الأزمة السورية بين التنظير والتفكير
غادا فؤاد السمّان
مخطيء تماماً من يعتقد أنّ الأزمة السورية، قد بدأت تزامناً مع موسم الثورات العربية، وبائس جداً من يظنّ أنّ مجرّد ‘الاعتراف ‘ بالأخطاء التي ارتكبها رجال الدولة هو الحلّ، فالأزمة السورية بدأت منذ تمادي اللغة في تكريس العائلة الحاكمة عندما رُفِعَ شعار ‘إلى الأبد يا أسد’، وهو شعار يتنافى ومضمون الدستور العام للجمهورية العربية السورية، الذي ينصّ على فترة حكم محدودة زمنياً ومرهونة بانتخابات حرّة ونزيهة، إلا أنّ تعاقب الأزمنة الانتخابية لم تكن بقرار الشعب وحده، بل كانت قرارات الحكومة نفسها عندما كانت ولا تزال تهيمن هيمنة تامّة على صناديق الاقتراع وتتجلّى هذه الهيمنة بنتائج الصناديق التي ما إن تُفضّ حتى يكون الحسم النهائي بنسبة مُدهشة ومذهلة ومستفزّة في آن معاً، إذ لم تنقص في يوم من الأيام عن 99،99′.
وهذه النسبة لو تناولناها منطقيّاً لاستعصى حصولها للاتفاق حول شرعية ‘نبيّ مُرسل ‘ لا حاكم منتخب وحسب، ولم تكن محاولة الاعتراض في حينة على النتائج المذكورة سوى عملية انتحارية تقود صاحبها للتهلكة لا محالة، وهكذا شاع الصمت وتفشّى الخوف كقاسم مشترك وحيد، أجمع عليه جميع فئات الشعب بمن فيهم رجالاً ونساءً، وشباباً وشيباً، ابتداءاً بالطفولة التي كانت تنشئتها برسم حزب البعث والذي بدوره أخذ على عاتقه تنشئة جيل بأكمله تَنشِئةً عقائدية ديماغوجية تنطلق من مبدأ التبعيّة التامّ لأبّ واحد وقائد مُطلق مُلهم اسمه ‘حافظ الأسد’.
وهكذا صار لزاماً على الجميع شعور التبعيّة معجوناً بحسّ الامتنان مع كامل فروض الطاعة وبذل ما أمكن من الاجتهاد لتقديم حسن السير والسلوك لصالح الحاكم وحاشيته المتمثلة بالعائلة الحاكمة والخلّص ممن حولهم على غرار العائلات المالكة والنُظم الملكية، بعيداً كلّ البُعُد عن صالح الذات التي بلغت حدّ الانكار في كثير من الحالات، بعدما تعزز تفعيل الروح الوطنية والقومية والعقائدية التي ألزمت المواطن بهموم الحاكم بالمفاضلة مع الهموم الشخصية، وكانت هموم الحاكم تتلخّص بقرار الصمود مرّة والمواجهة مراراً، ناهيك عن الشعارات التي كانت تتجلّى بتفعيل دائم ومتكرر ومستمر لمنطلق التصدّي، وتكريس مفهوم الصمود بشكل متواصل، حتى أدمن المواطن هذا المعنى وراح يصمد ويصمد ويصمد ويراوح مكانه لأكثر من أربعة عقود ويزيد من المراوحة والصمود، ولا ينفكّ يسمع بتكرارٍ رتيب عن مواجهة مؤجّلة تباعاً، وظلّت المواجهة صامتة ومنكفئة ولم تتعدّ حدود الهدنة والتهدئة وضبط النفس والاحتفاظ بحقّ الرد لحين لم يأتِ وإن من باب رفع العتب مثلاً، حتى ‘اطمأنّت’ إسرائيل العدو المفترض للجار السوري الهاديء هدوءاً مزمناً كدولة وكشعبٍ وكنظام، بينما ظلّ القلق والتقشّف والصبر قدر معظم السوريين كشعب فقط، لينصرف من يمثله في أركان الدولة ومفاصلها العتيدة إلى استثمار وقت الدولة الذي لم يكن لانتهائه حساب، واستثمار جهد المواطن الذي لم يكن له قيمة تُذكر، وخيرات البلاد ومقدراتها التي لم يكن لأحد أن يجرؤ بمجرّد السؤال ‘من أين لكَ هذا ‘ مع أنّ المظاهر المُستفزّة كانت تتحدّى قدرة المواطن على الصمت وتراهن على تقهقره أمام القمع المتواصل، وصار كل شيء في مؤسسات الدولة بثمن، فكلّ طموح وكلّ حلم وكل أمل وكل تفاؤل وكل خطوة وكل تحرّك قابل للبيع والشراء بجدلية خارجة تماماً عن المنطق، ومكرّسحة لصالح الرشوة التي أوصلت الخطاب العلني على لسان الرئيس بشار الأسد للإفصاح عن انتشار الفساد انتشاراً ضارياً، لم يترك له مناسبة إلا وانهال على الشعب بالوعود المتراكمة والمتناوبة ما بين وترين بمنتهى الحساسية بالنسبة للمواطن ألا وهما الإصلاح والتغيير.
