الأزمة في سورية تهزّ المشرق
بول سالم *
بعد فترة من الهدوء في الأشهر الثلاثة الأولى من الربيع العربي، دخلت الاحتجاجات في سورية أسبوعها الثامن. وقد قُتل حتى الآن المئات وجُرح الآلاف. وتقول السلطات السورية إنها حسمت الأمر لمصلحتها في الأيام الأخيرة، إلا أن أيام الجمعة أصبحت تعج بمفاجآت وتحديات متكررة.
في البداية بدا النظام وكأنه يقتدي بالنموذج الجزائري، من طريق السعي إلى إحداث توازن بين وعود الإصلاح وبين ممارسة أعمال قمع محدودة. بيد أن ردّ الفعل المُفرط لمسؤولي الأمن في درعا على ما كان في البداية مجرد خرق طفيف من جانب فتية يافعين من المدينة، أدّى إلى انتفاضة شعبية هناك، ومن ثَمَ أدّت الأحداث في درعا إلى احتجاجات متعاطفة في أنحاء البلاد، وأصبح فتية درعا الذين تعرّضوا للتعذيب على أيدي قوات الأمن المحلية «محمد بوعزيزي سورية»، فيما أصبحت درعا «سيدي بوزيد».
أطلقت أحداث درعا – كما هو الحال في بلدان عربية أخرى – العنان للاحتقان المكبوت منذ فترة طويلة ضد القمع، والفساد، وغياب الديموقراطية، والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الصعبة لشرائح واسعة من السوريين. وبصرف النظر عن كيفية تطوّر الأمور ومآلها، لن تعود الظروف في سورية إلى ما كانت عليه منذ أشهر. وعلى الحكم في سورية، كيفما تتطور ذلك الحكم، أن يأخذ في الاعتبار المطالب – التي أصبحت عربية شاملة – الخاصة بإقامة حكومات أكثر مساءلة وديموقراطية، ومجتمعات أكثر حرية، وسياسات اجتماعية واقتصادية أكثر عدالة.
وإذا ما تعلمنا شيئاً من الانتفاضات العربية، فهو أن من الصعب التنبؤ بمساراتها. إذ فاجأ الناس حكوماتهم كما فاجأوا أنفسهم، كما تختلف ظروف كل بلد عربي. ومع ذلك تتبادر إلى أذهان المتابعين الشأن السوري سيناريوات عدة:
أولاً: إن محاولة النظام ترويض الاحتجاجات بالقوة قد تنجح لفترة ما، كما هي الحال في إيران منذ انتخابات عام 2009، لكن هذا التعاطي الأمني لا يحلّ المشكلة في شكل جذري أو نهائي، بل هو يؤجّل فقط موعد التعامل مع القضايا السياسية الأساسية التي أثارتها الاحتجاجات.
السيناريو الثاني: هو أن بعد هذه الموجة من الاشتباكات الدامية، قد يعود الرئيس الأسد إلى ما كان قد تحدّث عنه في وقت سابق في شأن تنفيذ رزمة متكاملة من الإصلاحات السياسية. وإذا ما فعل – بما في ذلك الإفراج عن السجناء السياسيين، وإطلاق الحريات المدنية والصحافية، والتعددية السياسية، وإجراء انتخابات حقيقية، والتي هي من بين المطالب الرئيسة للمعارضة – فقد يمثّل ذلك مخرجاً حقيقياً وطريقاً إلى الأمام.
يتمثّل السيناريو الثالث، في حال فشل المقاربة الأمنية واستمرار الاحتجاجات في التصاعد، في أن يواجه النظام لحظة مثل تلك التي واجهها النظامان في كل من تونس ومصر، حيث قرّرت قيادات ومؤسسات داخل النظام أن من أجل إنقاذ النظام لا بد من التضحية بعناصر أساسية منه. في مثل هذا السيناريو، قد يتحرّك قادة في القيادة السياسية و/أو الأمنية و/أو الحزبية سعياً لإزاحة شخصيات رئيسة مرتبطة بالقمع والفساد، ويقدمون إلى الشعب السوري عقداً سياسياً جديداً، مشابهاً لذلك الذي قُدّم في مصر وتونس، يقوم على إصلاح دستوري وانتخاب سلطات مدنية فاعلة، جنباً إلى جنب مع استمرار دور للقوات المسلحة.
