«الإخوان المسلمون» في سورية وحكاية إبريق الزيت/ أكرم البني
ما أن تُمنى بهزيمة أو إخفاق، أو تتكاثر الانـــتقــــــادات بحــــقها وتــتــــراجع مكـــانتـــها شعبياً وسياسياً، حتى تلجأ، جماعة الإخوان المسلمين، إلى التذكير بتبنيها للشعارات الوطنية العامة، كالديموقراطية والحرية والتعددية والدولة المدنية، وبالتزامها مجتمع مواطنة يساوي بين الناس على اختلاف أعراقهم وأديانهم ومذاهبهم واتجاهاتهم.
والجديد قرارات المجلس الإسلامي السوري الذي عقد أخيراً في لندن، وقبله بأسابيع، صدور ما عرف بالميثاق الوطني لمواجهة تقسيم سورية، وكلاهما يشبه البيان الذي صدر في أيلول (سبتمبر) من العام المنصرم، وخلص بعد قراءة ما آلت إليه أوضاع الثورة وطرق مواجهة النظام ومحاربة الإرهاب إلى التأكيد على تطلع جماعة الإخوان المسلمين لبناء دولة مدنية وديموقراطية في سورية القادمة، وقبلها كانت وثيقة العهد والميثاق عام 2012 التي صبت الحَب في الطاحونة ذاتها، ويبقى الأساس وثيقة سميت «النداء الوطني للإنقاذ» التي أصدرتها جماعة الإخوان ربيع 2005 وبدت كأنها مراجعة نقدية لسياساتها وإخفاقاتها السابقة وإعلان جريء بتبني مبادئ الديموقراطية وقيم المواطنة.
ومع أن حكاية إبريق الزيت هذه، والمباهاة عند الحاجة بارتداء العباءة المدنية والسلمية، باتت مفضوحة، لكنها لا تزال وسيلة معتمدة لدى الإخوان المسلمين للالتفاف على أزمتهم المزمنة ومداراة عجزهم السياسي، يحدوها سببان متضافران: أولهما، بنيوي يتعلق بقدسية المرجعية الأيديولوجية لديهم، والثاني، مكتسب، يعود إلى عمق نهجهم البراغماتي ورسوخه.
فهم يتنازلون عن شعاراتهم الدينية فقط عندما يكونون ضعفاء أو مرفوضين اجتماعياً بسبب ارتكاباتهم وسياساتهم الخاطئة، وبغرض الترويج لصورة تساعدهم على إعادة بناء جسور التواصل مع المجتمع. هذا ويلازم تشددهم الأيديولوجي ومجاهرتهم بحاكمية الله ومشروع الدولة الإسلامية اللحظة التي يشعرون فيها بأنهم قوة نافذة ومقررة ولا تحتاج إلى عون الآخرين، والأسوأ حين يصلون إلى السلطة، وعندها لا يتنكرون فقط لشعارات الحرية والمساواة التي تغنوا بها بل يعادونها بكل شراسة؟ كذلك يتزامن إعلانهم اليوم لمواقف وبيانات تفيد بأنهم لا يزالون يؤمنون بمقتضيات الدولة المدنية والديموقراطية، مع هزيمة الثورة وتراجع وزنهم ودورهم بسبب تقدم الاصطفافات الإقليمية والدولية ضد الإرهاب الجهادي وداعميه، وجراء تبدل موقف أنقرة من الصراع السوري وانضمامها لركب موسكو، ثم خسارة الفصائل الإسلاموية المسلحة لمواقع هامة في كل من حلب وأرياف دمشق وحمص وحماة.
