الإسلاميون والحداثة: سيرة “فكر” مغرور وغير نزيه
دلال البزري
تعرفهم من هندامهم وهندام نسائهم وكراهيتهم لغير المسلمين على مختلف مذاهبهم، “الزنادقة” منهم و”الكفرة” و”الروافض” أو “العلمانيين”… وهؤلاء الأخيرين هم، بقاموسهم، “الملحدين”. تعرفهم أيضاً من طقوسهم المستجدة وقوانينهم وإلحاحهم على تطبيق الشريعة، خصوصاً بعقوباتها الجسدية؛ ومن إيمانهم الراسخ بأن لسانهم هو لسان الله؛ لا حدود لحقهم على المسلمين أو غير المسلمين الذين يتجاسرون على كلامهم، المنسوب الى الله. ولا حدود للحدود التي يضعونها على النساء.
انهم العاملون على إعادة أيام الدعوة المحمدية، الأيام التأسيسية الأولى، الصافية، النقية، الهابط عليها الوحي. أيام الرسول والصحابة ومجتمع المؤمنين. انهم الاسلاميون، بمختلف تدرجاتهم وتوقيتاتهم. ولا فرق عندهم بين إخواني وسلفي وجهادي و”جماعتي” (من “جماعة”) إلا بتقديراتهم المتفاوتة لدرجة “تمكينهم” من تطبيق هذه العودة. أو هكذا يتصورون…
لكنهم بالمقابل لا يأنفون من شيء آخر صنعته الحداثة، ولم تكن معروفة في الأيام المحمدية الغابرة؛ بل يبالغون في اعتماده والتمتع بخيراته. يمسكون الميكروفون ليصرخوا بجماهيرهم شرارات الانضواء تحت راياتهم السوداء. يطلون على الشاشة بجحافل دعاتهم وخطبائهم. يركبون السيارات والطائرات وربما أيضا السفن ليتنقلوا في “جهادهم”. الى بيوتهم يصعدون بالانسنسور، حيث ينعمون بغسالات أوتوماتيكية ولمبات كهربائية ومكيفات هواء وبوتاغازات، وجلايات ومكانس “الهوفر” الخ. هم، فوق ذلك، أشطر من سخَّر التكنولوجيا الحديثة جدا، الانترنت خصوصاً، لتعليم أنصارهم ما يزعمون انه الدين الحنيف ولتدريبهم على استخدام السلاح، العسكري منه و”الفكري”. والى ما هنالك… ما من حاجة ملحة على الزيادة؛ ندرك التفاصيل جميعها، نحن العائشين في يومياتهم. لكن المهم انهم عرفوا، مع هذا الوجه الآخر من الحداثة، كيف يتكيفون معه، كيف يساومون، كيف يتعاملون، كيف يستثمرون… ببساطة، مشوا على هدى مفكرهم الاسطوري، ابو العلا مودودي، وثبتوا خطاه؛ وردّدوا من ورائه أن التقنية التي اخترعها الغرب “الصليبي” الكافر، أو كان سباقا في اختراعها ونشرها على الكوكب الأرضي، هي وحدها التي تستحق ان تؤخذ. انها نتاج الثورة الصناعية الغربية، ومآلها اليوم، التكنولوجيا الرقمية. أما ثورته السياسية، الإجتماعية الدينية التي اخترعت قيم الحرية والتقدم، فترمى في “زبالة الانحلال”، خصوصاً “الأخلاقي” منه.
ما الذي جعل نظرية المودودي تحتفظ بكل نقاوتها بعد ما يقارب القرن من الزمان؟ ما الذي أوقف نمو الفكر الاسلامي السياسي عند هذا الحدّ من التنظير، الذي كان معتمدا في زمن انهيار الامبراطورية العثمانية البطيء؟ واضح من هذا التمييز الاعتباطي بين الوجهين للحداثة، “التحتي” و”الفوقي”، ان الأول أقوى من الثاني، بدليل عدم تعرّض الاسلاميين له، مع انه من نتاج الغرب “الصليبي الكافر”.
