الإرادة الدولية وتحولات الأزمة السورية/ عمر كوش
مع وصول الأزمة، التي سببها تعامل النظام مع غالبية السوريين، إلى درجة الكارثة الإنسانية، غير المسبوقة، فإن قوى ما يسمى «المجتمع الدولي»، لم تقدم للسوريين سوى وعود فارغة، بعد أن حصرت مراهنتها على وهم حلّ سياسي، يمكن أن يقدمه مؤتمر جنيف -2، الذي فشل قبل انطلاق عجلة مفاوضاته، واتضح للعالم أجمع أنه ليس هناك من جماعة النظام، من هو صاحب إدارة سياسية، أو من يهمه إيقاف سيلان نهر دماء السوريين.
وبعد ثلاثة أعوام، ما زال نظام الأسد يوغل في القتل، وعلى مرأى العالم، لذلك يصعب على كثيرين استيعاب هذا الكمّ من العوامل الدولية التي لعبت ضد الشعب السوري وقضيته، حيث تشير كل المؤشرات الحالية بأن القوى الدولية لا تأبه بالكارثة السورية، ولا يعنيها طول أمد الصراع، وبالتالي لا جدوى من المراهنة على الإرادة الدولية، كونها تقوم على معايير غير إنسانية، تأخذ في الحسبان اعتبارات المصالح وحسابات الربح والخسارة، ولا تعير أي اهتمام للأخلاق أو القضايا الإنسانية، بالرغم من أن الثورة السورية بدأت سلمية، وبقيت كذلك أشهراً عديدة، بالرغم من التعامل الدموي معها، وباتت غالبية السوريين تشعر بأنها يتيمة ووحيدة، ولم تجد سوى أن تضع دمها على كفها، ماضية في طريق الخلاص، الذي لا رجعة فيه.
وفي الوقت الذي تنأى فيه إدارة الرئيس الأميركي عن فعل شيء، إزاء الكارثة الإنسانية التي سببتها الحرب الشاملة للنظام ضد الثورة وحاضنتها الاجتماعية، فإن كل شيء بات مباحاً دولياً، أو على الأقل مسكوتاً عنه، ووصل الأمر إلى درجة استخدام السلاح الكيميائي ضد المدنيين من الأطفال والنساء والرجال، في أكثر من موقع وواقعة، ولم يكتف النظام بذلك كله، بل راح يسوق لإيديولوجيا تبرر أفعاله وممارساته، وتضعهما في مصاف الأمور الطبيعية، وفق معيارية، تمتد جذورها داخل نسق تمييزي، وأبعاد أخلاقية مولدة له.
ووسط ردود الفعل الدولية البائسة ضده، راح حاكم دمشق، يتحدث بكلمات عن الشرعية والأحقية في الحكم، معتبراً حفظ أمنه وأمن عصابته، من أمن الدولة والاستقرار والوحدة، بوصفه يجسد الدولة ويجبها في شخصه، في مواجهة المؤامرات المكائد الداخلية والخارجية، حتى تحول الأمر أسطورة مؤسسة للنظام.
ويدرك غالبية ساسة العالم وصناع القرار فيه، حجم وهول ما قام به النظام من فظائع خطيرة، وليس ذلك وحسب، بل إنه حوّل سوريا إلى مرتع للمجموعات الإرهابية، التي تتخذ من الإسلام يافطة، بغية الوصول إلى دويلاتها وإماراتها، وأضحى السوريون تحت سطوة مزدوجة، سطوة مجموعات إرهابية، وسطوة النظام، الذي حاول إثارة الحرائق في دول المنطقة، خلال السنوات الثلاث الماضية، ولا يزال ماضياً في أفعاله من دون أي رادع، بل إنه وجد في نظام إيران وساسة موسكو رصفاء له، ومدافعين عنه، وداعمين له بكافة الوسائل المادية والعسكرية والسياسية.