بعد النداء الوطني للإنقاذ نجح الإخوان المسلمون في إظهار أنفسهم كشريك طامح للتعاون مع مختلف القوى السورية من أجل التغيير الديموقراطي، وتمكنوا من العودة إلى الحقل السياسي السوري من خلال انضمامهم بداية إلى إعلان دمشق ثم مشاركتهم في المجالس الوطنية المعارضة، وصولاً إلى الائتلاف والهيئة العليا للتفاوض، لكن حساباتهم ومراميهم الخاصة ما لبثت أن حضرت مجدّداً حين لمسوا انزياح رياح الربيع نحو البعد الديني، مرة أولى، بالصمت عن تقدم الشعارات ذات الطابع الإسلامي في المراحل الأولى من تطور الحراك الشعبي، ثم الاستثمار في مساعي النظام تحويل الصراع السياسي إلى طائفي، كمقدمة لفرض تصوراتهم ونمط حياتهم على المجتمع، ما شوه ثورة السوريين، وهتك حضورهم كشعب واحد. ومرة ثانية، بإهمال دورهم في تعرية خطاب الجماعات الإسلاموية المتطرفة وفضح ارتكاباتها، بما هو إحجام عن تمييز أنفسهم كحركة سياسية إسلامية معتدلة، كما يدعون، من واجبها خلق إجماعات وطنية جديدة بين السوريين، وتعزيز الثقة بين مختلف مكوناتهم، ما كشف في وقت حرج، زيف ادعاءاتهم، حتى بات البعض لا يجد فارقاً نوعياً بينهم وبين الجماعات السلفية المتطرفة والعنيفة. ومرة ثالثة، عبر التنصل من موقفهم النقدي من العنف والعسكرة، ثم غض النظر عن نهوض جماعات إسلاموية، وسيلتها الرئيسة السلاح ومنطق الغلبة، والأنكى تقديم الغطاء السياسي والإعلامي لها، ربطاً بخلق شبكة علاقات لتجنيد المواطنين في كتائب بدأت بتأسيسها تحت مسميات دينية. ومرة رابعة، عبر الانزلاق إلى روح الاستئثار وتفعيل مبدأ المغالبة مع الأطياف الوطنية والثورية لتعزيز السيطرة على هيئات المعارضة السورية، إن بتثقيل حصتها التنظيمية أو بزرع أكبر عدد ممكن من كوادرها في المواقع القيادية، بما في ذلك لجوؤها إلى المناورة وتشكيل عشرات الكيانات المرتبطة بها للتغلغل والتمدد في مختلف الهيئات السياسية والإغاثية، ما حكم بالفشل على عمل تلك الهيئات أو مأسستها، وأعاق دورها في بلورة نهج وطني جامع، زاد الأمر سوءاً مفاخرتها، وعلى حساب موقعها كحزب سوري، بقوة ارتباطها بمن تسميهم إخوة المنهج، والدفاع الأعمى عنهم ظالمين كانوا أو مظلومين، كإخوان مصر وحركة حماس وحزب أردوغان وغيرهم.
الغاية تبرر الوسائل. جماعة يحكمها مبدأ التقية وتضمر غير ما تعلن. جماعة ذات بنية استبدادية بدليل قسم الطاعة والولاء. حركة سياسية لا أمان لها، تتمسكن ولا تتردد حين تتمكن، من التنصل من التزاماتها الوطنية. ليس ثمة أمل في هذا النوع من الإسلاميين الذين ديدنهم استبدال الاستبداد والطغيان القائم بآخر ديني. هي عبارات باتت دارجة في وصف الإخوان المسلمين في سورية ومسلكياتهم وتعرية للشعارات الخادعة عن الدولة المدنية والديموقراطية التي يرفعونها بين الفينة والأخرى، بصفتها مجرد مناورات أو إجراءات تكتيكية ظرفية غايتها إعادة التموضع والخروج من ضيق أزمة التنظيم المتفاقمة.
صحيح أن بطء التطور الثقافي والمجتمعي وقصور المشروع النهضوي التنويري وضعف الجهود لبناء رؤية صحية تنأى بالدين عن دنس السياسة، هي تربة لنمو تيارات لا تزال تجد ذاتها في الجمع بين الدين والسياسة، لكن الصحيح أيضاً أن ثمة تجارب مريرة رسخت في الوعي والوجدان، دمرت الثقة بجماعات الإسلام السياسي التي تدعي النضال الديموقراطي والمدني، وأثبتت عجزها عن تمثل قيم الحرية والمواطنة وعن التحرر من فكرة الدولة الإسلامية ومن الأساليب الاستئثارية والتسلطية لفرض معتقداتها وآرائها على أنها الحقيقة المطلقة.
الحياة