الأثر المفتوح في “غيمة أربطها بخيط” لعبده وازن/ محمد العناز
يعمد الشاعر عبده وازن في ديوانه “غيمة أربطها بخيط” إلى تمثيل مجهولات الحلم، وفتحها على اشتباكات الأنا- في اضطراباتها القصوى- مع الموت وانشطاراتها في الوقت نفسه؛ مما يشي بتشكل الفكر الذي يتخذ- في هذا العمل- مظهرا شعريا. وهو ما يظهر جليا في هيكل الديوان السردي الذي تلتحم فيه القصائد وفق نظام الحكاية عبر تشخيصات متعددة للحلم؛ إذ تُحَوَّلُ الأنا الغنائية الشعرية إلى أنا آخرى ممكنة تكشف عن زمان باطني تتحرر بموجبه الأنا الذاتية من عجزها. ويتحقق هذا التحرر بالجمع بين المتناقضات داخل تناسج النص من دون الذوبان النهائي في أنا واحدة موحدة، ولاسيما في ظل وعي بالكتابة كأفق يستمد مرجعياته من الشعرية المفتوحة بوصفها شعرية رافضة لكل ما هو ثابت وجامد. إن الأنا شبيهة- في هذا- بغيمة يربطها الشاعر بخيط رفيع في الحلم، لتندلق بعد ذلك في هيئة أقاصيص وحكايات وتفسيرات، تسهم جميعها في بناء تصور عن الحياة، والموت، والوجود، والجسد، والرغبة، والمقدس، والمدنس، والذاكرة، والتاريخ، واليومي، والملتبس. ويمكن عد هذه الغيمة عابرة لكل قارات الجسد والروح في ممكناتهما؛ حيث يصير النص هو ما يفكر، ويقول نقص الذات من طريق التكثيف الشعري؛ فهذه الأخيرة (الذات) لا تقف عند الحدود المتعارف، بل تتجاوزه لتبني وعيها الجمالي المخصوص والمفارق؛ وذلك باعتماد حبكة منفتحة على اللانهائي. وانفتاح الحبكة هذا يتم وفق تدفقات حلمية شعرية حكائية تسمح بتوسيع مساحات الرؤيا، وتجعلها مرئية كشكل من أشكال التجريب الشعري؛ ذلك أن المجهول-هنا- بقدر ما هو مألوف عند المتلقي غريب عنه في الوقت نفسه. يقول الشاعر: “كان الباب مفتوحا في قلب الصحراء، باب بلا جدار ولا عتبة، مغروز في الرمل وكان كل من يدخله يختفي. لم يرجع أحد منه، كان الجميع يدخلون ثم يختفون”.
“أمام الباب وقفت حائرا لم أجرؤ على دخوله لكنني كنت أنظر من خلاله لأرى الخلاء الذي يتسع إلى لا نهاية” (ص96). ليس الباب سوى كناية محتملة عن التيه والضياع، وليست الصحراء مكانا بقدر ما هي رمز للأصل والغد أيضا؛ أي رمز للمصدر الذي أتى منه الإنسان العربي، ولمصيره في الزمان الحاضر؛ حيث لا توجد معالم على ما هو الغد والمستقبل: إنه الانسداد الذي يواجه الذات في علاقتها بالعالم. هل الصحراء مخيفة إلى هذا الحد أم أن عزلتها القاسية تسمح للكائن بتأمل شقوقه الباطنية؟ أم أن الباب التي يتحدث عنه الشاعر هي باب الحلم (الغد) المشرع على المجهول، والذي يتسلل منه الجميع للكشف عما هو مقموع ومسكوت عنه داخل الذات وعوالمها المنهارة. لهذا فالوقوف عند عتبة الباب- إن وجدت طبعا- مادامت الصحراء لا جدران لها؛ لأن زوابعها وكثبانها الرملية المتحركة التي تربك حدود الرؤية البصرية للكائن يمكن أن تكشف عن مدينة تذكرنا بـ”إرم ذات العماد” الأسطورية. هل الخوف بما هو غريزة إنسانية يجعل الأنا الغنائية الشعرية حائرة أمام هذا المجهول. ولعل هذه الحيرة يمكن تلمسها في نصوص العمل، وتتعزز نصيا في الحلم الذي تجد فيه الأنا الغنائية الشعرية نفسها تحيا خارج قوانين الأخلاق والمواضعات صحبة امرأة أخرى لم يكن يحبها على السرير، فتتساءل المرأة: “أين الرجل الذي بادلته الحب؟ هل أبصرته يغادر السرير؟” (ص55). ولا تقف صيرورة التحول التخييلي عند هذه التبادلات الرمزية فحسب، بل تعمل أيضا على مضاعفتها إلى مستوياتها القصوى؛ حيث يتحوّل “عبدو” إلى “أنا غنائية شعرية مجهولة الهوية” مصابة بالمحو. “من محا اسمك عن الهوية؟ لم أجب. قال: كأن اسمك لم يكتب بتاتا على هويتك، مازال محله فارغا، لكن الصورة صورتك، انظر”(ص113). الصورة تنوب إذن عن الكلمات التي تسمي، بل تفضح قدرتها على تحديد هوية الذات.
إن المتخيل الشعري الرؤيوي الذي يصوغه الشاعر بمفارقاته الجمالية يروم تحقيق المغايرة؛ وهو قابل لأن يندرج في الأثر المفتوح كما حدده أمبرطو إيكو بوصفه تفاعلا يحدث بين العمل الفني والمتلقي الذي يكون- في أثناء محاولته كشف علاقات العمل وفهمها- مشروطا بثقافة محددة، وبأذواق وميولات وأحكام مسبقة، تعمل كلها على توجيه متعته إلى زاوية خاصة به. لذلك فإنه يذهب إلى أن “العمل الفني حتى وإن كان شكلا منتهيا و”معلقا” ومنظما في غاية الكمال، ومضبوطا بدقة، فإنه مع ذلك يبقى “مفتوحا”، على الأقل لكونه قابلا للتأويل بطرق مختلفة، دون أن يؤدي ذلك إلى إفساد خصوصيته، على عكس إشارة المرور مثلا، والتي لا يمكن التعامل معها إلا من خلال وجه واحد، والتي بمجرد إخضاعها للتأويل الخيالي تصبح فاقدة لوضوحها”؛ فالحلم في النص المفتوح “غيمة أربطها بخيط”، يشتغل بوصفه مساحة نصيّة تضمر حقيقة الأنا الغنائية الشعرية، وتكشف- في الآن نفسه- عن ازدواجيتها من أجل إبراز مظهرها التخييلي؛ ذك أن الواقع الحدثي الخاص بها يصير- تبعا لحلم اليقظة- حقيقة متوهمة. وهكذا يغدو الآتي عبر الحلم (صوت الأنا الغنائية الشعرية) تمثُّلا جوانيا معيشا على مستوى التخييل. يقول الشاعر: “حلمت أنني أحلم. سمعت من يقول: أنت تحلم الآن. نصفك نائم، النصف الآخر مستيقظ داخل نومك. بعد قليل ينام هذا النصف ليستيقظ الآخر الذي هو نائم الآن. الوجه الذي تراه هو وجهك عندما تكون نائما. انظر: عيناك مغمضتان لكنك تبصر، تبصر نفسك نائما. هذا سريرك. على المخدة تقلب رأسك وكأنك تحلم حلما مزعجا وربما جميلا. عيناك مفتوحان ولكن لا تبصران. الآن نصفك الآخر هو الذي استيقظ ليحلم. ها أنت تبصر وجهك مرة أخرى. لكن عينيك ليستا عينيك مع أنهما مغمضتان. لست راقدا على سريرك، مع أنك تقلب رأسك