الإسلام السياسي بعد الثورات العربية: ما الذي يجعله مصدر قلق وارتياب؟
نجيب جورج عوض
تبين التداعيات والإرهاصات التي آلت إليها الثورات الشعبية في كل من تونس ومصر وليبيا (واليمن قريباً) للمراقب أنَّ هناك مراحل انتقالية، قد تطول أو تقصر وفق سياق كل بلد، سيكون فيها الإسلام السياسي هو البديل السياسي المهيمن والنموذج الدولتي الأكثر تأثيراً في عملية إعادة تأسيس الأنظمة الحاكمة في العالم العربي. ستشهد البلاد العربية في تلك المرحلة قيامة مجلجلة، كما تقول لنا مثلاً نتائج الاقتراع الأخير في تونس، للأحزاب والتيارات السياسية الإسلاموية التوجه والبنية الإيديولوجية والفكرية وسيعطى الإسلام السياسي لأول مرة في تاريخ العالم العربي الحديث (ما بعد – الاستقلال) في منطقة الهلال الخصيب والشمال الأفريقي الفرصة ليطبق على أرض الواقع نظرياته ورؤاه الفكرية السياسية والدولتية، وهو سيعطى هذه الفرصة لا من الشارع العربي العام فقط (بما فيه المسيحي، بقناعتي)، بل ومن العالم الغربي قبل أي طرف آخر (كنت قد نشرت مقالاً سابقاً منذ بضعة شهور عن هذا الموقف الغربي الجديد في “نوافذ”).
ولكن، وفي ضوء هذا المعطى الجديد على الساحة السياسية والمدنية العربية، يمكن للمراقب والمتابع لتطورات الأحداث في العالم العربي ولردود الأفعال والتحليلات العربية حيالها أن يلاحظ تململاً وقلقاً وارتياباً، لا بل وخوفاً لدرجة ما، عند الكثير من الأفراد، مسلمين ومسيحيين ولادينيين على حد سواء، في الساحة الشعبية العربية من هذا الاحتمال. يمكن لحظ مثل تلك المشاعر المختلطة في الشارع المسلم قبل الشارع المسيحي، وفي الشارع المعتدل قبل الشارع الليبرالي، وفي الشارع اليميني قبل الشارع اليساري. يلفت النظر ويستحق التقدير في سياق هذه المسألة أنَّ الغالبية العظمى (مسلمة وغير مسلمة على حد سواء) لا تمانع بفوز الإسلام السياسي ووصوله للسلطة عن طريق صناديق الاقتراع، بل إنها تشجع على أن يكون هذا هو طريق ذاك الفكر السياسي إلى السلطة لأنه سيعني أنَّ الديمقراطية وجدت طريقها إلى فضاء الممارسة السياسية في العالم العربي المزهر في ربيع الثورات. ولكن، مع ذلك تلمس في أوساط الساحة العربية العامة قلقاً وارتياباً وبعض الخوف من هذا الاحتمال. فما الذي يمكن أن يكون سبب مثل هكذا قلق وما الذي يمكن أن يكون مصدر مثل هذا الارتياب؟
يحسن أولاً أن نعرِّف بإيجاز مصطلح “الإسلام السياسي”. هل يمثل هذا المصطلح اسماً لمجموعة من السياسيين الذين ينتمون للدين الإسلامي حصراً؟ هل يراد به هيئة أو حزبا سياسيا يديره ويؤلف أعضاءه رجال دين مسلمين تحديداً؟ يتأرجح الاعتقاد الشعبي العام عادة بين أحد هذين الخيارين. ولكن ماذا لو كان للاسلام السياسي معنى آخر، وماذا يمكن أن يكون هذا المعنى؟ في الأوساط البحثية العلمية، واحد من التعاريف العامة والمبدئية، والذي يقدمه الباحث السوداني عبدالله النعيم، أستاذ القانون في جامعة إيموري في أتلانتا، يقول إنَّ الإسلام السياسي هو السعي لتعبئة الهوية الإسلامية في عملية تحقيق أهداف معينة تتعلق بالسياسة المدنية العامة، سواء في إطار العلاقات الداخلية للمجتمع الإسلامي مع مكوناته المختلفة أو إطار علاقة هذا المجتمع المذكور بالمجتمعات الأخرى. مصطلح “هوية إسلامية” هنا لا يفيد فقط الانتماء الديني، بل يدل على هوية سوسيولوجية معينة تعبر عن حوامل ثقافية وسلوكية ودينية وعقائدية معينة. بكلام آخر، الإسلام السياسي ليس في الجوهر ولا في الدرجة الأولى حركة دينية تقوم بمشروع سياسي بالمعنى العربي لكلمة سياسة (من “ساس”، أي قاد وأحكم اللجام على) والذي يفيد السعي للحظو بسلطة أو للفوز بموقع في دوائر صنع القرار بغية قيادة هذا الدين للمجتمع. على أقل تقدير، الإسلام السياسي لا يعني هذا دوماً وحكماً. الإسلام السياسي كمصطلح يشير إلى نشاط فريق من الناس عنده حراك سياسي