السيناريو الرابع، وهو الأخطر، يتمثّل في تصاعد دوّامة الاحتجاجات والقمع والتحوّل إلى الاستقطاب على أسس طائفية وعرقية، ما قد يُفضي إلى حرب أهلية ممتدّة وانهيار الدولة. مثل هذه التطورات حدث في السابق عند جيران سورية، العراق ولبنان، وهو احتمال يلوح في الأفق بالنسبة إلى سورية.
لقد ألقت الأزمة في سورية بظلالها الكثيفة على المشرق. ففي لبنان، تسبّب عدم اليقين في شأن المسار المستقبلي للأحداث في سورية بمزيد من التأخير في عملية تشكيل الحكومة، بحيث أصبح توازن القوى بين فريقي 8 و14 آذار (مارس) موضع شك. ويشعر حلفاء سورية الذين سجّلوا أخيراً انتصاراً عبر إسقاط حكومة سعد الحريري في كانون الثاني (يناير) الماضي بخطر تعثّر القوة السورية. وتشعر حركة 14 آذار التي أدركت قبل بضعة أشهر بأنها مُنِيت بهزيمة نكراء، بأنها صارت أكثر تمكّناً. ومع ذلك، ثمّة مخاوف من أن إذا تم إضعاف الحكومة السورية فإن «حزب الله» – بدلاً من حشره في الزاوية – قد يستخدم قوته لحسم الوضع الداخلي لمصلحته. القلق الأكبر في لبنان يتمثّل في خطر نشوب حرب أهلية في سورية، التي إذا ما بدأت فقد تمتد إلى لبنان، مع ما لذلك من عواقب وخيمة على البلد بشرائحه وطوائفه كافة.
في هذه الأثناء، تدهورت العلاقات بين سورية وتركيا. إذ كانت تركيا قد استثمرت كثيراً في علاقتها مع الحكومة السورية، ورأت في سورية بوّابتها إلى العالم العربي. وقد أعربت الحكومة التركية في وقت مبكر عن تأييدها الرئيس الأسد، لكنها حضّته على تنفيذ إصلاحات كبيرة. وعندما لم تتم رزمة الإصلاحات وحلّت المقاربة الأمنية محلّها، أعربت أنقرة عن خيبة أملها.
من جهة أخرى، اشتكت الحكومة في دمشق، من أن تركيا كانت تتصرّف بطريقة متعالية وتُملي على سورية سياستها. كما شعرت بالغضب على وجه الخصوص بسبب اجتماع المعارضة السورية الذي استضافته تركيا في اسطنبول، وضمّ «الإخوان المسلمين» فضلاً عن جماعات إسلامية ومعارضة أخرى. واتّهم بعض المعلّقين المقربين من سورية حزب «العدالة والتنمية» التركي الحاكم بأنه يحاول بناء نفوذه في سورية ومصر من طريق دفع «الإخوان المسلمين» إلى لعب أدوار قيادية في تلك البلدان، وهدّدت دمشق أيضاً بأنها يمكن أن تُشجّع اضطرابات الأكراد والعلويين في تركيا، في حال أصرَّت أنقرة على تشجيع «الإخوان المسلمين». والواقع أن هذه التوتّرات قد تخرّب العلاقة السورية – التركية التي تم بناؤها بشِقّ الأنفس خلال العقد الماضي بعد قرن تقريباً من العداء.
