الأدوار الخارجية في الثورات: أين محاولات الفهم؟/ حسن الحاف
منذ اللحظة الأولى لاندلاعها أفرطت الثورات العربية، خصوصاً منها الثورة السورية، في الحديث عن الأدوار الخارجية. وهو حديث غلبت عليه حصراً أحكام القيمة المنزوعة من سياق محاولات فهم إشكاليات التدخل الخارجي والمصالح الكائنة خلفه. ذاك أن هذه المحاولات إن أثبتت شيئاً، فهي تثبت انعدام الجهد الجدي لفهم دلالات الموقع الاستراتيجي لكل بلد من بلدان الثورات، وما يستدعيه هذه الموقع بالنتيجة من أدوار خارجية متفاوتة. كما أنها تضيء على المساعي المتواضعة لفهم، لا المصالح الماثلة في أصل هذه الأدوار فحسب، وإنّما محركاتها الثقافية والرمزية أيضاً.
لقائل أن يقول إن الموقف من إحدى أعتى الديكتاتوريات العسكرية في العالم كالنظام السوري لا يمكن أن يحيد عن حكم القيمة. وهذا موقف سليم في الأخلاق وفي السياسة، لولا أنه يختصر عملية الفهم كلها في مستوى واحد من مستوياتها، غافلاً عن المستويات الأخرى التي لا تقل أهمية بالمرّة. فإكثار السوريين من شتم العالم، حدّ المطالبة بإسقاطه كلّه، في تعبير آليم عن بلوغهم أعلى ذرى العدمية بعد ما تعرضوا له من إبادة غير مسبوقة، لم يغيّر شيئاً في العالم، ولم يدفعه إلى تغيير استراتيجياته تجاه سورية. وهذا أيضاً لم يدفع نخبهم إلى تغيير طريقة فهمها لهذا العالم ولدور بلدهم ضمنه وللاحتمالات المتاحة لدورهم وللأدوار الأخرى فيه. ذاك أن الضعيف محكوم دوماً بتغيير استراتيجياته بما يحد من تداعيات استراتيجيات القوي عليه.
وإذا كان فقدان الأمل من أي دور إيجابي إيراني وروسي منحاز لمطلب تحرّر السوريين قد نحّى جانباً محاولة فهم المصالح الكائنة خلف هذين الدورين، لمصلحة معادلة حربية صرفة، فإن التعويل على دور أميركي منحاز للثورة ومطالب دوماً بالعمل على إمالة الكفة لمصلحتها لم يستثر محاولات فهم تستحق تسميتها. على العكس، كلما زاد إمكان تدخل أميركا ضد النظام الأسدي تصاعدت نبرة تأييد غير مشوبة بأي نقدية تجاه هذا التدخل. هذا في حين أن تراجع إمكان تدخل أميركا ضد الأسد، كما حصل أخيراً عندما شكل تحالف بقيادتها لضرب خصم الأسد الأقوى تنظيم «داعش»، استدعى المؤامرة الغربية من جديد إلى ساحات الوصف والتحليل. الدور الأميركي منقاد هنا بمقولات استشراقية وإمبريالية عن الشرق، أنتجها الغرب خلال قرنين. وهي تجعله ضعيف الحساسية حيال حيوات المنتمين إلى هذه المنطقة من العالم لأنهم برابرة ومتوحشون غير قادرين بطبعهم على التحرّر. كلا الموقفين غير صالح للفهم طبعاً، لكنه الإطار الوحيد المتاح له. ألم يقل الفيلسوف الألماني هيغل قبل أكثر من قرنين إن «المجتمع الشرقي لم يعرف من الحرية إلا حرية الحاكم (…) والكل عبيد يأتمرون بأمره». من هنا، ربّما، بدأت المؤامرة.
والحال أن نقد محاولات فهم الأدوار الخارجية من جانب أهل الثورات، لا يعني إطلاقاً الذهاب مذهب تبرئة هذه الأدوار. وهو لا يدعي بالضرورة أنه يمتلك الفهم الحق لها. فعملية الفهم مسألة ديناميكية، مقتلها عندما تفقد حركيّتها، فتغدو دوائر فعلها خارج دائرة الواقع المعقّد والمركّب. ولأن السوريين تعرضوا لإبادات موصوفة، تغدو مسؤولية قياداتهم السياسية المعارضة في الاجتهاد السياسي أكثر من غيرهم.
