الإسلام السياسي وفكرة التطور/ حسام عيتاني
إذا قام قارئ غير متخصص بمتابعة منهجية ودقيقة للمراحل التي مر بها الفكر السياسي منذ نشوء الخلافة الراشدة إلى انهيار الإمبراطورية العثمانية، سيجد بلا ريب مناخات وأجواء وخلاصات مناقضة تماماً لما يقترحه الإسلام السياسي المعاصر، بنسخه وصيغه المختلفة.
يمكن قول الكثير عن هذا التدرج ورفض وصفه بالتطور، أي نفي صفة الانتقال من مرتبة أدنى إلى أخرى أرقى وأكثر تعقيداً، ويمكن حشر الفكر السياسي العربي- الإسلامي في زوايا التحجر والتقوقع ووسمه بالرجعية وانعدام روح المبادرة والتجديد عند القائمين عليه والمشتغلين فيه. وهذا دأب النقاد الحديثين للفكر المذكور في الشرق والغرب والذين وجدوا فيه ما يحول دون استئنافه من حيث توقف، من دون مرور إجباري في المدارس الفكرية الغربية.
لكن هذا موضوع آخر. ما يهمنا هنا هو الالتزام الكامل لقدامى المفكرين العرب والمسلمين بأهداب الشريعة الإسلامية من جهة وإدراكهم العميق لتغير أحوال جماعاتهم ومجتمعاتهم واستحالة تطبيق الأحكام ذاتها التي كان يطبقها الخلفاء الراشدون في المدينة نظراً إلى الاتساع الهائل لمساحة الدولة ولتعدد الفئات التي تؤلفها مقارنة مع مجتمع المدينة في العقود الأولى للإسلام.
التطور الذي شهدته القرون الأولى من الحقبة العباسية، والذي تميز بانكفاء الدعوات إلى استعادة الأشكال الأولى للحكم الإسلامي في بؤر قبلية وريفية، يتزعمها من تبقى من الخوارج والزيديين، حمل في طياته انفصالاً هادئاً بين الدين والدولة. لم يتخل مسلمو العهد العباسي عن الإسلام على عكس ما يتهمهم إسلاميو العصر الحالي وتكفيريوه، ولم ينزلقوا البدع والخرافات، بل تحلوا بإدراك عميق للمتغيرات التي يعيشون فيها. أو قل إنهم تميزوا “بوعي المرحلة” وبفهم عبثية الدوران في حلقة محاولات إحياء صيغ حكم أسقطها التاريخ من حسابه، وسعوا إلى نظر جديد في طبائع الحكم مدركين خصائص الملك والسلطان والأمير ومتعاملين معهم كأشخاص وصلوا إلى السلطة بالشوكة والغلبة، وليس عن طريق الشورى ولا من خلال الانتماء إلى النسب النبوي أو إلى قريش. أي أن فصل الدين عن الدولة الذي يراه إسلاميو اليوم كبيرة الكبائر، قد جرى بصورة أو بأخرى منذ الحقبة العباسية.
يمكن هنا ذكر المراسلة بين الخليفة المنصور وحفيد الإمام الحسن، محمد النفس الزكية الذي ثار على المنصور وأعلن نفسه أميراً للمؤمنين، في إطار محاولات الخلفاء الاحتفاظ بدوري الخليفة ذي الموقع الديني على رأس الامة الاسلامية، والسلطان الذي دانت له الدنيا. كانت المكاتبة هذه اشارة تذكير الى محمد النفس الزكية ان المجتمع العربي – الاسلامي لم يعد قابلا للحكم على النحو الذي حكم فيه الخلفاء الراشدون. ثم مرت الأعوام وجاء من يبعد الخليفة عن السلطة السياسية ويحصر مهماته في “الحلال والحرام” فيما يتولى سياسة الدولة أمراء ووزراء وسلاطين.
الإسلام السياسي المعاصر وجد مخرجاً من هذا الواقع عبر الهرب إلى الأمام، باتباع الحلول القصوى. فجاءت فتاوى تكفير كل المسلمين من القرن الرابع الهجري وصعوداً إلى اليوم، على غرار ما فعل التيار الذي أسسه سيد قطب وأبو الأعلى المودودي، كعلاج للقصور في أدراك الطبائع البشرية المتغيرة واللجوء الى فكرة “الحاكمية” الشاملة.
يتأسس الإسلام السياسي المعاصر على رفض فكرة التطور ومرور الفكر الإسلامي بمراحل وتغيرات عميقة في تناوله للحاجات المستجدة ويقدمه كجملة واحدة لم تتغير منذ أيام النبوة. ومن أسف أن كثراً من المجادلين في الشأن الإسلامي يقبلون هذا الطرح ويجارونه محولين أنفسهم إلى ممثلين ثانويين في المشهد الذي يؤدي البطولة فيه أتباع الإسلام السياسي الإخواني والتكفيري والجهادي. أما الوقائع التي لا نقاش فيها فتقول إن فكرة الدولة الإسلامية تغيرت تغيراً جذرياً من كونها سلطة الجماعة المؤمنة إلى سلطة تعترف بكل الجماعات وتقرها على ما هي عليه من اختلاف وخصائص على ما فعلت السلطنة العثمانية.
ولا يغيب عن الذاكرة ان السلطان العثماني، الحريص على لقب الخليفة أصدر “التنظيمات” الشهيرة التي تؤكد على مساواة المسلمين مع غيرهم في الحقوق والواجبات. صحيح أن كثراً من الفقهاء رفضوا التنظميات ومالوا إلى أتباع نهج صارم في التمييز الطائفي والملي وصحيح أنها جاءت بضغط من القوى الغربية كخطوة على طريق بناء ملكية دستورية، لكن الصحيح أيضاً أن التنظيمات أشارت إلى إمكان إصلاح داخلي في الإسلام.
عليه، يبدو جلياً أن أزمة المجتمعات العربية التي تتفاقم يوماً بعد يوم وتأخذ شكل تدمير لأسس الدولة، لا تنبع من الثقافة وتأويلاتها. إنها أزمة مجتمعات وسياسات انتقلت عدواها إلى الفكر والثقافة.
موقع 24