وانتظر المواطن الإصلاح ليأتي إلا أن الفساد استغّل الفترة المديدة ما قبل الإصلاح الذي لم يأت منذ عقد ويزيد من الزمن فتمادى الفساد في غيبة الإصلاح وهزء المتنفذين والمتجذّرين في السلطة ونظامها المماطل من دعابة التغيير، كونهم هم أنفسهم القيّمون على تحريك دفّتي الإصلاح والتغيير، وبذلك كانوا يعمدون إلى تعويم الحدث، وتجميد المراحل، فالضامن الأكبر هو تأبيد النظام، واستحالة زحزحته، بعدما يئس الجيل المتعاقب عن الجيل الذي أورثه الخيبة، وصار الاستسلام للقدر المحتوم الذي لا مفرّ منه سيّد الموقف والآمر الناهي المتحكّم في مصير الوطن الذي كان يكبر ليتسع لممثلي البعث ورجالاته الأشاوس.
ليضيق بالتالي في وجه المواطن الذي فقد السُبل في إيجاد طموحه داخل وطنه وصارت تطلعاته عِبْئاً عليه ومحكومة سلفاً إمّا بدفع الضرائب الباهظة أو بالفشل المُسبق، لأنّ التطلعات مادة غير مستهلكة وغير فعالة إذا كانت مجرّدة من أهم عناصرها ألا وهي ‘الواسطة ‘ التي غربلت أبناء الوطن الواحد، وأعطت الأولوية سلفاً لأبناء الطائفة الحاكمة أولاً، والبعثيين دائماً وإلى ماشاءت المصالح والتجاوزات وصولاً إلى حدّ الاستهتار ليس بالمواطن الذي يدرك كل شيء ويحتفظ بفضيلة لابدّ منها اسمها الخرس، بل بترييض الرقابة العامة وإدراجها في لوائح المستفيدين علناً والمستفيدين بلا كلل أو ملل، ومع انعدام أخلاقيّة رجل الدولة وممثّل السلطة، وفقدان مناقبيّته ومبدأه وضميره الرادع تفّشت الأمراض الاجتماعية وسادت كالوباء المستشري الذي لا يمكن القضاء عليه، ليحتلّ الغالبيّة العظمى من مؤسسات الدولة والدوائر الحكوميّة كواقع لا يمكن معالجته رغم كلّ الحملات الدعائية والدعوات الصادقة أو المراوغة التي كانت تصدح عند مفارق كل أزمة عابرة تحمل معها مهدّئاً آنيّاً للمواطن الذي يستكين على مضض وغصّة من باب ليس بالإمكان أفضل مما كان، ومع اختبار قدرة المواطن على الصبر وامتحانها المتواصل ونتائجها المُرضية على الدوام أمام ممثلي السلطة أتاح الفرصة الشاسعة لتمرير الأسوأ وطلاق العنان للتمادي بحقّ المواطن باستباحة كرامته حين عمدوا إلى إلزامه فروض طاعة النظام غير القابلة للمساجلة أو للمحاكاة أو للنقض أو الانتقاد، أضف إلى زعزعة كبريائه باسم حفظ النظام والأمن، فلا المثقّف ولا السياسي ولا حتى المواطن العادي كان بوسعه أن يستقريء الوضع داخل البلاد ويتناول ما يحصل من تجاوزات إلا ويكون عرضة للاعتقال بحكم قانون الطواريء الذي تمّ إلغاؤه بعد الحراك الشعبي العارم نتيجة الضغط الكبير الذي مارسه ممثلو النظام الأمر الذي أوصل المواطن إلى الشارع بعد تردد كبير دام لعقود.