مثلاً، قطع السوريون باكراً مع كل من روسيا وإيران. وباستثناء زيارات لم تثمر غير دعوات ساذجة لروسيا كي تهجر موقفها الأصلي وتعتنق موقف المعارضة من النظام، لم تتواصل المعارضة السورية مع إيران. وهذا تمييز غير مفهوم بين من يزوّد النظام بترسانته العسكرية، وبين من يزوده بالمقاتلين لاستخدام هذا الأسلحة. الأرجح أن غلبة الانتماء الإسلامي السنّي حكمت هنا لمصلحة إمكان التواصل الصوري مع روسيا على أساس أنها في التحليل الأخير مسيحية، وبطريقة ما «غربية»، فيما حال هذا الانتماء دون فتح قنوات تواصل مع إيران الشيعية، بصفتها العدو المذهبي الأبدي. طبعاً، حجة أن موقف الدولتين من الثورة لم يكن ليتزحزح تحت أي ظرف، موقف جوهراني، ولا يمت إلى السياسة بصلة. ففي السياسة ليس المهم مع من تتحدث، بمقدار ما أن المهم نجاحك في تقريب وجهات النظر بينك وبينه، بحيث يتفهم مصالحك مقابل أن تتفهم مصالحه. أمّا درجة تفهم كل طرف موقفَ الآخر فتتحدّد بميزان القوى حصراً.
على أنه إذا كان موقف المعارضات السورية من الدورين الروسي والإيراني في سورية حاسماً منذ البداية، فإن موقف غالبيتها من الدور الغربي و/ أو الأميركي مرّ بمحطات من الأمل والإحباط مروراً بالخيبة المطلقة وصولاً إلى العدمية القصوى. فعندما دعا الرئيس الأميركي باراك أوباما الأسد إلى التنحي في آب (أغسطس) 2011، اعترت السوريين نوبة أمل هستيرية. ظن أكثرهم أنه إذا لم يتنحّ الأسد، فإن أميركا – أوباما ستنحّيه. في أذهانهم تجربة بوش الابن مع الرئيس العراقي صدام حسين، غير آبهين بحقيقة أن أوباما جاء رئيساً على أساس عناوين وشعارات متضادة مع حملات بوش العسكرية. لكن أميركا هي دائماً أميركا، مهما جرت مياه من تحتها.
وقد بلغ أمل السوريين بأميركا ذروته عندما بدأ التخطيط لضرب النظام السوري إثر استخدامه السلاح الكيماوي ضد شعبه. هنا أيضاً لم تتصور المعارضة أن أميركا قد تتراجع عن ضربتها، وبدأ بعضها يعد العدّة للهجوم على دمشق، والاستيلاء على قصر المهاجرين قبل غيرها. تراجعت أميركا، بعد صفقة روسية قضت بتدمير النظام أسلحته تلك. أصيب السوريون، نخباً وعامة، بالإحباط. لكن، لم تقم محاولة جدية لفهم دوافع الضربة والتراجع عنها على السواء. كما لم تقم محاولة لفهم أين تتقاطع المصالح الأميركية والروسيّة في سورية وأين تتنافر حدّ الصراع الكامل.
نصل الآن إلى العدمية القصوى. وهي كانت ردّ فعل أخلاقوياً على قرار أميركا تشكيل تحالف دولي لضرب «داعش» في العراق وسورية. لم تجد غالبية النخبة السورية المعارضة ضرورة لفهم الأسباب التي دفعت أوباما إلى قيادة تحالف ضد الإرهاب لا يتنافى مع عناوين انتخابه، وعجزه عن تشكيل تحالف مثله لتحرير السوريين من طاغيتهم. كما لم يحاولوا فهم أسباب الاندفاع الأميركي الكبير تجاه العراق في مقابل البطء النسبي تجاه سورية. رأوا في التحالف الدولي مقدمة لفتح بازار مع الأسد، وبالنتيجة مع رعاته، سيفتح الباب أمام تقدم قواته في مناطق جديدة. وذلك بغض النظر عن تشديد الأميركيين على أن استراتيجية ضرب «داعش» في سورية يجب أن تراعي متطلبات عدم تقدّم الأسد. في كل الأحوال، قلّلوا بطريقة غير مقنعة بالمرّة من خطر «داعش» الكبير على بلدهم والعالم في آن.
ما تقدّم محاولة للإضاءة على جانب أساسي من الجوانب التي أدّت إلى فشل الثورة السورية في تلبية الحد الأدنى من مطالب السوريين في التحرّر. وهذا مسار ليس محتوماً، لكن لا شيء يشي بإمكان عكسه حتى الساعة.
شرط استعادة الأمل التخلي عن المنطق المانوي الذي يقسم العالم إلى خير وشرّ. علينا جميعاً توجيه عقولنا نحو اكتشاف ما بين هذين الاثنين من احتمالات أكثر غنى. لعل بعض الضوء يظهر في أفقنا.
* كاتب وصحافي لبناني