الأصوليات الدينية وخطرها على الحريات/ وليد خوري
تنشغل المنتديات الفكرية، والمجتمع الثقافي عموما، بظاهرة الأصولية الدينية، وهي وإن كانت جذورها ضاربة في جميع الأديان وفي الإيديولوجيات الوضعية بما هي أديان بديلة عند معتنقيها، يبقى العنوان العام صيغة للإشارة إلى مراد خاص هو الأصولية الإسلامية التي تشغل المكان وتملأ الزمان، وقد درج استعمالها بإطلاق وعلقت عليها مأسي الدنيا والآخرة. غير أن مقتضيات الموضوعية، توجب النظر إليها من باب العلم، وحيثيات الإستخدام، بعيدا من الأحكام الفكرانية المتعسفة.
الأصولية لغةً، هي نسبة إلى أصول، والأصول جمع أصل، والأصل “أسفل كل شيء” وقيل فيه: ما يبنى عليه الشيء، فعلم أصول الفقه ما يبنى عليه الفقه، والأصولي هو الذي ينظر في أدلة الأحكام وفي القواعد التي يعتمدها الفقيه والمفتي في حكمه وفتواه.
وإذا كان الدين، كل دين، ينبني على أصول، فإن القرآن والسنة هما الأصلان الثابتان اللذان يقوم عليهما الدين الإسلامي، وبعلة مستخرجة منهما يترجح حكم الإجماع أو الإجتهاد باعتبارهما أصلين إضافيين يغطيان الوقائع والمستجدات التي لا حكم لها في القرآن والسنة. وعليه، فالأصولية بما هي عودة إلى الأصول، مسلك يقطعه كل مؤمن بغية تأصيل علمه وتحصين عمله في ضوء أحكام العبادات والمعاملات المدبرة لشؤونه في الدنيا والآخرة.
هذا الجانب المعرفي والمنهجي للأصولية هو موضع اتفاق بين جمهور العقلاء وأهل العلم. رمي حامله بالأحكام السلبية وإلباسه تهمة العداء للحريات، فيه شيء من التجني إلا إذا كان رافضو الأصولية، يرون إلى الإسلام دينا يتعارض مع الحريات العامة، وهذا بحث آخر له مجاله وله وقته.
* * *
قراءة الأصول، هي بيت القصيد، باعتبارها سعياً في سبيل القبض على مراد المتكلم (الله). تتحقق معضلة التطرف عندما يحاول القارئ أن يحتكر مراد المتكلم، قل عندما يقرأ في الأصول مراده ويدّعي أنه مراد المتكلم وأن المخالف له كافر أو مبتدع.
تتفاقم المعضلة عندما يحمل القارئ الذي يصح أن يكون فرداً أو حزباً أو جماعة، مشروعاً سياسياً يسعى إلى جعله مشروع المتكلم، من خلال قراءة للأصول يجمع فيها ما يناسبه من آيات وأحاديث يعتبرها محكمات وصحيحة، ويؤول في ضوئها الآيات والأحاديث التي لا تخدم مشروعه من باب اعتبارها آيات متشابهات وأحاديث ضعيفة ومشكوكا في صحة إسنادها.
وعليه، فإن مشروعه السياسي المغطى بالعباءة الدينية هو في رأيه واعتقاده مشروع المتكلم (الله)، وكل خروج عنه، أو اختلاف معه، هو بمثابة الخروج على إرادة الله. تالياً، يكون بمعنى من المعاني في منزلة التارك أو المبتدع أو المرتد، ومعاقبته، مادياً ومعنوياً، واجب شرعي يقتضي فعله مع إشعار بالعقاب على تركه.
على هذا النحو وبهذه البساطة، يصادر صاحب هذا النمط من التفكير المختزل للدين والمشوّه لمقاصده، حقوق الله، يستثمرها في صراعاته من أجل السلطة، مسلطاً باسم الدين سيف التكفير على رقاب الناس الذين لا يرون رأيه ولا يعتقدون معتقده.
إن التاريخ الإسلامي حافل بالحركات الدينية المتطرفة التي يتجلى فيها إقحام الدين في السياسة إقحاماً صارخاً، غير أن التقديم لا يستوفي غرضه إذا ما فاتت الإشارة إلى مفاهيم ارتبطت ارتباطا وثيقا بالقراءات الدوغمائية الموجهة لأصول الدين والسلف الصالح.
* * *
رأس هذه المفاهيم، الحاكمية، حاكمية الله، وهي أجلى مظاهر استثمار الدين في السياسة، بعدما استحضرها الداعية الإسلامي السلفي الباكستاني أبو يعلى المودودي (1903-1979) من أدبيات الخوارج الإعتقادية والسياسية. انبنى هذا المفهوم على الأصل القرآني، “ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولائك هم الكافرون” (المائدة 44)، وأتبعه بمفهوم “الجاهلية” للتعبير عن إدانته للمجتمع الذي تسود فيه أنماط عيش لا تتطابق مع أحكام الهداية الإلهية. في كتابه “المصطلحات الأربعة” قدم المودودي قراءة سلفية لمفاهيم الإله، الرب، العبادة، الدين، فاستعاد بهذه القراءة تعريف كلمة “المسلم” مضفياً عليها مضامين جديدة. هو يرى أن الناس اليوم ولا سيما أغلب الناطقين بالشهادتين، لا يعرفون المعاني والدلالات التي أتى بها القرآن ولا يدركون “الغرض الحقيقي والمغزى الجوهري من دعوة القرآن”، التي تحمل، في منظوره، ربطاً بين مفهومي “الوحدانية” و”الإستخلاف”، معتبراً أن أساس الدولة الإسلامية حاكمية الله الواحد الأحد، والأرض كلها لله وحده، وهو ربّها والمتصرف في شؤونها. فالأمر والحكم والتشريع كلها مختصة بالله وحده، وليس لفرد أو أسرة أو طبقة أو شعب، بل ليس للنوع البشري من سلطة الأمر والتشريع، ولا مجال في حظيرة الإسلام ودائرة نفوذه إلا لدولة يقوم المرء فيها بوظيفة خليفة الله (المودودي، نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور، دمشق، دار الفكر، 1969، ص77و78)، رافضاً في ضوء ما تقدم، إطلاق وصف الديموقراطية على نظام الدولة الإسلامية، بل يجد أن الوصف المناسب هو الحكومة الإلهية أو التيوقراطية.
