“الأخلاق والامبراطورية”: المظلومية المقلوبة/ شادي لويس
وقع 58 أكاديمياً، من المتخصصين في تاريخ “الامبراطوريات” في جامعة أكسفورد، نهاية الشهر الماضي، خطاباً مفتوحاً، يدينون فيه مشروعاً بحثياً في جامعتهم، بعنوان “الأخلاق والامبراطورية”، أثار جدلاً واسعاً في وسائل الإعلام البريطانية. لم تكن تصريحات المشرف على المشروع، البروفسور، نايجل بيغر، عن ضرورة أن يشعر البريطانيون بالفخر بدلاً من العار تجاه الماضي الاستعماري، هو ما أثار حفيظة زملائه فقط، فهو أيضاً بحسب خطابهم أيضاً يطرح السؤال الخطأ، بالطريقة الخطأ، ويسعى لإجابته عبر وسائل خاطئة أيضاً. فتقييم بيغر المتخصص في اللاهوت وفلسفة لأخلاق، للتاريخ الاستعماري لبريطانيا، عبر مقارنة “الفوائد” التي جلبتها الامبراطورية إلى الشعوب المستعمرة، بالأخطاء التي ارتكبتها في حقهم، تبخس معاناة ملايين الضحايا الذين سقطوا، عمداً، في المجاعات والأوبئة والحروب الامبراطورية، وكأنهم مجرد أرقام يمكن مقارنتها حسابياً، بمعدلات تقدم الجدارة البيروقراطية للتنظيم الإداري للدول المستعمرة، بل ويذهب ضمناً إلى الدفع بمنطق إعادة الاستعمار كحلٍ لمشاكل دول الجنوب.
تلقفت الصحافة البريطانية اليمينية نشر الخطاب، كدليل على هيمنة الصوابية السياسية على الأكاديميا الغربية، وتقييدها لحرية البحث، وإمكانية طرح الأسئلة الشائكة. فتغطية جريدة الديلي ميل للجدل، على سبيل المثال، صورت بيغر كضحية لعملية “صيد الساحرات” من قبل اليسار، الذي طالما اتهم بالسيطرة على الجامعات الغربية، وأجندتها البحثية، وقمع الأصوات المعارضة له. وربما كان الجدل بشأن “الأخلاق والإمبراطورية”، فرصة مواتية للتمعن في ما تعنيه الحريات الأكاديمية وحدودها، ومن يضعها، وكيف يمكن تحديها أو مراوغتها، وإلى أي مدى، وكذا لإعادة التفكير في العامل السياسي والمبدئي والأخلاقي فيما يفترض فيه أن يكون حيادياً بالضرورة كالبحث الجامعي؟ لكن آليات “قلب المظلومية”، كانت كفيلة بإفساد تلك الفرصة. فبحسب الصحافة اليمينية، في تغطيتها المشروع، يجبر البريطانيين على الشعور بالذنب أكثر من اللازم، تجاه الماضي وتجاه شعوب الجنوب، بينما كان عليهم أن يشعروا بالفخر، وأن يتوجه لهم أبناء الإمبراطورية الآفلة بالعرفان بالجميل، بدلاً من العقوق والنكران. إذاً، فالبريطانيون هم الضحايا هنا، ويعاني ماضيهم من التجني، بالضبط كما أن الرجال هم ضحايا الحركة النسوية، والبيض هم ضحايا التمييز الإيجابي تجاه السود، والأغلبية تعاني من المبالغة في فرض الصوابية السياسية تجاه الأقلية، وهكذا.
وإن كانت آليات قلب المظلومية محوراً رئيساً في خطاب اليمين الثقافي والسياسي في العقود الأربعة الماضية، فإن صدمتيّ استفتاء البريكزت ومن بعدها فوز ترامب، قد دفعت إلى بعض التشكك الذاتي من داخل تيارات الوسط واليسار تجاه الصوابية السياسية وأولوية أجندة المساواة والحقوق المدنية، والنظر إلى الطبقة العاملة البيضاء، وبالأخص رجالها، بوصفها الضحية المهملة، التي تعاني في صمت، والأجدر بالاهتمام أو الأقل بالترضية. لكن، هل تمدد خطاب الصواب السياسي بالفعل، إلى أكثر مما يجب، فعلى سبيل المثال، وفي حالتنا هذه على وجه الخصوص، هل يشعر البريطانيون حقاً بالعار تجاه ماضيهم أكثر من اللازم؟
تأتي الإجابة من آخر استطلاع للرأي، أُجري قبل عامين، فـ 43% من المشاركين البريطانيين وجدوا أن الإمبراطورية كانت أمراً جيداً، وفقط 19 % هم من ظنوا أنها كانت سيئة، فما وقفت البقية على الحياد. بل إن 44% من المشاركين أجابوا بأنهم يشعرون بالفخر تجاه التاريخ الاستعماري لبريطانيا، وأقل من 11% من المشاركين رأوا أنه أمر يستحق الندم.
لا يبدو أن الجمهور البريطاني يشعر بتأنيب ضمير تجاه الماضي، أكثر من اللازم، ولا أن الصوابية السياسة بشأن التاريخ الاستعماري وأشياء أخرى قد بالغت في هيمنتها، كما يدعى اليمين، ومعه تيار يساري ناقدا الذات مؤخراً، بل العكس تماما. فمازالت الغالبية الساحقة من البريطانيين لا تشعر بأي عار تجاه الامبراطورية، بل مازال أقل من نصفهم بقليل يشعر بكثير من الفخر بسببها، ويظل أبناء المستعمرات يعانون، تحت وطأة نظام عالمي يعمل لمصلحة مستعمريهم القدماء.
ومع أن أمر التاريخ يجب ألا يكون موضعاً لسؤال الفخر أو العار، بل بتعلم دروس الماضي الفادحة والعمل على عدم تكرارها، إلا أن مشروع “الأخلاق والامبراطورية” سيتسمر كما خُطط له، أي لخمس سنوات مقبلة، ويبقى البروفسور بيغر، مصراً على موقفه، فقبل يومين، نشر خطاباً في جريدة الغارديان، يرد على منتقديه، متهمهم باختلاق نظريات المؤامرة.
المدن