الأخ الاميركي الاكبر/ بشير البكر
تبدو للمراقب العادي أن العلاقات بين الدول الغربية قائمة على التعاون ولا تشوبها شائبة، ولكن العكس هو الصحيح. فكثير من النزاعات وقعت بين دول كانت متحالفة حين رأت أن مصالحها الاقتصادية مهددة. وعلى الرغم من خطابات التنسيق والتحالف بين الدول الغربية، فكثير من الحروب الصغيرة تشتعل على المستوى الاستخباراتي والتجسس الصناعي. والكثيرون في أوروبا يعرفون أن الولايات المتحدة الأميركية تواصل تجسسها على حلفائها من القارة العجوز، انطلاقا من الأراضي البريطانية. واليوم تنشغل فرنسا من جديد بفصل من فصول التجسس الاميركي، بعد أن كشفت صحيفة “لوموند” معلومات مثيرة عن نشاطات تجسس للاستخبارات الاميركية شملت تسجيل نحو 70 مليون مكالمة هاتفية في فرنسا، كما نقلت الصحيفة تقارير عن وثائق سرّبها اداورد سنودن المستشار السابق لدى وكالة الأمن القومي الذي لجأ الى روسيا في الصيف الماضي.
لم يتفاجئ أحد في فرنسا بخبر التجسس الأميركي، لكون العملية تكررت عدة مرات، وصارت مع مرور الزمن في حساب النشاطات الاعتيادية ل”الأخ الأميركي الأكبر”، الذي يبيح لنفسه مراقبة العالم والتنصت عليه من دون تمييز بين صديق أو عدو، والجديد هو أن فرنسا انضمت الى دول أخرى احتجت على تجسس أميركي طاولها مثل المكسيك وألمانيا التي هددت مستشارتها انغيلا مركل بتعليق محادثات التجارة الحرة مع واشنطن، والبرازيل التي ألغت رئيستها ديلما روسيف زيارة كانت مقررة للولايات المتحدة الشهر الماضي. كما شمل التجسس الاميركي، وفق وثائق سنودن، الأمم المتحدة وإيطاليا واليونان واليابان وكوريا الجنوبية والهند وتركيا والسعودية والعراق، ودولاً أخرى في مقدمها روسيا والصين.
الأمر الذي صدم الأوساط الفرنسية، الرسمية والشعبية، هو التركيز الاميركي على فرنسا، وافادت الوثائق الجديدة انه في الفترة الممتدة من 10 كانون الاول/ ديسمبر 2012 حتى 28 كانون الثاني/ يناير 2013، سجلت وكالة الأمن الوطني الأميركي (نسا) اكثر من 70 مليون مكالمة هاتفية اجراها فرنسيون. صحيح انه ورد في المعلومات ان هذه التسجيلات استهدفت افراداً يشتبه في ارتباطهم بنشاطات “ارهابية”، لكنها شملت ايضا رجال اعمال وسياسيين وديبلوماسيين واشخاص عاديين. ويتبين هنا انه جرى اعتراض اكثر من مليوني مكالمة هاتفية في اليوم، وهو رقم توقف امامه الكثيرون، لأنه يلخص مدى الاهتمام الاميركي بفرنسا ككل، وليس في قطاعات محددة بعينها، الأمر الذي فسر رد الفعل الفرنسي الرسمي، حيث جرى استدعاء السفير الاميركي في باريس من طرف وزارة الخارجة، كما تم بحث المسألة بين وزير الخارجية لوران فابيوس ونظيره الأميركي جون كيري خلال زيارة الاخير للعاصمة الفرنسية. وترى أوساط سياسية واعلامية فرنسية ان القضية مرشحة للتفاعل اكثر في الفترة المقبلة، لأن باريس طلبت من واشنطن تفاصيل حول المكالمات التي جرى رصدها، وما تحمله من معلومات، وذلك في ظل مخاوف من تسرب تفاصيل هامة على غرار برقيات ” ويكيليكس” في نهاية سنة 2010، ولهذا السبب تشكلت في حزيران/ يونيو الماضي، بناءً على اقتراح فرنسي، مجموعة عمل مشتركة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لبحث كيفية حماية المعلومات التي جُمعت عبر التجسس.
وعرفت قضية التجسس الاميركي على فرنسا في السنوات الأخيرة تطورات مثيرة، وتحدثت وسائل الاعلام عن كثير من الصفقات الفرنسية لبيع الأسلحة تم اكتشافها من قبل الأميركيين مما أدى إلى إفشالها، وبالتالي إلى حلول الأميركيين محل الفرنسيين. وحين وصل باراك اوباما للرئاسة طلبت باريس من واشنطن توقّيع معاهدة مكتوبة تضمن أن تتوقف الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا نهائيا عن التجسس على بعضهما البعض. وقد سبق للولايات المتحدة أن وقعت على اتفاق مماثل مع بريطانيا، حليفها الذي لا يتزحزح، وكانت التقديرات تؤكد امكانية حصول ذلك مع فرنسا كون الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، أميركي الهوى. وفي سنة 2009 وصلت المفاوضات إلى موقع متقدم وكان ساركوزي يعتقد أن بالإمكان التوقيع على الاتفاق. ولكن أوباما عبّر عن رفضه مما جعل ساركوزي يدخل في نوبة غضب. ويبدو أن سبب الرفض الأمريكي للتوقيع على هذه المعاهدة مع الفرنسيين، نابع من أن الولايات المتحدة الأمريكية، على الرغم من التزام محتمل من قبل فرنسا بمعاهدة عدم التجسس، كانت ستكبّل يديها وتُعرّض نفسها لمخاطر حكومة فرنسية قادمة أقل صداقة مع الولايات المتحدة، كما فسّر احد معارضي الاتفاق في حينه. والمتتبع لتاريخ العلاقات بين البلدين الصديقين والحليفين، لا بد أن يكتشف ضروبا من التجسس المتبادل. وقد كان الجواسيس الفرنسيون جرّيئين، بشكل خاص، في سرقة أسرار صناعة الدفاع والتكنولوجيا الأميركية. ولكن نشاط التجسس الذي تمارسه الولايات المتحدة لا يقتصر على ميدان محدد، بل يشمل كافة المجالات من السلاح إلى الموضة، ولا يستثني أحدا من العالم، الصين إلى جيبوتي.
المدن