الأنظمة الديموقراطية تتعثر في عصر العالم الرقمي الموازي/ آن أبلباوم
أقترح على مارك زوكربرغ أن يبذل مبلغ الـ45 بليون دولار (وهو أعلن التنازل عنها في مناسبة ولادة ابنته إلى أعمال خيرية) لتقويم الخلل الذي أنزله فايسبوك وغيره من وسائل التواصل الاجتماعي بالنقاش الديموقراطي والمناقشات الحضارية على وجه المعمورة. والديموقراطيات الهشة هي الأكثر ضعفاً أمام لعنة الفايسبوك. وحين شاركتُ في اجتماع خبراء يعملون في مرحلة ما بعد النزاعات في عدد من الدول، أجمع هؤلاء على أن «بناء الأمة من جديد» – سواء كانت هذه الأمة ليبيا أو تيمور الشرقية- يقتضي إرساء إطار للنقاش الوطني. فيتفق زعماء النزاع على أسباب طي الحرب وقرار وقف القتال وما سيحدث في المرحلة التالية، ثم يذيعون الاتفاق هذا بين أتباعهم. ولكن إذا تعذرت مثل هذه العملية- سواء كان وراء هذا التعذر غياب وسائل إعلام «ماين ستريم» (متن تيارات الرأي، أي ناطقة باسم تيار رأي غالب ومُجمع عليه) أو نشر المنبر الفايسبوكي نسخاً متضاربة من «الحقائق والوقائع»- تعذر السلام. وثمة ديموقراطيات تجمع الفقر إلى الضعف. وفي دول تفتقر إلى وسائل إعلام محترمة ومستقلة تدقق في الوقائع وصحتها، يتبدد احتمال الحوار المتحضر.
وقد يكون وراء الافتقار هذا ضعف الإمكانات المادية والكلفة الباهظة لوسائل إعلام يعتد بها أو إطاحة الإنترنت سوق الإعلانات وعوائدها أو تقييد حكومات غير ليبرالية الإعلام. وإذا ظهرت نسخ متباينة للوقائع في منشورات إلكترونية مختلفة، وإذا لم يُجمع أحد على ما حدث في اليوم السابق، وإذا كان ثمة من يتلاعب بالمواقع الخبرية الإلكترونية من طريق نشر أخبار كاذبة؛ تكتسب نظريات المؤامرة، سواء بثها أقصى اليسار أو اليمين المتطرف، وزناً أو صحة تضاهي صحة «الواقع» الفعلي. ويجد السياسيون الذين يحرفون الواقع ويتوسلون الكذب إلى التضليل من يساندهم ويؤيدهم.
ولم تدرك الأنظمة الديموقراطية الثرية بَعد أن هذه المشكلة لا تقتصر على الديموقراطيات الفقيرة فحسب. وكلما تناولتُ بالوصف تبدد الوقائع ونمو الخيال والوهم في لندن أو واشنطن، سمعت جواباً معتداً بنفسه يحسِب أنها مشكلة الآخرين. ولسان حال هذا الجواب «كم هو مؤسف وفظيع أن يعاني الناس في تونس وسلوفاكيا هذه المشكلة… ولكنها لن تصيبنا بالتأكيد». ولكن هذا ما حصل في الولايات المتحدة. فحين أعلن دونالد ترامب أن «آلافاً» من المسلمين احتفوا بانهيار مركز برج التجارة العالمي، سارع آلاف من المعلقين والمدونين إلى مؤازرته على فايسبوك ومنابر اجتماعية أخرى. ولم يكترث هؤلاء بأن ما يقوله ترامب لم يحدث يوماً. وصار اليوم في الإمكان أن يعيش المرء في عالم مواز يحتفي بأكاذيب ترامب على أنها حقائق أخفتها وسائل الإعلام الكبيرة عن أعين الجموع ومعرفتهم.
ومن لا يعيش في عالم ترامب، في متناوله عوالم موازية أخرى. فعلى سبيل المثل، افتتن علي أمين، وهو مراهق من فيرجينيا، بعالم الجهاد الإلكتروني «فغرق في نزاع افتراضي وقطع روابطه بالواقع». وحكم بالسجن 11 عاماً بتهمة تقديم دعم مادي لمجموعات إرهابية. وليس الاستلاب في العالم الافتراضي والانفصال عن عالم الواقع حكراً على عالم الجهاديين الإلكتروني. فمن يقضي وقتاً في عدد من العوالم الموازية ويلجها عبر فايسبوك وتويتر، يقع يومياً على معلومات محرفة على اختلاف أنواعها.
ولا يحتاج المرء إلى أكثر من حساب على تويتر ليبلغ روابط مواقع كاذبة ومنظمات مريبة تنشر إحصاءات مفبركة. ويقع المرء على أصدقاء يصدقون هذه الإحصاءات. ومثلهم من يعيش في فقاعة واقع مواز يخلقه مدونون يمينيون متطرفون أو فوضويو اليسار أو خبراء الكرملين الذين يفسرون الحوادث على ما يحلو لهم. و«المبتكرون» هؤلاء لا يخفون غاياتهم السياسية، على غرار انتخاب ترامب أو تجنيد متطوعين في «داعش». ولكن المعلومات الكاذبة تخلف أثراً عميقاً: زرع اللامبالاة وازدراء المعايير الأخلاقية والمبادئ. فلا يبالي الناس بأكاذيب ترامب أو فلاديمير بوتين أو «داعش، فهم لم يعودوا يصدقون ما يقرأون. وإلى اليوم لا أحد يعرف السبيل إلى جبه هذه التغيرات. وفي وسع زوكربيغ أن يساعد الصحافيين والأكاديميين والناشطين والسياسيين على استعادة حوادث الواقع إلى دوائر النقاش العام. ربما علينا دراسة أصول قراءة الإعلام وكتابته في المدارس؛ وربما نحتاج إلى «مؤشــرات دقة» مستقلة تصنف المواقع الإلكترونية، وقد نحتاج إلى فهم أعلام المؤامرة ومنظريها. وهذه مسائل تستحق بذل 45 بليون دولار.
* مؤرخة، عن «واشنطن بوست» الأميركية، 10/12/2015، إعداد منال نحاس.
الحياة