لكنّ تفجير الوضع والخوض في الأزمة لأكثر من ستة أشهر متتالية أُريقَ من خلالها الكثير من الدماء السوريّة لم تجد معه الحكومة المعروفة بصرامتها سبيلاً إلى ضبط الشارع على الرغم من استنزاف الجيش السوري وانتشاره الكثيف عبر المناطق السورية الممتدة على كافة الأراضي الشمالية والجنوبية والشرقية والغربية، ومع كل محاولة كبح للمظاهرات المتفاقمة التي ساعدت وسائل الإعلام في تسريب المشهد الداخلي المحجوب رسميّاً والمنتشر إعلاميّاً بحكم تعدد وسائله من فضائيات وأنترنيت، ووقع ابناء الوطن الواحد في مغبّة التأييد والموالاة والنظام ومتاهة الرفض والمعارضة للنظام ورئيس البلاد مما ساعد في تصعيد الخلاف وتوتير الأجواء وانتهاج المواجهة كمنهج حتمي التي وصلت إلى حدّ إشهار السلاح والتصفية الجسدية متلازمة مع التصفيات المعنوية التي اعتمدتها الجيوش الجرارة على صفحات التواصل الاجتماعي ‘الفيسبوك والتوتير’.
أوقعت الوطن والمواطن فيما لا تحمد عقباه، وأربكت معها السلطة التي لم تعد تجد سبيلاً للتراجع، وما مضيّها قُدُماً إلا ضرب من ضروب الكارثة الحقيقيّة التي ينتظر إعلانها الرأي العام العالمي نقلاً عن الأمم المتّحدة، التي أتاح لها النظام التصرّف بحزم لم يكن ليأمله أو يتوقعه منها وهو الملتزم بالمعاهدات الدولية والصفقات المُبرمة تِباعاً فوق الطاولة وتحتها في خطّ متوازٍ على جميع الأصعدة جعل النظام بمأمن لمدّة رئاسية لا يٌستهان بها إلا أنّ قمع الشارع السوري بكلّ القمع الممكن أجج استنكار الجمعيات الحقوقية المتعلقة بحقوق الإنسان وراحت تمارس الضغط على الأمم المتّحدة بمساندة الحقوقيين السوريين الذين عانوا أصلاً من الاعتقال التعسفي لأكثر من مرحلة من مراحل الصراع مع السلطة الذي كان ينتهي دائماً بصمت وبقليل من التسريبات للرأي العام العالمي ويحسم نتائجه لصالح السلطة بالاجمال.
إلأ أنّ الحال لا يمكن أن يظل على ما هو عليه في ظلّ الأزمة التي لم تعد تقتصر على أفراد أعلنت تمردها على النظام، بل يكاد الشعب السوري باستثناء فئة لا بأس بها مستفيدة من النظام وموالية له جعلته ممن يناهضون الحالة الثورية المنشرة في ارجاء سوريا قاطبة، والسؤال الذي يفرض نفسه لو النظام لجأ إلى سياسة ضبط النفس وعمد إلى الإصلاح والتغيير العاجل بما يتلاءم وضرورة تلافي الحال المتردي بسرعة فرضتها الأجواء المحيطة والجهات الخارجية المُسمّاة بالمتآمرة وهي التي أعلنت تآمرها منذ سنوات دون مواربة وكانت أكثر من صريحة بشأن المنطقة العربية وأنظمتها المتهالكة التي لم تعد تتماشى ومتطلبات العصر والعجز الفاضح تجاه الجيل الشاب الذي يعاني الخيبة والانكسار واليأس والتهميش والتضييق والإهمال مما يجعله قنبلة موقوته أشدّ فتكاً من الرؤوس النووية المزروعة على امتداد خطوط الطول والعرض.
لهذا كان لا بدّ من تنفيس الغضب الصامت المكبوح آنيّاً بتفجير فتيل الثورة داخل المنطقة العربية قبل الالتفات إلى إسرائيل المزروعة بعناية فائقة داخل الكيان العربي المعدّ للتطهير من كافّة أشكال الرفض، وبدلاً من تبديد الضغط العالي في زعزعة الكيان الإسرائيلي، كان لا بدّ من اقتلاع الأنظمة العربية من جذورها والقضاء على آخر ملمح من ملامحها بالإعدام كما في الحالة العراقية، وبالمحاسبة والمقاضاة كما في الحالة المصرية والنفي والإبعاد كما في الحالة التونسية والليبية واليمنية، ومن يعلم ماذا ينتظر الحالة السورية التي لم تحسم نتائجها رغم كلّ الحراك المتواصل في الداخل السوري والخارج الممتد على أكثر من قارّة والذي اظهر فجأة اسماء وشخصيات لم يكن يخطر ببال أحد أنها على علاقة بالشأن السوري أصلاً ناهيك عن التقافز الذي شاع مؤخّراً لانتهاز الفرص التي يتيحها الدعم الخارجي الأميركي من جهة والأوربي من جهة أخرى، والمحرّك الاساس قوّة الدفع المتوفّر بالدولار واليورو والليرة ومن يعلم ماذا أيضاً، ولا يخفى على أحد أن المعارضة السورية قد نشأت ضعيفة منذ البداية لعدم التوافق على الصالح العام الذي يخصّ الوطن والمواطن فعليّاً.
