الأوان لم يفت بَعد في سورية/ شارلز ليستر
أخفقت المساعي الديبلوماسية الأخيرة الرامية إلى إرساء الهدوء في سورية وتعبيد الطريق أمام السلام. وإثر أسبوع على سد الطريق أمام تسليم مواد الإغاثة وكر سبحة انتهاكات وقف إطلاق النار، قصف سلاح الجو الروسي قافلة إغاثة مشتركة بين الأمم المتحدة والهلال الأحمر السوري. وراح ضحية الهجوم حوالى نصف فريق الإغاثة، وجاء بعد دقائق على إعلان الرئيس بشار الأسد انتهاء العمل بوقف النار. وسقط عشرات في قصف جوي ومدفعي على المناطق المحاصرة في حلب. وعُثر على بقايا قذيفة من طراز «OFAB» في حطام عنابر «الهلال الأحمر…»، وخلصت تحقيقات أميركية إلى أن مقاتلات روسية، «سوخوي سو- 24»، كانت وراء الهجوم الذي دام نحو ساعتين.
ولم تكن الحكومة الروسية يوماً، شريكاً يعتد به في السلام في سورية. وعلى رغم اتهام روسيا بقصف موكب الإغاثة، تسعى الإدارة الأميركية إلى اتفاق تعاون معها. وأعلن جون كيري، وزير الخارجية الأميركي، أن وقف النار سارٍ. وفي اليوم التالي، قال أمام مجلس الأمن، أن روسيا تنكر مسؤوليتها عن الهجوم على قافلة الإغاثة، وتعيش في «عالم مواز». ثم دعا إلى اتفاق جديد هو نظير الذي أخفق قبل أسبوع.
وتنظر الإدارة الأميركية إلى الأزمة السورية على أنها وثيقة الصلة بمكافحة الإرهاب. لكن الإخفاقات الديبلوماسية، شأن فشل اتفاق وقف النار، تعزّز قوة المتطرفين من أمثال «القاعدة». وهذا التنظيم يقدم نفسه على أنه حليف معارض وموثوق لا غنى عنه، يرمي إلى تخليص سورية من نظام الأسد. فهذا التنظيم أدرج نفسه في الدينامية الثورية السورية، وصار يملأ الفراغ الذي خلفه ضعف الدعم الأجنبي والافتقار إلى الحماية الأجنبية. والضعف الأميركي يساهم في شد عود خطاب «القاعدة». فالإخفاق الأميركي لا يندرج في الفراغ (بل في سياق حوادث وتوازن قوى)، والخصوم سرعان ما يقتنصون الفرص الناجمة عنه، ويحوّلونه إلى نصر. وحريّ بالولايات المتحدة مراجعة مقاربتها الأزمة السورية. فـ «داعش» و «القاعدة» هما من أعراض النزاع الذي نجم عن حوكمة فاشلة.
ولا شك في أن الحكومة الروسية لن تقيد أفعال نظام الأسد الشائنة. وتجاهلت الحكومة السورية طوال أسبوع مطالب موسكو، وأطاحت وقف نار «روسي الصنع». وشدد النظام حصار قواته حول حلب، وحشد القوات مقابل مدينة جسر الشغور الاستراتيجية، وقصف طيرانه محيط حلب، وشمال مدينة حمص ودرعا. وبشار الأسد لا ينوي التنحّي عن السلطة، ويتوسل بكل الوسائل الممكنة للبقاء: بدءاً من الاعتقالات الواسعة والممنهجة، والتعذيب والأسلحة الكيماوية والبراميل المتفجرة والقنابل العنقودية وصولاً الى الحصار.
وعلى رغم اتفاق 2013 لتدمير أسلحة سورية الكيماوية، يبدو أن النظام احتفظ بسلاح الكلورين، ولم تتحدَّ واشنطن عنف دمشق. فواصل الأسد التوسل بالتكتيكات العنيفة. ولا يسع الولايات المتحدة، مواصلة السعي إلى احتواء آثار الأزمة السورية. قبل خمس سنوات، كانت سورية مشكلة محلية، واليوم هي مشكلة دولية. وتكونت المقاربة الأميركية من تردد وحيرة وخوف من المجازفة وتباين بين الخطاب والسياسة، وعدم التمسك بـ «الخطوط الحمر» (المحظور). ووقفت واشنطن موقف المتفرج من تدمير دولة – أمة، على خلاف مصالحها الأمنية القومية وقيمها.
