الإصلاح السياسي في ظل “الأمنوقراطية”
سلام الكواكبي
الدولة الأمنوقراطية تتجاوز مفهوم الدولة القمعية أو الشمولية أو الديكتاتورية أو البوليسية، وربما هي تجمعها كلها في سلة واحدة وتضيف عليها سطوة امنية عليا تتحكم بالقرار السياسي والعسكري والاقتصادي والثقافي والديني. وقد تطور هذا النموذج خصوصا في المنطقة العربية.
تبرعم الانتفاضات والاحتجاجات والثورات في مختلف أرجاء البستان المغاربي والمشرقي من المحيط إلى الخليج، ومنها ما يزهر وروداً عطرة ومنها ما يفضي إلى نتائج تدعو للنقاش والتعمق، ولكنها كلها، آجلاً أم عاجلاً، ستغير جذرياً من طبائع نظم استبدادية هيمنت طوال عقود ما بعد إنشاء الدولة الوطنية على السياسة والاقتصاد والمجتمع بأبشع الوسائل القمعية وهي التي جاءت من معركة التحرر الوطني.
لقد تنكرت بلبوس القومية وهي التي أنتجت جرعات عالية من الشوفينية، وادعت التقدمية، وهي التي مارست أصفى أنواع رأسمالية العصابة أو احتكارية الزمرة، وطرحت مفاهيم الحداثة وهي التي أعادت شعوبها إلى مجاهل العصور الوسطى علماً ومعرفةً وفكراً نقدياً. وأخيراً، فقد تفننت بتسخير مفهوم العلمانية لتطويعه كأداة سياسية وهي التي أججت الصراعات الطائفية والانغلاق المذهبي وتقهقر العملية الإصلاحية في الفكر الديني
خطوات تدميرية هدفها الأول والأخير كان ولا يزال المحافظة على عرش السلطة المطلقة بالاستناد إلى العسف الأمني ووجود فئة “متمجّدة ومتجمّدة” يوزع عليها ريع الاستنزاف الاقتصادي لمقدرات هائلة لتصبح تسبّح بحمد الطاغية وبخصائله الإنسانية وبعطاءاته التي لا يقدر “الجهّال” من عموم الشعب على تقديرها.
وينهمك المحللون والباحثون السياسيون في دراسة أسباب هذه الثورات ومحفزاتها معتمدين على محاولة الرجوع إلى تركيبة المجتمعات التي قامت فيها وطبيعة الأنظمة السياسية التي تحكمها، مع الاستمرار إلى التنبيه على خصوصية كل بلد والدعوة إلى عدم وضع مخطط قراءة موحد لفهم مجمل الأحداث في المنطقة. يعكف هؤلاء أيضاً على إيجاد النقاط المشتركة بين هذه الانتفاضات والتي تقوم بمجملها على العلاقة الجدلية بين السياسة والاقتصاد، مما يرجّح كفة علماء الاقتصاد السياسي في فهم مكنونات الأوضاع، مقابل أصحاب الاجتماع السياسي. ويكون أحياناً من المناسب أن يقابل الطرفان تحليلاتهما ويبحثان جاهدين عن أطر مشتركة تساعدهم في النهاية على تبصّر مستقبل المنطقة ومحاولة معرفة إمكان تطور الحراكات وفي أي اتجاه جغرافي أو زمني.
إضافة إلى هذا العمل الضروري لفهم الأسباب والمحفّزات، يبدأ البعض الآخر من العاملين في البحث العلمي المنهجي، والمتآخي في الوقت نفسه مع أوراق المتابعات السياسية والتوصيات الإجرائية، إلى وضع دراسات تصورية للمستقبل في البلدان التي عرفت التغيير أو تلك التي هي في طور التغيير على أمل وصولها إلى برّ الديموقراطية والتحرر من الاستبداد بأقل الخسائر البشرية والمادية. وتتنوع هذه الدراسات لتغطي الجوانب كافة، والتي يمكن العمل البحثي أن يلم بمعطياتها وأن يكون قادراً على تحليل واقعها وتبيّن مستقبلها بالاعتماد على مناهج مجربة وعلى طاقات وخبرات وطنية على مستوى عال من المعرفة والتي لا عقد لديها من اللجوء أو الاستعانة، إن لزم، بخبرات وبمعارف زملاء أو زميلات لها في دول العالم قاطبة.
ويقوم الاقتصاديون بتقديم رؤاهم لما يجب القيام به من إصلاحات هيكلية وجذرية في نظم تغلغل فيها الفساد وتمأسس، وحطمتها تجارب هواة أو مخربين التجأوا خلف ستائر إيديولوجية.