على مخدة ليست مخدتك أيضا. أنت لا تعلم ماذا تبصر، لا تعلم إن كنت تبصر. ترفع يديك وتتلمس جلد الليل. ناعم هو ولكن عميق” (ص84). إن الحلم هو أيضا صورة للخفة التي تسمح بتقويض الحدود وبانفصالها، وتقبل التناسج داخل نواة تتصل بالكينونة التي هي مدركة من خلال الازدواج في الهوية، بل تقبل الإقامة في ما بين الحدود بين الأنا وآخرها الذي تجعله ملموسا. يقول الشاعر: “لم يحدث أن حدّثت نفسي وأنا أراها. رأيت نفسي تحدّث نفسي، إنها أنا كما لو في مرآة خفية. لم أعرف نفسي هذه التي كانت أمامي وأنا أحدّثها. وربما هي لم تعرف أنني أنا الذي تحدّثه” (ص64)؛ فالمرآة هي التي تعذي الطابع الملموس للأنا الأخرى التي تجعل من الذات مزدوجة. كما أن اللحظات المتعينة خارج عالم اليقظة تعد وحدها القادرة على تمكين الذات من الحضور داخل فضاء الكينونة؛ فالذات تبني نفسها والعالم من خلال شعرية الجسد التي تتكفل الكتابة بإظهارها وإخفائها أيضا بشكل ماكر عبر متاح الحلم المبني على رؤية رافضة لكل ما للحدود والنظام.
إن الحلم يمحي في الشعر والشعر يمحي في الحلم، وينشأ التوسط بينهما من خلال الوعي بالكتابة لإخراس الموت. يقول الشاعر في نص “التابوت”: “عربة دفن الموتى، فُتح بابها الخلفي، ثم انزلق منها تابوت ووقع على الطريق. السيارات وراءها توقفت خشية الاصطدام. غطاء التابوت سقط أرضا، ثم نهض منه رجل يرتدي بذلة رسمية. سوّى بيديه ربطة عنقه وفرّ راكضا وكأن شرطيا يطارده. أما نحن الواقفين على الرصيف، فرحنا نصفّق له بقوة” (ص13)؛ فالتابوت يعبر عن المظهر غير المنفصل للحدود التي تُميز موضوعات العالم ونقصه؛ لأن ـ”الحياة حلم” و”الحلم هو الحياة نفسها” حتى إذا كان النائم واقفا ومعلقا على الجدار داخل غرفة مضاءة، أو داخل تابوت سواء أكان ذلك في الليل أو خارجه “هو لا يزال نائما، في غفلة عن الشمس التي تشرق عليه وتغيب” (ص48). إن الحلم هو عالم الأسرار الذي يحيل إلى زمن الوحدة والاختلاء، واستعادة الأثر الذي تخلفه فينا الصور الوقائعية أو المنحوتة أو المرسومة أو الأدبية؛ ونجد هنا الكيفية التي تسربت بوساطتها شخصية غريغور سامسا بطل رواية كافكا “المسخ” إلى الحلم، فقوضت الإنساني الذي سرعان ما تحول إلى سؤال وجودي عن الموت، والكيفية التي تسرب بوساطتها حلم إقامة بيت الشعر في بيروت مع عباس بيضون، وتحول إلى لحظة للسباحة أمام جسد ناعم بض على الشاطئ القريب من مقر البيت. وحدث مثل هذا حينما ابتسمت الأنا- الشعرية الغنائية في الحلم مع علي أحمد سعيد وجعلته يتحدث بصوت خافت كي لا يوقظ كلا من أدونيس ومهيار وهو يقهقه. وحدث أيضا حين لوّح أنسي الحاج بيده، وقال إنه لم يعد يسكن بيته بعدما صارت الغرفة فارغة، وكيف دخل مدينة الموت، والأرق، والزرقاء، وكيف ينتشي بجسد امرأة.
