الإسلام: من النظام إلى الخطاب/ إبراهيم غرايبة
سادت في عالم العرب والمسلمين في مرحلة الدولة الحديثة منذ ثلاثينات القرن التاسع عشر حالة من إعادة إنتاج الإسلام في منظومات معاصرة تطبيقية؛ المناهج والمؤسسات التعليمية، والتشريعات والقوانين، والمؤسسات المعاصرة الإسلامية مثل البنوك والجامعات والصحف والفضائيات والشركات الاقتصادية والمستشفيات، والأفكار والفلسفات المعاصرة (والإسلامية أيضاً)، الفلسفة الإسلامية والإعلام الإسلامي والفكر الإسلامي والتربية الإسلامية والاقتصاد الإسلامي، وأساليب الحياة في الطعام واللباس والترفيه والفنون… عمليات إسلامية شاملة ومنظمة ومنمطة تشبه كل عمليات التنظيم التي انتهجتها الدولة الحديثة للمجتمعات والمؤسسات والأفراد والمدن والبلدات والأفكار والأذواق، فقد منحت تكنولوجيا الصناعة للسلطات السياسية فرصة التنظيم الحصري والشامل للمعرفة والحياة، وقد تكون صورة مبالغة فيها لكنها منطقية وتطبق فعلياً بمستوى أقل رعباً حالة التنظيم والمراقبة الشاملة للناس التي تمارسها الدولة كما في رواية 1984 لجورج أورويل.
تنهار هذه الحالة اليوم وتوشك على الانقراض، وتخطئ السلطات والمجتمعات والشركات خطأ فادحاً إذا كانت تعتقد أنها قادرة على حمايتها بمنظومة من القيم والأفكار هي نفسها تنحسر أيضاً، فهي ليست سوى قيم تنظيمية ساعدت على ترسيخها الثورة الصناعية بما قدمته للسلطات من أنظمة سيطرة جديدة؛ لم يكن هذا الفقه والفكر ولا هذه القلاع والهياكل سوى منتجات الآلة البخارية ومتوالياتها من الطرق والنقل والأسلحة والاتصالات… لم يعد ذلك كله مجدياً أو مفيداً في شيء، ويصعد اليوم «الخطاب» في عالم الأفكار والسياسة والاجتماع بدلاً من «النظام».
تشكل المفهوم الاجتماعي والسياسي لمصطلح الخطاب في المنتصف الثاني للقرن العشرين، وقد شاع استخدامه في الأدب واللغة والسياسة والاجتماع حتى أنه صار يترك من دون تعريف وكأنه من البديهيات، وقد يكون الأكثر ملاءمة في المعنى المعجمي للخطاب بأنه «المعالجة المنهجية لموضوع أو نص ما» وقد انتقل مفهوم الخطاب إلى عالم الإسلام، وكاد يأخذ وضعاً مستقراً ومقبولاً، وإن لم يخضع لتعريف وبحث، لكنه ما زال يستخدم غالباً بمعنى «النظام»، وفي ذلك نشبه من يريد تسيير مركبة بلا طرق!
يعكس الخطاب التحول من الهرمية إلى الشبكية، وفي ذلك تنتقل الأفكار والتطبيقات من الأحادية إلى تعددية لا نهائية، ومن المركزية إلى اللامركزية، ومن التلقي إلى المشاركة. ومن اليقين إلى الشك، ويمكن لأجل المقارنة والتعميم ملاحظة الفرق بين الموسوعة البريطانية أو ما يشبهها من الموسوعات و «ويكيبيديا». ومثلما يكون في مقدور كل إنسان بلا استثناء أن يشارك في تحرير وصياغة وإنشاء الأفكار والمعلومات والمعرفة في ويكيبيديا سيكون أيضاً لدى كل إنسان القدرة والصلاحية للمشاركة في التفسير والفقه والرأي والتعليم والتعلم، بما في ذلك من آفاق وأخطار. صحيح أن الموسوعة البريطانية أكثر رصانة ودقة من ويكيبيديا، لكن ذلك لم يعد يتذكره أحد بدليل كثافة الرجوع إلى ويكيبيديا واستخدامها والمشاركة فيها ونموها واتساعها بلا حدود ولا نهايات!
وكما تخلى آباؤنا عن الكتاتيب والعطارة ولم يعد الجيل الحاضر يعرفها، فإن كل ما نعيشه اليوم من فقه وتفسير وفكر ومدارس وجامعات ومؤسسات صار عرضة للانقراض أو التغير الكبير، لم يعد أحد يقرر أو يعرف «الصراط المستقيم»، لكن لكل مؤمن اليوم «صراطه المستقيم» الذي يعرفه وحده ويقرره بنفسه، ولن يفيد الهيكل الديني أن عمره آلاف السنين وأنه يشغل مئات آلاف الكهنة، فكل إنسان اليوم هو كاهن نفسه بلا مشاركة أو تأثير أو حق لأحد من الناس. وفي ذلك تفعل الدول والمجتمعات العربية والإسلامية خيراً لنفسها وللعالم وتوفر الوقت والجهد إذا بادرت بذاتها متطوعة، قبل أن ترغمها الحقائق الواقعية على التخلي عن كل ما تفعله لأجل الدين وتظن أن الله يريده وتبين أنه لا يريده. هكذا فقط ينتهي هذا الجنون الذي يدمر كل ما أنجزته المجتمعات لأجل تحسين حياتها.
* كاتب أردني.
الحياة