انتقل استخدام هذه المفاهيم في ستينات القرن الماضي إلى تنظيم “الإخوان المسلمين” بقيادة سيد قطب، فأضفى عليها طابعا متشددا، إثر محاولة الإنقلاب الاخوانية الفاشلة ضد النظام الناصري.
وجد سيد قطب أن العالم يعيش جاهلية مدمرة، لأنه يتجاهل معنى “لا إله إلا الله”، وأن الحاكمية لله وحده، ويعتبر أن “إعلان ربوبية الله وحده للعالمين معناها الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها” (سيد قطب، معالم في الطريق، بيروت، دار الشروق، ط 1983، ص67)، وينتهي إلى أنه “لا بد من تحطيم مملكة البشر لإقامة مملكة الله في الأرض… ومملكة الله في الأرض لا تقوم بأن يتولى الحاكمية في الأرض رجال بأعيانهم… لكنها تقوم بانتزاع السلطان من أيدي مغتصبيه من العباد، ورده إلى الله وحده، وسيادة الشريعة الإلهية وإلغاء القوانين البشرية” (ص 68). لقد شكّل كتابه “معالم في الطريق” مرجعاً تأسيسياً لجميع الحركات الإسلامية المعاصرة، فانفتح مع هذا الخطاب باب التكفير على مصراعيه، وهو لم يخف موقفه بل أعلنه بصراحة قائلا: “إن الناس ليسوا مسلمين، كما يدعون وهم يحيون حياة جاهلية، ليس هذا إسلاما وليس هؤلاء مسلمين، والدعوة اليوم إنما تقوم لترد هؤلاء الجاهليين إلى الإسلام ولتجعل منهم مسلمين من جديد” (سيد قطب، معالم في الطريق، بيروت، دار الشروق، 1983، ص67).
الله صاحب الشرع، هو الحاكم والحاكمية من خصائص الألوهية، وهي قاعدة مشتركة بين هذه الحركات، تجتمع حولها على مواجهة كل حكم وضعي، وعلى ضرورة العمل من أجل إسقاطه، لأن واضعيه غارقون في جاهليتهم، يتعدون على حقوق الله، ويتجرأون على مشاركته في ألوهيته التي هي له وحده، لكنها تتمايز في أساليب العمل التي تصل عند بعضها، ولا سيما تلك التي نسجت على منوال سيد قطب وخرجت من رحم القطبية، وتحتل راهناً المشهد السياسي المتفجر، إلى التوسل بالعنف في اشكاله المختلفة، وأدواته الفتاكة في سبيل تحقيق أهدافها.
* * *
ثقافة الحاكمية هذه، في تجلياتها الحزبية والتنظيمية، تحاول الإمساك بمفاصل العلم والعمل في الفضاءين السني والشيعي، على امتداد المجتمعات الإسلامية، وهي قابلة لتوليد مفاهيم تصل إلى حد تشريع إعلان الحرب على مجتمع المسلمين، وتشريع الجهاد داخل المجتمعات الإسلامية، بما فيه جهاد النكاح الذي تنتهك فيه حقوق المرأة بحجة مساهمتها المأجور عند رب العالمين، في إطفاء شهوات المجاهدين في سبيل الله. وتنتج مشاريع سياسية يستثمر فيها الدين من أجل الفوز بالسلطة، استثماراً يشوّه الدين ويفسد السياسة. وليست مواكب القتل التي تعبر في أكثر من اتجاه مزهوة بالأكفان الموشاة بعبارات التمجيد والإخلاص للدين والطائفة والمذهب، سوى مشاهد حية ينتشي بها المتلحفون بكلمة الله يرسلونها في مطالع الأقوال والأفعال، قبل القتل وفيه وبعده.
لا شك أن مثل هذا الفكر المناهض لكل مختلف معه، إنساناً أكان أم فكراً أم ديناً، والداعي إلى إلغائه مادياً ومعنوياً، وشطبه من معادلة الشراكة التي يفرضها واقع العيش معا في مجتمع واحد، قل شطب المجتمع الذي يقوم على هذه الشراكة المعقودة تحت سقف الإعتراف المتبادل بين أطرافها، أقول، لا شك أن مثل هذا الفكر، يشكل الخطر الأعظم على القيم الإنسانية وفي طليعتها الحرية. هذه القيمة الجوهرية المتعبة لأهل الإستبداد، يغتصبونها تارة باسم الإيديولوجيا وطوراً باسم الدين، ويتسابقون على التنكيل برافعي رايتها والمؤمنين بها أصلاً، يتهشم بغيابها وجه الإنسانية، وتنسدّ الأبواب إلى الديموقراطية، وتتقطع أوصال العقل بعد اعتقاله، وينزوي الحوار مغلوباً على أمره تحت مظلة السجال المهووس بلعبة إفحام الآخر من أجل إلغائه، وتتبدى الآمال بكل انفتاح على ما أنتجته الحداثة من ثراء معرفي وقيم ثقافية واجتماعية، يحتاجها كل مجتمع يطمح إلى التقدم والتجديد.
النهار