يصبح الحلم- هنا- بموجب هذا التخييل الذاتي أقرب إلى ترجمة المسافة تجاه الذات في بعدها المادي، وتأملها في سياق الرؤية التخييلية، وتحويل ذات الشاعر إلى مادة متخيلة تحمل واقعها التاريخي بشكل مضمر، على الرغم من أن هذه الذات تتحول إلى ذات أخرى بعيدة عن الشاعر؛ ففي نص “أنت الذي هو أنا”: “إنني أنت، عندما كنت يوما، في أعوام ما عدت تذكرها، قال لي. ثم أضاف: افتح درجك تجد صورا لي، هي صور لك عندما كنت يوما. حدّق في عينيّ: ألا تبصر عينيك؟ ألا تذكر هاتين المقلتين اللتين أصابتهما سهام الأسى؟ ألا تبصر جروحهما الخفية؟ إنهما مقلتاك اللتان ما زالتا على نضارة دهشتهما. وهذا الوجه، امسحه قليلا وأسقط عنه شآبيب الألم، تبصر وجهي، الذي كان وجهك عندما كنت يوما…شعرت بيدي ترتفع وحدها وتمر على وجهي وكأنها تمسحه، ثم كأنني أصبحت بلا وجه” (ص53)، فالشاعر يشيد درامية شعرية بوسائل متعددة من ضمنها استعمال “تقنية القناع” التي تسمح للأنا الغنائية الشعرية بمحاورة نفسها، من طريق تحويلها إلى أنا أخرى ممكنة إلى الدرجة التي يستحيل معها إيجاد تركيب بين الذات وأناها؛ لأن زمان الحلم منفلت وعصي على القبض، ولأن طبيعة التبادلات الرمزية لا يمكن استيعابها بأي شكل من الأشكال. لهذا تُوظف “تقنية القناع” بوصفها ثمرة تطور عرفه النص الشعري العربي الحديث بفعل دفعه نحو جعل الموضوعية مستوعبة من خلال الدرامية؛ لأن التعبير الدرامي هو أعلى صورة من صور التعبير الأدبي، ومن ثمة يميل “بناء القصيدة نحو القصة، فتصبح أشبه بالقصة القصيرة التي “هي أقرب الأشكال الأدبية، من الناحية الفنية، للقصيدة الغنائية، بمفهومها الحديث” حسب محمد علي كندي. وبالتالي لا تتعرف الأنا الغنائية الشعرية إلى نفسها إلا في النص الشعري الذي تنكتب فيه؛ لأنها لا تستوعب ذاتها فيه، وتظل بعيدة عن هذا الأفق النابع من النزعة الإنسانية، ومن ثمة يكون الوعي التام بالكتابة أو “الإبداع” وحده الممكن الذي تجد فيه الذات انسجامها مع عمقها. وتنظر بعين الريبة إلى التاريخ لأنه خادع بفعل كونه مسكونا بالآخر.
كما تنبغي الإشارة إلى أن إدراك العالم شعريا في الديوان تام بوساطة السخرية بوصفها بلاغة للكشف عن نقص العالم؛ وذلك باستخدام متخيل قائم على المفارقة. لكن هذه السخرية هي ملتحم بتقنية الحلم التي تصوغ معنى العالم من خلال تحويل مألوفيته عن طريق غرابة تجد أسسها في فكر الازدواج. كل هذا يصاغ من خلال رمزية مكثفة تقوم على خاصية الغموض الذي يغدو مظهرا جماليا مرتبطا بالمجهول واللامتناهي. إن “عالم الرؤى المذهلة” المتخفي وراء العالم الوقائعي- كما يذهب إلى ذلك نوفاليس- لا يمكن بلوغه بوسائل واقعية. ومن ثمة فصوغ نظرية في الفن بعامة، والشعر بخاصة لا يمكن إلا عبر ما هو غير متلاحم يقوم على التداعي، كما هو الأمر في الأحلام لإدراك واقعية الواقع الغامض. وهذا هو خيط الشعر في غيمة شعرنة الحلم.
*ناقد مغربي
ضفة ثالثة