وأرسلت دول مجلس التعاون الخليجي مبعوثين عدة إلى سورية، مُعربة عن «دعمها أمنَ سورية، ومسيرةَ الإصلاحات بقيادة الرئيس بشار الأسد». وهذا يعكس على الأرجح امتنانها لدعم سورية – في تعارض مع الموقف الإيراني – لما قامت به دول مجلس التعاون في البحرين، وقلقها العام من أن الموجة الثورية قد تنتشر من تونس ومصر باتجاه المشرق العربي والخليج. وفي الواقع، نحن ربّما ندخل الآن مرحلة مشابهة لمرحلة الخمسينات والستينات عندما كانت مصر ودول الخليج تمثّل أنواعاً مختلفة من الأيديولوجية والأنظمة السياسية.
أثّرت الأحداث في سورية كذلك في الفلسطينيين، حيث إن «حماس» امتنعت عن اتخاذ موقف من المواجهات السورية، ومضت قدماً في التوصل إلى اتفاق بوساطة مصرية مع حركة «فتح» من دون التنسيق مع دمشق. وقد كسبت «حماس» صديقاً في مصر الجديدة، وربما تقلّص علاقتها مع دمشق في المرحلة الحالية.
وفي الوقت نفسه، يشعر الأردن بالقلق إزاء ما يجرى في سورية، خوفاً من الانجرار إلى سفك الدماء وعدم الاستقرار في الجوار، وهو يأمل في أن تتمكّن الحكومة من احتواء الأزمة، ليس فقط من خلال المعالجة الأمنية بل من طريق المضيّ قدماً بإصلاحات ضرورية لبناء استقرار فعلي ومستدام.
وتبدو إسرائيل والولايات المتحدة متردّدتين. فهما ليست لديهما صلة خاصة بالحكومة السورية التي تمانع الاحتلالات الإسرائيلية وسياسة الولايات المتحدة في المنطقة لسنوات، لكنهما تخشيان أيضاً من تحوّل إسلامي في سورية في حال انهيار النظام الحالي. وقد أعربت واشنطن عن سرورها إزاء موقف سورية في شأن البحرين، ولا تزال وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون تأمل بأن يتمكّن الرئيس الأسد من تنفيذ إصلاحات سياسية. لكن موقف الإدارة الأميركية قد يتبدل تحت ضغط الكونغرس والرأي العام إذا تجدّدت المواجهات الدامية.
من الواضح أن الأزمة كلّفت سورية حتى الآن ثمناً باهظاً من حيث الخسائر في الأرواح والإصابات، والاستقرار الداخلي والازدهار، وأضرّت أيضاً بعلاقات البلاد الخارجية.
إن السيناريو الأمثل هو قيام الرئيس السوري بتنفيذ الإصلاحات السياسية التي وعد بها وأصبحت مطلب الرأي العام السوري والعربي. فهذا سيوفّر وسيلة إيجابية للخروج من الأزمة الراهنة ويشكل ليس فقط صيغة جديدة للحكم والمشاركة والاستقرار والعدالة في سورية، بل أيضاً حلاً وضمانة للمجموعات والشرائح التي تدعم النظام خوفاً على مصيرها إذا أتى التغيير عشوائياً.
ليست هذه هي المرة الأولى في التاريخ العالمي الذي يضغط فيه شعب على نظامه ليصبح أكثر ديموقراطية، إذ مرّ معظم ديموقراطيات العالم في هذا المنعطف التاريخي. لكن بالإمكان تحقيق التغيير من دون سفك دماء وعبر إدراك ضرورة التطور ومجاراة التحوّل التاريخي. لا أحد يريد لسورية مزيداً من التأزم، لكن المواطن العربي الحديث يريد لها المضي قدماً في بناء الشراكة السياسية والاجتماعية الحقيقية التي نادت بها انتفاضات تونس ومصر ويستحقها كل عربي. ولأن سورية طالما اعتزت بأنها قلب العروبة النابض، فإن هذا القلب ينبض اليوم بمطالب الحرية والمشاركة والعدالة. أملنا في أن تساهم سورية في بناء المستقبل العربي الجديد، لا أن تكون خط الدفاع عن أنماط وأساليب الماضي.
* مدير مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت.
الحياة