الأكراد يريدون… فماذا أعطاهم الآخرون؟!/ أكرم البني
ثمة ميل غالب اليوم لدى الأكراد إلى الانفصال عن البلدان التي تضم أجزاء كردستان التاريخية وبناء دولتهم القومية، أحد وجوهه الاستفتاء المقرر إجراؤه في أيلول (سبتمبر) المقبل حول استقلال إقليم كردستان العراق، ثم دعوة أكراد سورية في الشهر ذاته إلى انتخاب جمعية تأسيسية لاتحاد شمال البلاد تمهيداً لإقامة سلطة ذاتية فيديرالية في المناطق التي يسيطرون عليها.
ميل لا يتعلق فقط بتنامي المشاعر القومية الجامعة وبوفرة التضحيات التي بذلت من أجل ذلك، أو بدافع إحساس الأكراد العميق بالمظلومية وبشدة القهر والتمييز والتهميش التي لم تفارق حياتهم، وإنما أيضاً بظروف دولية وإقليمية تشجعهم موضوعياً على تحقيق حلمهم، إن لجهة تنامي ظواهر الشعبوية عالمياً ونزعات الانغلاق على الذات، وإن لجهة ما آلت إليه أوطانهم والمنطقة مع تصاعد الصراعات والحروب البينية وتنامي الأخطار المهددة حيوات الناس وعافية التنوع الإثني والديني.
لكنْ، ما كانت غالبية الأكراد لتصل إلى تلك النتيجة لو قدمت النخب السياسية والثقافية في البلدان التي يعيشون في كنفها، مواقف ومسلكيات تشجعهم على خيار الانتماء إليها، فكيف الحال مع تعاقب حكومات في تركيا والعراق وإيران وسورية، مارست بحق الشعب الكردي أشنع أشكال الاضطهاد وهتكت كل ما يمكن أن يساعد على تكريس قيم المواطنة والمساواة، وتقصدت محاربة أبسط الاجتهادات الدستورية الضامنة حقوق مكونات المجتمع كي تطمئنها وتقنعها بانتمائها الوطني كخيار طوعي نهائي.
في إيران نجحت السلطة الإسلامية بتغييب الثقافة الكردية ومحاصرة الحلم القومي، بل إجهاضه، متوسلة الأيديولوجية الدينية والقمع المعمم، من دون رد فعل شعبي أو سياسي، وفي تركيا يتنامى خطر حكومة أردوغان على الخصوصية القومية الكردية، بعد تمكنها، وفي سياق مواجهتها الانقلاب العسكري الفاشل، من فرض سطوتها وقمع كل من كانت تعتبره خصماً لمشروعها الإسلامي، مطيحة باستهتار مشين باتفاقها المبدئي مع حزب العمال الكردستاني، والذي أعلن بموجبه وقف العنف والتزامه بالدولة التركية كخيار استراتيجي في إطار حكم ذاتي يضمن للكرد حقوقهم الثقافية، بينما يقول حجم الدمار والخراب وتهتك مؤسسات الدولة كلمته في سورية، مكرهاً الأكراد على الدفاع بأنفسهم عن حيواتهم وحقوقهم في مواجهة فوضى العنف وتمدد التطرف الإسلاموي، في حين شوه نظام المحاصصة البغيض في العراق دور الدولة العمومي ومفهوم المواطنة وأجج بين مكوناته خلافات ما دون وطنية، ترعاها حكومات فاسدة سعت إلى الاستئثار بكل شيء على حساب إيجاد حلول لتقاسم السلطة والثروة وبناء وطن يوفر فرصاً متكافئة لكل أبنائه.