ثم، لماذا يمارس الاسلاميون، على اختلاف منابتهم وتدرجاتهم، وحتى اليوم، هذا الفصل اللساني التعسفي بين الحداثتين “التحتية”، والمتجسدة بالصناعية التكنولوجية من جهة، وبين الحداثة “الفوقية”، المتمثلة بالسياسية الفكرية الدينية من جهة أخرى؟ لماذا؟ من أين يستمد الوجه التحتي الغربي قوته أمام وجهه الفوقي لدى الاسلاميين؟
أسبابٌ متفرقة، بوسعنا إحصاء ثلاث منها: أولا، القوة الجبارة للايديولوجيا أمام كل الآلات، ميكانيكية كانت أم رقمية. قوة الفكرة المكابرة، النافية، المتعامية…هذا معروف لدى كل الشعوب، وفي كل التواريخ. والاسلاميون أصحاب ايديولوجيا بإمتياز. يفضلون تسميتها “إيمانا”، ويصبغون عليها مسحة الهية، لا عزوف عنها إلا بـ”ردّة”، أو “بدعة”، أو “فتنة”. رسخ “إيمانهم” بعالم الافكار والقيم والتصورات، يحروسنها بنوع من التفاني، يحسدهم عليها النازيون والبلاشفة. يلبّسون النقاب أو يلبسون العمامة الأفغانية ويطلقون اللحى، يضعون النساء على الرفّ الى جانب الأقليات، بصفتهم أصحاب فعل ايماني لا يتزحزح. ولكنهم بالمقابل لا يفكرون لحظة، لا يستطيعون ان يفكروا، وإن أرادوا، بالاستغناء عن السيارة والموبايل والكمبيوتر. وإن حاولوا… تضررت دعوتهم. فانتشارها مرهون باستخدامهم، بل بحسن استخدامهم لهذه الآلات. وإن استعانوا احيانا، ولو رمزياً، بالساطور والجمل والخيمة… فهم يدعون الى العودة للزمن المحمدي بحاذفيره الممكنة، ولكنهم يفعلون ذلك بواسطة نتاج العصر الذي يعيشون. التكنولوجيا، بمختلف أصنافها وأعمارها، مسخرة عندهم للعودة الى تلك الأزمان الغابرة. من دون السيارة والطائرة والانترنت، لا مجال لربح السلطة التي يتوقون اليها. عصبيتهم الأيديولوجية قوية الى حدّ انها جعلتهم يغضّون الطرف عن هذه المعاملة غير النزيهة للإرث الأخير للبشرية، أي الحداثة، والتي كان للمسلمين حصة فيها. فيما هم دعاة عدل وحق… فيما هم يسمون صعودهم “يقظة دينية”…
سبب ثالث قد يكون واقفا خلف هذه الاعتباطية: ان الحداثة الفكرية، بالأصل، وصلت الى بيئاتنا وهي محمّلة بكل الذنوب التاريخية: كانت عشوائية، فوقية، ظرفية، مجتزأة، متسرعة. وفوق كل ذلك، السلطات القمعية هي التي “أشرفت” على “تسرّبها” إلى ديارنا، أو عاصرته، مجرّد معاصرة. وهي سلطات وضع الغرب على صدرها صفة “العلمانية” تطمينا لضميره على تحالفه معها، هي الفاسدة والاستبدادية؛ وصدّق الجميع هذه الصفة، فيما الواقع كان سلطات مكّنت نشأة الاسلامية السياسية، ابتداء من عهود محددة من تاريخها، ورعت بالتوازي مع الحداثة العشوائية، كل البنود التي سوف تكون غنيمة الاسلامية السياسية، عند رحيلها: الدين والمرأة والاقليات والحريات…. لم تقصر السلطات السابقة، المسماة جزافاً “علمانية”، في غرز جذور الاسلامية السياسية في متونها. لذلك، فان الاسلامية السياسية هي امتداد ايديولوجي منطقي للعهود السابقة، المسماة “علمانية”. لذلك، أيضاً، ليس من حقنا ان نُفاجأ كثيرا بقوة تلقّفها من قبل الاسلاميين.
الآن، هل بوسع الاسلاميين إعادتنا الى العصر المحمدي؟ أم انهم سوف يخفقون؟ وما هو معيار نجاحهم في تلك العودة؟
طبعا، مهما بلغت درجة “تمكينهم” من السلطة، سوف يجدون الطريقة والعبارة المقنعتين للقول، كما قال لينين يوما، ومن بعده ستالين عن الشيوعية: “ان الاسلام الحق، الذي دعوناكم لتؤيدونا من أجل بلوغه، لن يتحقق إلا إذا انتصر الإسلام في كل أنحاء الدنيا”. وسوف، بالتالي، يغالون في السيطرة على النساء والاقليات والعقول والخيال، برهانا وحيداً على قدوم العصر المحمدي في أية لحظة يختل فيها الميزان المحلي والعالمي لصالح “إسلامهم”.
هذا من زاوية نظرهم هم. أما واقعياً، فسوف تكون تجليات هذه العودة مسؤولة عن رسم أغرب المشاهد: خرابة فكرية وعمار تكنولوجيا متقدم، تسيطر بفضلهما الاسلامية السياسية بالطريقة “الناعمة”، الايديولوجية، على قلوب وعقول الحشود، بما لا يمكّن هذه الأخيرة، الا بعد عقود، وبتضحيات جمّة، من تخليص رقبتها من سيوفهم التكفيرية: شيء من قبيل “الأخ الأكبر”، صاحب العين الساهرة بحزم قاس على ضمائرنا وأقدارنا.
هل تكون هذه الخرابة على درجة من الشبه، ولو البسيط مع تلك العصور الذهبية المبتغاة؟ الجواب كلا، بطبيعة الحال. فلو قرأ الاسلاميون التاريخ الذي يعتدّون به، لوجدوا فروقات زمانية ومكانية، فروقات بالعقول، تبعدهم سنوات ضوئية عن مجتمع الدعوة المحمدية. فالرسول لم يمتنع عن الإرث الديني الذي سبقه، وكان وقتها فكر العصر، اي ما يوازي الحداثة الآن… من دون حساب أحياناً. والوثبة الرسولية كانت مدفوعة بديناميكية مكة ومحوريتها. وعندما كان يطلب الرسول من أنفار بعينهم باعتناق عقيدته وايمانه ووحيه، لم يكن يطلب منهم الا البوح بالشهادة. اذ كان يحدس بأن الباقي سوف يأتي مع مشاركة هذا المؤمن الجديد في صناعة تاريخ المحمدية. أما اليوم، فلا ديناميكية الا الديناميكية التمويلية. فيما الشهادة وحدها، دون غيرها من التجارب والحوارات والتفاعلات والقراءات كفيلة بأن تجعل مسلما أي امرىء راغب بالاسلام. يكفي ان يقول المرء “أشهد ان لا اله الا الله وان محمد رسول الله”، ليدخل الى أمة الاسلام. فيزيد بذلك عدد المسلمين الجاهلين بدينهم ووتاريخه وتاريخيته، ويتحول أي توّاق لإمتشاق السلطة، الى مروّج للظلام.