بالمعنى اليوناني لكلمة سياسة (من “بولس” أو بوليتيا) والذي يفيد الاتجاه نحو الجمهور والتعاطي بالشأن العام وتوظيف هذا في الدرجة الأولى في إعادة صياغة وبناء المجموع المدني وفق تصور معين لماهية الوجود البشري كجماعة في التاريخ؛ وفق تصور سوسيولوجي يتماهى مع تركيبة هذا الفريق من الناس كمجموع بشري ما. هذا يعني أنَّ الإسلام السياسي ليس مجرد ظاهرة أو قوة سياسية تقف في تفاعل، إيجابي أو سلبي، مع قوى سياسية في تنافس ديمقراطي مشروع على الفوز بالسلطة. الإسلام السياسي بمعناه الجوهري مشروع سوسيولوجي، لا سياسي فقط؛ رؤية مدنية – ثقافية، لا مشروع دولة وحكم فقط. والسؤال هنا، ما المقلق في مثل هذا المشروع وفي مثل هذه الرؤية المدنية وما الذي يثير الارتياب عند من لا يحمل هذا المشروع ولا يتبنى تلك الرؤية؟
يعيدني السؤال إلى عبدالله النعيم من جديد. يدعو النعيم محقاً إلى عدم مقاربة أتباع الإسلام السياسي كمجرد حراكات سياسية ونشاطات حزبية ومشاريع حكم وسلطة، والنظر إليهم عوضاً عن ذلك كحراكات وظواهر سوسيولوجية جمعية قائمة بذاتها تسعى لإعادة إنتاج نفسها في الآخر المختلف. من طبيعة الحراكات السوسيولوجية أن يقارب أفرادها الواقع والسياق الموجودين فيه بشكل جمعي شمولي، وكأنهم بنية نمطية واحدة متراصة، أحادية الهوية، شمولية الميول والأهداف، وليس كأفراد مجتمعين (على مبدأ الكل للواحد والواحد للكل)، وأن يعتبروا أنَّّ أي تحد يصيب الحراك هو تحدٍ لجميع أفراده وتهديد لوجود كل واحدٍ منهم (على مبدأ إما نغرق معاً أو ننجو). وهم يتعاملون مع الآخر من خارج الحراك بنفس النظرة التميزية والتفريقية الواحدة ويعتبرونه على حد سواء لا “عدو” أو “ضد” البعض وصديق البعض الآخر، بل عدو وضدهم الجميع كمجموع واحد. كما أن الحراكات السوسيولوجية الجمعية تقوم على مبدأ تعبئة المجموع خلف هدف واحد جامع تذوب في طياته فرادة الآراء وتعدديتها ويصبح تفاوت أولويات واهتمامات وقيم الأفراد تهديداً لبنية الحراك الأحادية. فلنتخيل مثل هذا المخيال السوسيولوجي الجمعي مطبقاً كبديل في المجتمعات العربية في الهلال الخصيب الشديد التنوع والتعددية. فلنتخيل أنَّ شمولية الأنظمة السياسية الديكتاتورية تم استبدالها بشمولية سوسيولوجية هذه المرة، ألا يستدعي مثل هذا الاحتمال القلق والارتياب، حتى ولو كان أتباع هذا الحراك الجمعي المذكور يقبلون مشاركة السلطة وتداولها مع قوى أخرى؟
من ناحية أخرى، لا يمكن للذهنية السوسيولوجية الجمعية التي تجعل من مجموع من الأشخاص ذوي الطموح السياسي يقاربون مجتمعاتهم وكأنهم كتلة أحادية شمولية وينكرون على أنفسهم أنهم، مثل أبناء مجتمعاتهم، أفراد متمايزون ومتفردون أن تقبل شرائع وضعية، مثل شرعة حقوق الإنسان مثلاً، كمصدر للتشريع المدني وللدستور الناظم لحياة المجتمع في الدولة. مثل هذه الشرائع لا تتعارض فقط مع فكرها السياسي والإيديولوجي، بل تتعارض أولاً مع بنيتها كحراك سوسيولوجي. علينا أن نميز هنا بين موقف الإسلام السياسي من حقوق الإنسان كمبدأ وكفكرة وبين حقوق الإنسان كشرعة تتبع الفلسفة الوضعية. فالإسلام السياسي سيؤيد المبدأ والفكرة ولكنه لن يكون متصالحاً في العمق مع الشرعة الوضعية. تقوم كل بنود شرعة حقوق الإنسان من حيث المبدأ والمفهوم على قيم الحرية والعدالة والمساواة والرحمة والحق. وإذا ما سألت أي حراك إسلامي سياسي عن حقوق الإنسان قيمياً ستجد منه تأييداً لا لبس فيه لحقوق الإنسان انطلاقاً من مناداة القرآن الكريم والسنة والفقه الإسلامي عبر التاريخ بنفس قيم الحرية والعدالة والمساواة والرحمة والحق ودفاعه عنها. ولكن، يصبح الأمر مسألة أخرى حين التعاطي مع فلسفة شرعة حقوق الإنسان الوضعية والكامنة خلف تلك القيم كما تنادي بها الشرعة. هنا سيكون للإسلام السياسي مشكلة حقيقية مع الشرعة، بالرغم من تمثل قيمها مع قيم النص الديني.