وإذا استثنينا نخبة من الليبراليين التي كانت ولا تزال تناهض الظلم والتمييز الذي يقع على الشعوب، وتدعم دستورياً وقانونياً حق الأكراد في تقرير مصيرهم، فإن غالبية القوى السياسية المعارضة، بخاصة القومية والدينية، حذت تجاه الأكراد حذو أنظمتها، فمنها من لم يعترف بهم كشعب له حقوقه وثقافته القومية، واستمر في تعميم أفكار شوفينية تطعن بحق الأكراد في تقرير مصيرهم، معتبراً وجودهم حدثاً مؤامراتياً طارئاً صنعه الاستعمار، وفارضاً اشتراطات مسبقة قبل التعاون مع أحزاب كردية كي تبقى أسيرة السياسات الوطنية، ومنها من حاول التذاكي والالتفاف على حق تقرير المصير، إن بالترويج لدولة المواطنة بصفتها الحل الأمثل للمشكلة، وإن بادعاء التنازل بمنح الأكراد هامشاً من الإدارة الذاتية يضمن لهم خصوصيتهم في الثقافة واللغة والتمثيل، والأسوأ من رفع السقف وتقصد تقديم وعود كاذبة لكسب ود الأكراد واستخدامهم، كما الأنظمة، وقوداً في صراعاته وورقة في مفاوضاته.
والحال، إذ نعترف بتعقيدات مشكلات شعوب المنطقة وتباين مصالحها، وبأن لا شيء يمكنه إعادة بناء الثقة بينها سوى الاعتراف المتبادل بحقوقها المتكافئة، والأهم بحق تقرير المصير للشعب الكردي من دون مواربة أو غموض، نعترف أيضاً بأن الشعوب المغلوبة على أمرها وأساساً نخبها الديموقراطية تضع أياديها على قلوبها بينما ترى المزاج الكردي يتجه نحو الانفصال، ليس فقط لأنها لا تتفهم حاجة الأكراد إلى لاستقلال بعد القهر التاريخي الذي تعرضوا له، وليس لأنها تعتقد بأن المجتمع الدولي غير جاهز لتحمل تبعات تغيير خرائط المنطقة، وتتحسب، كما حذر غير مسؤول أميركي، من سهولة تخلي واشنطن، عن موقفها الإيجابي والداعم الأكراد، وليس لأن حكومات البلدان التي تضم كتلاً كردية سترفض هذا الخيار، وتسعى بكل الوسائل إلى إجهاضه، والفاتحة تعزيز التعاون بين أنقرة وطهران لوأد أي تقدم سياسي جديد للشعب الكردي أو تمدد جغرافي، وليس أيضاً لأن خطوة فرض كيان سياسي كردي بالإكراه ومن طرف واحد، قد تؤدي إلى نزاع عسكري قد يطول بين الدولة الكردية العتيدة وحكومة بغداد المركزية محملاً الشعب العراقي مزيداً من الخسائر والتضحيات، وليس، أخيراً، لأن صورة الاستقلال الكردي النسبي القائم حالياً، في العراق وسورية، هي صورة محبطة في ضوء السقف المحدود للنماء والتطور وقصور معالجة الفساد، والأهم في ضوء ضعف ترسيخ قيم الديموقراطية والمواطنة وطغيان نزعات الاستبداد والاستئثار وسوء استغلال السلطة، وإنما أساساً من دافع إنقاذي مشترك يحدوه خوف وقلق ورجاء… خوف من أن يفضي المشروع القومي بنزعاته الشوفينية إلى مزيد من وأد المسار الديموقراطي، محولاً الفكرة القومية الكردية إلى أيديولوجية استبدادية مغلقة ومفرغة من أي بعد إنساني أو حضاري… وقلق مما قد يخلفه وقوف الأكراد على الحياد يراقبون بسلبية شعوباً شاركوها العيش مئات السنين وهي تغرق في محنتها بلا منقذ أو أمل… ورجاء بأن تستثمر القوى الكردية الحية المعنية أكثر من غيرها بمواجهة قوى التسلط والعنف والإرهاب، هذه الفرصة كي تتقدم العمل الديموقراطي لنصرة بناء وطني يستند إلى معايير المواطنة وحقوق الإنسان ويصون حقوق جميع القوميات والإثنيات دستورياً وقانونياً، بما في ذلك مشاركتها المتكافئة في إدارة السلطة والدولة، وتقرير مصيرها بالوسائل السلمية والأساليب الديموقراطية.
الحياة