سبحة الإخفاقات كرت منذ أيام الانتفاضة السورية الأولى. وعلى رغم أن إدارة الرئيس باراك أوباما أعلنت سقوط مشروعية الأسد في تموز (يوليو) 2011، لم تضع سياسة لمساعدة المعارضة إلا بعد عام. لكن هذه المساعدة اقتصرت على مد المعارضين بالغذاء والعتاد غير الحربي. بعدها، انعقدت بعض ثمار برنامج «سي آي إي» لتدريب «الجيش السوري الحر» وتسليحه، لكن الالتزام الأميركي كان ثانوياً قياساً الى دعم حلفاء إقليميين- شأن تركيا ودول عربية- قوات المعارضة. وكأن المسؤولين الأميركيين رغبوا في إطاحة الأسد لكنهم شاؤوا أن يتولى الأمر آخرون لا يثقون بهم. فقضى نصف مليون سوري، ويعيش مليون آخرون تحت الحصار، وبلغ عدد النازحين 11 مليون سوري. وساهمت موجات اللاجئين في بروز موقف معاد للمهاجرين وسياسات يمينية متطرفة، وصارت سورية موئل أكبر تجمع للمقاتلين الجهاديين في العالم. وفيها اليوم، تنظيم يتحدر من «القاعدة»، «جبهة فتح الشام» («جبهة النصرة» سابقاً)، وهو الحركة الأقوى سياسياً وعسكرياً في تاريخ «القاعدة». والإخفاق الأميركي يترتب عليه نجاح «القاعدة» في سورية، وبعد سنوات من تجاهل الخطر، صار شاغل الساسة الأميركيين مكافحة «القاعدة» في سورية هذا العام. ولكن يبدو أن الأوان فات. فالـ «جهاديون» تسنت لهم المساهمة في ديناميات الحرب، وأي هجوم عليهم، سواء كان روسياً أم أميركياً، سيقوّض النفوذ الأميركي ويرجح نفوذ «القاعدة». وشطر كبير من السوريين في مناطق المعارضة يرون أن «القاعدة» قادرة على حمايتهم أكثر من الولايات المتحدة.
لذا، على أميركا معالجة تقصيرها في سورية عبر التزام 5 نقاط: 1) الأسد لن يكون جزءاً من الحل في سورية. فمجتمع المعارضة على تباينه لن يرضخ لحكمه. 2) لا حل عسكرياً في سورية- فالحل عبر مفاوضات هو السبيل الأمثل إلى الاستقرار. لكن الأسد لن يقبل بعملية سياسية ما لم يتعرض لضغط كبير، وهذا ما بذلت واشنطن جهدها للحؤول دونه. وحري بالمفاوضين على الحل من الديبلوماسيين إدراك المسألة الثالثة، ومفادها أن تقسيم سورية لن يحل النزاع بل سيفاقمه ويؤجج نزاعات جديدة. فالسوريون، سواء كانوا من مؤيدي الأسد أو من معارضيه، يجمعون على رفض التقسيم. رابعاً، ليس الرصاص والقنابل الوسائل اليتيمة لمكافحة «القاعدة» في سورية. فهزيمة التنظيم تقتضي توفير خيار جذاب بديلاً لخطاب «الجهاديين»، والتنافس مع التنظيم الإرهابي. و «القاعدة» أفلح في ترسيخ جذوره في صفوف المعارضة، وفي استمالة الناس إليه كحليف عسكري (غير سياسي). وتنظيم «القاعدة» في السياق السوري ليس مشكلة إرهاب تقليدي، ولن تجدي وسائل مكافحة الإرهاب التقليدية في اقتلاعه.
خامساً، «داعش» هو عدو في متناول أميركا مكافحته ومحاربته في معزل من الأزمة السورية الأوسع، لكنه حركة إرهابية انتهازية قوتها غير متكافئة. ويتوقع أن يواصل التوسّل بالنزاع السوري لبلوغ غاياته الخاصة. وإذا بقي الأسد في منصبه وتوالت فصول النزاع أو تأجج، قيضت الحياة لـ «داعش».
ثمة حلول كثيرة بديلة للسياسة الأميركية الحالية. ويجب أن تنزل حماية المدنيين في منزلة نواة استراتيجية واسعة لحل النزاع، وأن تترافق مع عواقب يتحمّلها من ينتهك (الحل). ولم يخَف نظام الأسد تردّد واشنطن في اللجوء إلى القوة. وإذا رغبت في سياسة ناجعة في سورية، حري بها اللجوء الى القوة. ويزعم خبراء في الشؤون السورية، أن الأوان فات لإنقاذ البلد أو يدعون إلى انتظار رئيس جديد في واشنطن. لكن الزعم الأول ما زال في غير محلّه. وإرجاء الحل إلى حين انتخاب رئيس أميركي جديد قد يجعل إنقاذ سورية متعذراً.
* باحث في «ميديل إيست إنستيتيوت»، صاحب، «الجهاد السوري»، عن «فورين بوليسي» الأميركية، 21/9/2016، إعداد منال نحاس
الحياة