «الصمود والتصدّي»، أو بيئة «الردع الاستراتيجي» وريثة بيئة «التوازن الاستراتيجي»، العصية على الدولة وقوانينها، والمستقوية بثقافة السلاح، يزدهر فيها ذاك الاقتصاد الاسود: فمن تبييض الأموال، التي كادت تهدد النظام المصرفي اللبناني برمته، الى رعاية صناعة حبوب المخدرات وزراعة الحشيشة، الى سرقة السيارات والسطو على المصارف، وتأليف عصابات تفرض «الخوّات»، الى توفير الملجأ للهاربين من العدالة، مروراً بتزوير العملات، وصولاً الى استشراء ظاهرة الخطف مقابل فدية مالية، بموازاة الأدوار «الأمنية» من النوع الذي اضطلع به الوزير السابق ميشال سماحة، «صديق» بشار الأسد، ويضطلع به آخرون كثر.
هذا ويستغرب أو يكابر الكثيرون في الربط بين أيديولوجيا الممانعة والانحطاط الأخلاقي، أو بين «ثقافة» المقاومة وعالم الجريمة المنظمة، أو بين «قدسية السلاح» والفلتان الأمني والاجتماعي والفساد والفوضى.. وحتى العمالة. ولسان حالهم شتم الإمبريالية و»وول ستريت»، أما شعارهم فهو تغيير العالم أو الوعد بالجنة.
المستقبل