الأغنية في الثورة السورية وعقلية الإلغاء في الإئتلاف/ سليم البيك
من بين الإسقاطات الأوضح التي يمكن أن تعبّر عن الثورة السورية بكل مراحلها وأطرافها، هي الأغاني. والأغاني الجماعية والشعبية هي من بين الأمور التي ميّزت الثورة، تحديداً في مرحلتها الأولى والسلمية، عن باقي الثورات العربية. الأغاني التي ما عدنا نشاهدها خلال المرحلة الأخيرة من الثورة حيث طغت الجماعات الإسلامية كما طغى السلاح.
الموقف من الثورة الأخلاقي قبل أن يكون السياسي والإنساني، هو ما يحدّد كيفية تلقينا وفهمنا لهذه الأغاني، وثورة شعبية كالحاصلة في سوريا لا بدّ أن تستمد أغنياتها من التراث الشعبي للسوريين، بخلاف النوعين الآخرين من الأغاني، النوعين المعبّرين عن الطرفين الآخرين للحرب في سوريا: النظام والأسلاميون، أقول ‘حرب’ لأنها حرب الطرفين المذكورين على ثورة الشعب.
عرضت قناة ‘الجزيرة’ قبل أيام فيلماً أنتجته وأخرجه محمود الكن، يحكي عن هذه الأغنيات، التي انتشرت بين المتظاهرين في سوريا خلال الفترة السلمية، ويُظهر الفيلم في عرضٍ ‘مُقارنَي’ الأصولَ (النسخ الأصلية) التي أتت منها أغنيات المتظاهرين، من حيث اللحن والكلمة، وهي أصول شعبية تماماً متماثلة مع طبيعة الثورة.
أما هذه الأصول فهي أغان من التراث الشفهي، ومن الهتافات الرياضية التي صارت تهزّ الأحياء بعدما كانت تهزّ مدرجات الملاعب، وهي أغاني الأعراس والمناسبات الموسمية، وأغاني ورقصات العَراضات، وأغاني وهتافات الثورة على الفرنسيين، وأغاني الدراما السورية، وهي سميح شقير ومالك جندلي، وإبراهيم القاشوش، وغيرها من الأغاني التي تحكي حقيقة هذه الثورة، الحقيقة التي لا يريد شبيحة نظام الأسد معرفتها.
يمكن للفيلم أن يفي الثورة صورتها الحقيقية، وجهها السوري المعفّر بالأغبرة التي تملأ هواء الحارات وحناجر المغنين وأقدام الراقصين ‘والدبّيكة’.
على الجهة الأخرى، هنالك من لا يودّ إلا أن يرى الثورة في سوريا حرباً يشنّها النظام على التطرف الإسلامي، ومن يسبق قناة ‘الميادين’ إلى فكرة كهذه لتعميمها، الوظيفة الوجودية للقناة!
في تقرير عُرض قبل أسابيع عن الأغنية في سوريا، لم تعترف القناة إلا بنوعين، الأغنية الموالية للنظام وقد سمّتها ‘بالأغنية الوطنية.. التي تدعو لوحدة سوريا’ التي ‘اشتهر بعضها، أما أغاني المعارضة فقلما تذكر’. علماً أنها لا تختلف عن الأغاني الرديئة من حيث القيمة الفنية والكلمة واللحن والتوزيع مما اعتاد السوريون مشاهدته على التلفزيون الرسمي، فلا جديد هنا. لكن التقرير تحاشى ذكر أغاني الابتذال المؤدّاة كلّية من خلال ‘الأورغ’ والمستوحاة تماماً من أغاني ‘المقاصف’ في سوريا.
أما ما حاول التقرير عرضه كمقابل لهذه الأغاني (النوع الثاني الذي اعترف به) فهي أناشيد الإسلاميين إن تواجدت، لأن التطرف الإسلامي عمل على ‘تحريم الأغاني واستخدام الأطفال للترويج للقتل’، حسب التقرير.
لا تريد ‘ميادين’ بن جدّو أن ترى في سوريا غير ما أرادت أن تُظهره عبر التقرير: النظام وداعش وحسب، وإن كان لا بد للمشاهد من الاختيار فلن يكون داعش حتماً، لينحاز لاغاني ‘أجهزة الأمن’ الوطنية!
من خلال فيلم ‘الجزيرة’ وتقرير ‘الميادين’ يمكن الاطلاع على كيفية تلقّي الثورة وإدراكها: ‘الجزيرة’ أظهرت دون لبس، وبفيلم من إنتاجها، ثورة السوريين التي أتت بأجمل الأغاني، الأغاني الأشبه بتاريخ السوريين ومجتمعهم وتراثهم.
درع ‘الميادين’ للأسد
لم يتوقّع أحد أن ينال غير بشار الأسد شخصية العام في المسابقة التي أعدّتها ‘الميادين’ على موقعها الالكتروني قبل شهرين، وإمعاناً بالتزام القناة بوظيفتها السياسية لم يتوقّع، غالباً، العارف بهذا الالتزام أن ينال غير رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي المرتبة الثالثة، في بركات متتالية أنزلها عليهما من عليائه في طهران، الخامنئي.
قبل أيام نشر موقع القناة صورة بهيّة لغسان بن جدّو يسلّم درع شخصية العام لبشار الأسد، في تكريم لتميّزه في ما يرتكبه.
أما الحقيقة، فهي أن ‘الميادين’ من يستحق درعاً من الأسد، لأنها المنفَد الإعلامي الوحيد برتبة شريك بعد زوال ‘الدنيا’ وهامشية ‘سما’ و’الإخبارية السورية’ عربياً.