وإذا كان السوريون تركوا وحدهم في مواجهة الكارثة، فإن المراهنة على إرادة دولية لإيقافها تبدو مراهنة فارغة، بعد ثلاث سنوات من عمر الأزمة السورية، فيما الثابت هو أن كل دول العالم متفقة على تقنين الدعم للثورة السورية، وعدم مدّها بالسلاح النوعي، الذي يمكنه أن يحدث توازناً في القوى، في وقت تُرك فيه النظام، ينفذ ما يحلو له من خطط، واستخدام لأسلحة مدمرة، بواسطة الطائرات والدبابات والمدافع، حيث تنهمر براميل الموت والصواريخ والقنابل يومياً على كافة المدن والبلدات السورية، ولا مانع لديه من أن يعيد سيطرته على مدن وبلدات وقرى فارغة من سكانها، فهم ليسوا بشراً في معياريته.
ولعل التحول الأول على مسار الثورة، طرأ نتيجة اضطرار قسم من شبابها، الذين شاركوا بشكل أو بآخر في حركة الاحتجاج السلمي العام، الذي شمل معظم المناطق السورية، إلى حمل السلاح، ليدخلوا في حرب غير متكافئة مع النظام، بعد إعلانه الحرب على المتظاهرين السلميين وعلى حاضنتهم الاجتماعية، وخوضه حرباً شاملة مدمرة ضد غالبية السوريين ومناطق سكناهم، الأمر الذي أفضى إلى تراجع المظاهر المدنية السلمية التي أسست للثورة السورية، حين كان المتظاهرون يوزعون التمر على الجنود، ويحملون الورود وأغصان الزيتون في مواجهة رصاص قوى الأمن والشبيحة.
غير أن التحول في مسار الثورة استحال إلى حرب حقيقية، أزاحت المظاهر السلمية لتظهر مشاعر الكراهية والانقسام، وصعدت مظاهر العسكرة من خلال تسلح مجموعات عسكرية وأهلية، وخاصة في الريف السوري، حيث إن أفراد عائلات بلدات وقرى كثيرة جنّدت شبانها ورجالها من أجل الدفاع عن حياتهم وأماكن سكناهم، لكنها أدخلت أيضاً نفساً من الكراهية وروحية الانتقام من الآخر. وراحت المجموعات العسكرية غير المنظمة تبحث عن موارد تسليحها وعيشها بشتى الطرق، المشروعة وغير المشروعة، خاصة مع انعزال معظم الضباط الذين انشقوا عن الجيش النظامي وآثروا اللجوء إلى تركيا والأردن وسواهما من البلدان.
ولعب الدعم الخارجي، المنحاز وغير المنتظم، الذي تلقته المجموعات والفصائل المسلحة، دوراً في تعدد ولاءاتها وتناثرها، وقد ارتاب سوريون كثر من الأجندات التي تهدف إليها الدول الداعمة، بوصفها كانت عاملاً رئيساً في إشاعة فوضى السلاح والتسلح، وإطلاق اللحى والذقون.
وعشية دخول الثورة السورية عامها الرابع، لا يزال المدنيون السوريون مستمرين في فعل مقاومتهم، فيما تبدو بعض الفصائل المسلحة بعيدة كل البعد عن فعل المقاومة، بمختلف مظاهرها، ولعل العسكرة المنفلتة من رباطها وعقالها، أنتجت مظاهر و»هيئات شرعية» و»إمارات»، بعيدة كل البعد عن أهداف الثورة السورية ومطالب ناسها، فالناس في الثورة أحسوا بأنهم أحياء، حين قرروا الخروج من بيوتهم والنزول إلى الساحات والشوارع للاحتجاج على الاستبداد المقيم منذ أكثر من أربعة عقود.
لقد خرج غالبية السوريين طلباً للحرية واسترجاع الكرامة، ولوضع حدّ لليأس والذل والخنوع، وتحملوا لأجل ذلك كل أنواع القذائف والقنابل والرصاص التي ما زالت تنهمر عليهم، وتخطف أرواحهم، وستبقى قوى الثورة تصارع من أجل تحقيق آمال الشعب السوري في نيل الحرية والتحرر، والوصول إلى دولة مدنية تعددية، تنهض على مبادئ المواطنة وحقوق الإنسان.
المستقبل