إذ ظلّت الأطماع الفردية والشخصانية المتفشيّة بين المثقفين عموماً هي السمة الغالبة لإيقاع الحريّة المنشود نظريّاً والمهزوز عمليّاً، وعلى الرغم من إخلاص الشارع السوري لمبدأ الحرية واعتبار الخلاص هو ذاك القادم على يد المُنظرين الجُدد، مما حدا بالشباب السوري للتضحية الحقيقيّة لبلوغ الاستشهاد، الفرصة التي أتاحت للمعارضة الخارجية بحمل الرأي العام على التدخل البطيء نسبيّاً برأي المعارضة التي تطالب بالمزيد ومهما كان الثمن، كل ذلك يجعلني وكثيرين مثلي نقع فريسة سائغة في فكّي الحيرة والمتابعة من خلال الهامش الأوحد المتاح عبر الشاشة الصغيرة والصحف والمواقع الألكترونية، فالنظام يعتبرني وأتحدث هنا عن نفسي على الأقل يعتبرني خصما غير قابل للترييض أو التبعيّة، وأيضاً المعارضة تتفادى وجودي لأنها تعلم علم اليقين أنني لن أكون مجرّد أداة أو بوق أو رقم زائد على لائحة التوقيع وهذا أمر يعلمه تمام العلم بعض ممن كان لهم تواصل معي من أسماء طويت في أعطاف المرحلة الراهنة وأسماء استعادت تلميعها وسائل الإعلام المواكبة، أين تكمن الأزمة إذاً؟
الخوف من الحالة السورية أن نيّة الصراع على السلطة هو الحلم المُتجدد لدى حملة الشعارات المُستجدّة، ورغم أمانة الشارع والشباب السوري بتكريس الثورة إلا أنه خلاف التجربة المصرية، فالشباب المصري كما الشباب اللبناني لديه الوعي السياسي الذي لم يترك فرصة للتعبير عنه في الكثير من المواقف والحقبات من تاريخ الدولة اللبنانية بحكم تعدد الأحزاب وشرعيتها على الأرض اللبنانية وممارستها بحرية معقولة نسبيّاً، أيضاً الحالة المصرية تعتبر أكثر وعياً لتوفّر أحزاب المعارضة وحريتها في ممارسة قناعاتها على أرض الدولة المصرية منذ تأسيسها، بينما الشباب السوري لم يعتد حتى أكثر معارضيه غلوّاً ضدّ النظام والسلطة على فتح باب الحوارات العامّة بعلنية تصل أكبر شريحة ممكنة من الشعب والشباب السوري في نطاق عريض، مما أدخله لفترات طويلة من الجهل السياسي محلياً وخارجيّاً أدّى به إلى اللامبالاة واللااكتراث السياسي إلا من حذا حذو الدولة وتلقّن منها كلّ ما يجب أن يُقال بحرفية عالية، خلاصة القول ليس المهم أن يصمد النظام أو أن يتردّى فما من حكم دام مهما طال والتجربة العثمانية خير دليل حين بلغت أربعة قرون زمنية وليس مجرّد أربعة عقود من الزمن.
لكن المهم المعارضة الحالية التي بدأت خلافاتها بين إسلامويين وعلمانيين تطفو على السطح، ناهيك عن حملات التأييد الهزلية كحملات التأييد لإنجاح مرشحي السوبر ستار بتسمية رئيس للجمهورية العربية السورية دفعة واحدة صارت صوره المختارة بعناية تتصدّر هوامش النت ومتنه كمن يروّج لمطرب من الصفّ الأول، والمروجون للمرشح البديل يجهلون تمام الجهل ما يحمل هذا القادم للإصلاح من خارج الفلك السياسي وهو لا يملك أجندة حقيقيّة تخصّ الوطن، بل يمكن أن يكون لديه أجندة مؤقّتة مستعارة من بلد الإقامة، ليس المهم أن نقتلع رئيساً لسوريا أخفق في مفهوم الإصلاح وتورّط في مغبّة العنف الرادع الذي لم يجدِ نفعاً بل أضرم السوء وضاعف الأزمة، وليس المهم أن نستورد رئيساً آخر لسوريا يجيد البهلوانية العالية في تصدير المشهد عبر وسائل الإعلام كما يفعل أي شاهد عيان مبتدأ بالمنهج التنظيري الذي يمتهنه سواه، المهم الآن تثقيف الشعب ليكون وحده الفيصل لكل ما يدور على أرض الوطن، ويكون الجدير بحريته كمطلب إنساني يؤسس لكيانية حقيقيّة تعيد للوطن هيبته وللمواطن كرامته المهدورة منذ أمراض وأمراض لا ينقصه إضافة المزيد منها.
‘ كاتبة من سورية
القدس العربي