لكن ما المشكلة في أن تشارك ‘الميادينُ’ الأسدَ حربه وتكون لسان حاله إعلامياً؟ أبداً، لا مشكلة بالمرّة إن لم تدّع القناة غير ذلك. إن لم تدّع أنها تحكي باسم السوريين، بل باسم أجهزة الأمن، إن لم تدّع أنها تحكي باسم الفلسطينيين بل باسم نماذج منهم، تتحدّد أسماؤهم بمدى قربهم من نظام الأجهزة الأمنية في سوريا، إن لم تنكر القناة أنها جهاز أمن إعلامي تابع للأسد، وأنها لا تختلف في شيء عن ‘فرع فلسطين’ الأمني، الأبشع في ذاكرة السوريين والفلسطينيين وحاضرهم من بين فروع الأجهزة الأخرى، الفرع الذي يحمل اسم ‘فلسطين’ تماماً كما تحمل القناة اسم ‘ميادين’ الثورات وتماماً كما تعرض برامجها حسب توقيت ‘القدس الشريف’. العقلية ذاتها إلا أننا نتحدّث هنا عن جهاز إعلامي.
عقلية الإلغاء في الإئتلاف
ما الذي نتوقّعه من سوريا الجديدة المرتقبة حين تصل شدّة العداوة بين طرفي ‘الممثل الشرعي’ للمعارضة ما لم تصله بين أحدهما وأحد الممثلين للنظام الذي يعارضونه؟ لا أحكي عن داعش وماعش. بل عن ‘الإئتلاف الوطني السوري المعارض’، الذي يضمّ تجمّعات ومستقلّين يجتمعون على إسقاط النظام وبناء سوريا جديدة. ‘الإئتلاف’، الذي لم تحُل شدّة العداوة بين أطرافه وبين ممثلين عن النظام دون أن يتشاركوا لا الحلقة فحسب، بل الاستديو الذي استضافهم، وربّما الفندق.
في حلقة من برنامج ‘بلا قيود’ على ‘بي بي سي عربي’ تتناول المطالبات باستقالة أحمد الجربا من رئاسة ‘الإئتلاف’، شاهدنا طرفين: الأول مدافع عن الجربا والآخر منتقد له، وكلاهما أعضاء في الإئتلاف الوطني، المدافع هو منذر آقبيق الذي أجاب على السؤال الأول للمقدمة عن المطالبات المذكورة بأن ‘هذا سؤال غريب، لماذا يجب أن يستقيل’؟
تكمل حوارها معه، لتنهيه وتنتقل إلى الآخر في حوارين منفصلين تماماً لوجهتَي نظر مختلفتين، إلا أنها تعلّق بعد الانتهاء من الأول أنها تمنّت منه لو قبِل بطبيعة البرنامج الحوارية وبالتشارك مع الآخر على طول الحلقة دون الاضطرار لتقطيعها.
هذا العداء والإلغاء للآخر ورفض الحوار معه وإن بشكل غير مباشر وعبر مقدمة البرنامج واستنكار مطالبه كما تمثّل في آقبيق، لا يبشّر بسوريا تختلف عن عقلية الأسد وشبيحته، أذكّر أننا نحكي هنا عن خلاف داخلي في ‘الإئتلاف’، لا عن حلقة يتواجد بها شريف شحادة!
الطباع القبلية تسود ‘الإئتلاف’ مع تسيّد الجربا وجماعاته له. عقلية الدفاع الأصولي غير المبرّر عن الجربا حدّ الوصول لعداء تحُول شدّته دون الحوار مع أطراف أخرى يتشاركون جميعاً مطلب إسقاط الأسد، قد يكون إسقاطها (أي العقلية) أشد إلحاحاً من إسقاط الأسد نفسه.
الناس تطالب بإسقاط الجربا وجرى مقاطعتهم بهذه الشدّة، لمَ لا يقاطع ‘مؤيدو الجربا’ إذن من يطالبون هم أساساً بإسقاطه، أي الأسد!
شحار اللاجئين الفلسطينيين!
اللاجئون الفلسطينيون مغبونون ومهمّشون حتى في مآسيهم، هم مغيّبون أينما حلّوا، فكيف وإن حلّت مآسيهم في ظل مآسي غيرهم.
على قناة هي أقرب لتكون نموذجاً مراهقاً لقناة ‘العربية’ (أتخيّل كيف تكون النتيجة!)، هي قناة ‘الآن’ الترفيهية التي تحوّلت مع الثورات لإخبارية على ما يبدو، قرأتْ المذيعة خبراً عن الصورة الشهيرة للفلسطينيين في ‘اليرموك’ معروضة في ساحة ‘تايمز سكوير’ في نيويورك حيث تجمّع متضامنون، قائلة إنها: تُظهر آلاف السوريين في مخيم اليرموك وهم ينتظرون دورهم للحصول على الطعام من قبل الأنرواô رفع (المتضامنون) قطعاً من رغيف الخبز ترمز إلى دعمهم بالطعام للسوريين المحاصرين باليرموك من قبل قوات بشار الأسد.
لن يتمسّك أحد بمآسيه فهي ليست ميزة أو مكسب، وللسوريين والفلسطينيين مجتمعين مآسي أتى بها عليهم الاحتلال الإسرائيلي والنظام السوري، مآسي تكفي شعوباً لقرون، لكن الصورة يا سِت تُظهر فلسطينيين في ‘اليرموك’، والخبز يرمز لدعم الفلسطينيين والسوريين. لماذا يُسقَط اللاجئ الفلسطيني دائماً من كل الاعتبارات؟ لماذا حقه مسلوب حتى في مآسيه؟
أحرى بالقناة الخفيفة أن تعود للترفيه، في الحالتين: إن كانت تجهل أنهم فلسطينيون وإن تجاهلت ذلك تغييباً للمأساة الفلسطينية هناك.
* كاتب فلسطيني
القدس العربي