وأما القانونيون، فهم يراجعون نصوصاً يعود بعضها إلى عصور ما قبل الدولة الوطنية ويحاولون أن يجدوا نوافذ أمل تساعدهم على إعادة البناء في المجال الحقوقي والقضائي حيث قضى الطغاة والمستبدون على أي معنى للقضاء المستقل والعادل ودفنوا حقوق الناس في أعماق زنازينهم الفكرية والحجرية. والدستوريون يسعون، بالاعتماد على عملية مقاطعة رياضية لنصوص عدة، الى إيجاد نص دستوري ملائم لمتطلبات دول غابت عنها الدساتير أو علّق العمل بها تحت حجج عدة، أو أنها استبيحت من قبل أنظمة لا قانون لها ولا دستور ولا رادع. ومن الناحية الثقافية، يُعمل على إعادة إحياء مفهوم المواطنة الذي أجهضته الأنظمة القمعية والتي دفعت المواطنين إلى الانغلاق المذهبي والطائفي والعرقي والمناطقي لكي تسيطر عليهم وتستغل خلافاتهم المصطنعة في حماية دوام حكمها.
وفي خضم كل هذه الورش، يبرز الى العلن أمر أساسي ويعتبر هو المصدر لكل الإصلاحات المرجوة، وبدونه، لا مكان لتحقيق أي تقدم أو إصلاح أو ثورة أو تغيير لأن الأنظمة السابقة، أو التي هي في حكم السابقة، قائمة على آلة أمنية متجذرة ليس فقط في المجال الجغرافي والعملي ولكن أيضا في العقول والنفوس والممارسات الواعية وغير الواعية. إنها كما يقول عنها صديقنا الباحث السوداني المرموق حيدر إبرهيم: الدولة الأمنوقراطية.
والدولة الأمنوقراطية تتجاوز مفهوم الدولة القمعية أو الشمولية أو الديكتاتورية أو البوليسية، وربما هي تجمعهم كلها في سلة واحدة وتضيف عليها سطوة أمنية عليا تتحكم بالقرار السياسي والعسكري والاقتصادي والثقافي والديني. ولقد تطور هذا النموذج خصوصاً في المنطقة العربية، حيث لا مثيل يذكر حتى في الديكتاتوريات السابقة في أميركا اللاتينية التي كان طابعها إما عسكريا أو بوليسيا، وجابهت معارضيها بعنف وقمع بمنأى عن جوانب الحياة الأخرى نسبياً. ولا يعتبر النموذج السوفياتي في نهاياته واعتماده على المعالجة الأمنية أيضاً مشابهاً لما تخلله من توزيع “عادل” لمراكز القوى بين الحزب الحاكم، الجيش والأمن.
أما في الدول العربية فالخصوصية شيء عزيز حتى في الممارسة (أو اللاممارسة) السياسية. وبالتالي، فيبدو أن موضوع إصلاح القطاع الأمني بكل تلاوينه هو نقطة الانطلاق لإنجاح بقية الورش الإصلاحية. وهذه العملية تحتاج بالتأكيد الى معرفة واقع ومدى تغلغل المؤسسات الأمنية في بنى المجتمع كافة وفي هيكلية الدولة من عاليها إلى أسفلها. وهذه المعرفة، غير الممكنة في كثير من الأحيان لأن عديد من الأجهزة تحجب هيكلياتها ولا يعرف عنها إلا اسمها أو مكان نشاطها، ضرورية لوضع برامج الإصلاح الفعالة وبالتعاون مع العاملين فيها، أو من يرغب منهم، لبناء غدٍ أقل سواداً.
وأولى الخطوات تعتمد على إخضاع الأجهزة الأمنية للحكومة وليس العكس، وبالتالي، يكون الوزير المسؤول مدنيا حصراً وذا خلفية قانونية بالتأكيد. وعلى البرلمانات أيضا أن تراجع موازنات الأجهزة وأن يُعمل بمبدأ الشفافية والمحاسبة. ويجب إلغاء كل القوانين غير الدستورية التي تحمي الأجهزة من المساءلة القانونية في حالة ارتكابها جرائم أو تجاوزات وهذا موجود في كثير من الدول حتى الآن. ومن الأساسي أيضاً أن تجري عملية دمج للأجهزة في اتجاهين، جهاز داخلي وآخر خارجي ليس أكثر. فمهماتها المستقبلية ستكون الحفاظ على أمن المواطن والوطن وليس ما تقوم به حالياً من حفاظ على أمن السلطة ضد مصلحة المواطن وضد مصلحة الوطن، ربما.
( استاذ جامعي وباحث – باريس)
النهار