الإسلام السياسي: الإفلاس السلطوي السريع
جهاد الزين
موجة بل موجات وصول الإسلام الأصولي إلى السلطة التي افتتحتها “الثورة الإسلامية” في إيران عام 1979 هل دخلت في عدّها العكسي نحو الانحطاط بعد حوالى 35 عاما من ازدهارها الشامل في المرحلة الأولى، وتحوّلها إلى الاقتتال “الداخلي” بين أصولية شيعية وأصولية سنّية في المرحلة الثانية، واستهلاكها واستهلاك نفسها السريع في السلطة (مصر – تونس) بعد “الربيع العربي” في المرحلة الثالثة؟
بسرعةٍ تحطم شعارُ “الإسلام هو الحل” الذي حملته سياسياً حركات “الإخوان المسلمين” انطلاقا من مصر… وها هي الثورة المصرية الثانية الجارية الآن في شوارع القاهرة تعلن في مسارها انتهاء أي وهْم سياسي بإمكان تميّزِ حركات الإسلام السياسي في العالم العربي في إدارة ناجحة للقضايا الصعبة والمعقّدة المطروحة على الدولة في العالم المعاصر.
يتحطّم شعار “الإسلام هو الحل” بأكثر من معنى ومفارقة: منها أن ملايين من المسلمين وبينهم أعداد كبيرة من المتديّنين يعلنون بأشكال مختلفة في مصر وتونس (وتركيا وإيران) وغيرها أنهم لا يريدون “دولة دينية” وأنهم يَفْصلون بين مصير الحركات الأصولية الإسلامية وبين الإسلام كدين لما يفوق المليار شخص على الكرة الأرضية.
جاءت “العولمة” بأعلى وأقوى وأعنف أشكال الإسلام السياسي كما يتفق عددٌ كبيرٌ من كُتاب وأساتذة مرموقين في السياسة والعلوم السياسية لا مجال لحصرهم هنا. ولكني أتذكّر في هذه اللحظة أحد “أعنف” الكتابات في هذه الفئة من تحليل ربط صعود الإسلام الأصولي بـ”العولمة” هي مقالة جان بودريارد بعد أحداث 11 أيلول 2001 التي اعتبر فيها أن ما فعله إرهابيو نيويورك يومها كان الوليد الطبيعي للعنف الأميركي المضاد.
“العولمة” التي دفعت نحو صعود الأصوليات الإسلامية هي نفسها التي تدفع بأشكال مختلفة ومعقّدة إلى انحطاط هذه الأصوليات.
قال لي عامل مصري في محطة بنزين في الأشرفية – بيروت وهو يستمع إلى صوت محطة الراديو في سيارتي ناقلا آخر أخبار تظاهرات القاهرة وبعض المدن المصرية أمس الأول: “عمل “الإخوان المسلمون” ثمانين عاما للوصول إلى السلطة… لن يتخلّوا عنها بهذه السهولة”.
هذا صحيح جدا ولكن الأصح أيا تكن نتائج الصراع السياسية في المدى المنظور فالأمر العميق الدلالة هو أن سنةً واحدةً من الحكم “الإخواني” كانت كافية لاستنفادهم فأصيبوا في السلطة بإنهاك هائل إنْ لم يكن قد أفلسوا فعليا كمشروع حكم. وهذه من مفارقات التاريخ الحديث بسبب صعوبة إدارة الدولة والقضايا الكبرى التي تواجهها.
ففي الحكم هذه القضايا بل كل قضايا بناء الدولة وتطويرها هي غير إسلامية! الاقتصاد، الرعاية الاجتماعية، التنمية، الخدمات العامة، البيئة… هذا زمن تندلع فيه ثورة في البرازيل بسبب زيادة 20% على أسعار المواصلات في الباصات العامة. ثورة جدية جدا تحوّلت إلى منطلق لطرح قضية إصلاح النظام السياسي بكامله. في تركيا اعتراضٌ على مشروع يقطع بعض أشجار في ساحة عامة في اسطنبول يتحوّل إلى تعبير عن كل الاعتراضات السياسية والاجتماعية والثقافية ضد حزب “ذي جذور أصولية”. ولكن الأستاذ الجامعي التركي شاهين ألباي في مقاله الذي يقارِن بين أحداث “تقسيم” وأحداث “ساوباولو” والمنشور في صحيفة “زمان” في الأول من تموز الجاري يشير بنقد إلى الفارق بين تعامل رئيس الوزراء المتصلّب والاتهامي – وغير المتفهِّم عموما – لاعتراضات الشباب في بلاده خلال تظاهرات “تقسيم” وبين المواقف الايجابية للطبقة السياسية البرازيلية من التظاهرات الشبابية بحيث أنه “لا يوجد سياسي واحد في البرازيل بدءا من رئيسة الجمهورية إلا واعتبرها رسالة غير ملتبسة لضرورة إصلاح النظام السياسي برمته”!
إذا كان الإسلام كدين في أكثر مراحل رسوخه الاجتماعي والثقافي، فإن حركات الإسلام الأصولي في كل العالم المسلم على اختلاف ظروفها بدأت تعيش بأشكال مختلفة أزمة عجز عن تولّي شؤون دولها وتحدياتها: النظام الإيراني القوي أمام تحديات شبابية ونسائية عميقة بدأت تعبّر عن نفسها مبكرا وقُمِعتْ عام 2009، والنظام السياسي التركي العلماني بدأ يواجه تحديات رفض قطاعات طليعية في المجتمع لقدر من “الأسلمة” في السياستين الداخلية والخارجية، وكبرى حركات “الإسلام السياسي” الأصولي في العالم، (أي “الإخوان المسلمون” المصريون)، تقترب من شفير الإفلاس “الدولتي” بسرعة استثنائية. بل هي فعلا أفلست.
عندما جزم “أوليفييه روا” قبل عقدين من الزمن في كتابه الشهير بِـ”فشل الإسلام السياسي” (1992) لم يكن ليتخيّل أن مصر ستكون النموذج “الأصرخ” والأسرع لهذا الفشل لاسيما أن صدور كتابه كان يسبق صعود الإسلام السياسي التركي ونجاحاته بحوالى عشر سنوات والتباسات تعبيرات “الإصلاحية” الإيرانية التي حملها محمد خاتمي ببضع سنوات.
من الصعب التكهن بموت الأصولية بل إن ذلك سيكون خطأً كبيرا بالتأكيد. لكن “موت الدولة الدينية” كمشروع مستقبلي هو تكهّن واقعي جدا. هذا ما يحدث في شوارع القاهرة الآن.
النهار