فالشرعة تقوم على فلسفة حقوق الإنسان كفرد وككائن حي متفرد بذاته لا يقوم وجوده على معايير انتمائه الجمعي لجماعة بذاتها، بل يكمن حقه في الوجود والعيش كإنسان في ذاته البشرية المفردة والقائمة في ذاتها المتمايزة عن ذوات الآخرين. بكلام آخر، في شرعة حقوق الإنسان الوضعية دعوة لإعطاء الفرد الحقوق الآنفة الذكر ولكن بصفته فرداً مفرداً ومتفرداً، لا بانتمائه كعضو في بنيان سوسيولوجي جمعي شمولي يذوب فيه الفرد في بوتقة المجموع وأهداف المجموع وما يعتبره المجموع مفيدا له أو ضاراً به. فلنتخيل الآن حراكاً إسلامياً يقول لنا: من حقكم كمواطنين كل حقوق الإنسان الطبيعية، ولكن، وحرصاً على المصلحة العامة (هنا “المصلحة العامة” تعبير جمعي شمولي يقرره البنيان السوسيولوجي المهيمن بمرجعية ووصائية تنسجم مع قناعاته) عليكم أن تقبلوا بأن تذيبوا تفردكم وتنوعكم الفكري والثقافي والمعرفي (وليس بالضرورة الديني) وتنوع فهمكم للحرية والحق والعدالة والمساواة في بوتقة قرار المجموع السوسيولوجي المهيمن عددياً أو فكرياً أو سلطوياً أو دينياً أو عقائدياً أو اقتصادياً على المجتمع؟ ألن يدعو هذا الحراك الجمعي للارتياب والقلق، حتى ولو كان يؤمن بقيم الحرية والحق والعدالة والمساواة والرحمة ويسعى لتطبيقها في حكمه؟
حين ننظر للإسلام السياسي على أنه في الحقيقة حراك سوسيولوجي جمعي، وليس مجرد تيار سياسي منبثق من خطاب ديني، سندرك أنَّ المصدر الحقيقي للارتياب والقلق من الإسلام السياسي لا تنبع من ماهيته الدينية أو من برنامجه السياسي، بل تنبع في الدرجة الأولى والأهم من طبيعة السياق المجتمعي والانثربولوجي والثقافي التي يمكن لمثل هذا الحراك السوسيولوجي أن يخلقها. لا أؤمن بمبرر لوجود قلق وارتياب من فوز الإسلام السياسي في معركة الحكم وإمساكه بالسلطة طالما أنَّ هذا سيتحقق عبر اللعبة الديمقراطية وفي مناخ تنافس سياسي عادل ومفتوح وحر ويقوم على تكافؤ الفرص وتداول السلطة للجميع وبين الجميع ومن كافة الأطياف والتيارات السياسية. القلق والارتياب الحقيقي يكمنان برأيي في عدم قدرتنا منذ الآن على التيقن من أنَّ الإسلام السياسي مستعد للتطلع نقدياً في بنيته الجمعية والشمولية كحراك سوسيولوجي جمعي ومن أنه يمكن يوماً أن يفكك بنيته الجمعية المذكورة وأن يبدي استعداداً للتعلم من أخطاء وجرائم وكوارث جمعية وشمولية الحراك القمعي والاحادي الذي سبقه في استلام السلطة في العالم العربي. ولكن، كي يفعل الإسلام السياسي ذلك عليه أن يجعل من التعددية والتنوع والفرادة والاختلاف وفكرة “الآخر” مبادئ ومؤسِّسات بنيوية لماهيته ووجوده، لا مجرد وسائل وأدوات وإجراءات تخدم مشروع السلطة وتفيد في عملية صنع القرار فقط.
إنَّ المرحلة الانتقالية القادمة في حياة العالم العربي تتطلب من الشعوب العربية رغبة حقيقية بالانفتاح على فهم الإسلام السياسي ومعرفته بعمق وموضوعية وانفتاح لأنه جزء لا يتجزأ من بنية الشعب العربي. ولكن، على الإسلام السياسي أيضاً أن يفهم بنية مجتمعاته وأوطانه التعددية والتنوعية والفردية والمعقدة دينياً وفكرياً وسوسيولوجياً وإثنياً وثقافياً ومدنياً. عليه أن لا يسطحها ولا يختزلها بنظرة أحادية للمجموع البشري ولا بخطاب شمولي وتسطيحي عن علاقة الدين بالهوية والذات المفردة بالمجموع. عليه أن يعرف بنية المجتمعات العربية بعمق وموضوعية ومعاصرة تاريخية تأخذه خارج حدود جمعيته وشموليته وإذابته للفرد في المجموع بصفته حراكاً سوسيولوجياً؛ تلك الحدود الضيقة جداً والمدمرة لمن يربط وجوده فيها قبل أن تهدد سواه.