الإعـلان العالمي لحقوق الإنسـان: في الحدود المرجعية والمفارقات/ كمال عبد اللطيف
1 – مرت سبعون سنة على تدوين الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948-2018)، خاضت فيها البشرية معارك متعددة، تمت فيها الاستهانة بكثير من مبادئه وقيّمه، وأثيرت فيها قضايا وأسئلة تدعو إلى التفكير مجدداً في مواده وديباجته. وقد لا يكون هناك خلاف كبير بين المشتغلين بمجال حقوق الإنسان، في أهمية المرجعية النظرية والتاريخية، الموجهة لأغلب وأهم المبادئ، التي حُرِّرت بُنُودُ الإعلانِ انطلاقاً منها وبواسطتها، إلا أن المسافة التي ظلت تتسع وتضيق، طيلة العقود السبعة المنصرمة، بين مبادئ التصريح ومعطيات الواقع التاريخي في مستوياته المتعددة، تكشف وجود حدود معينة لمرجعياته الفلسفية، كما تدل في جانب آخر منها على وجود مفارقات لا حصر لها، بين الإعلان كمشروع للتحرر والانعتاق، وبين قيود التاريخ وموانع الواقع، التي تحول دون حصول المطابقة المأمولة بين طموحاته الحقوقية وحياة البشر الفعلية.
نحن هنا، نُقِرُّ بالقيمة القانونية والأخلاقية والميتافيزيقية، التاوية خلف نص الإعلان، ونقرأه كمشروع فعلي لإرادة تروم إعطاء الاعتبار الأول لمبادئه الكبرى، المتمثِّلة في الحرية والمساواة والكرامة البشرية، وهي مبادئ يُعَيِّنُها نص الإعلان، يدافع عنها ويضعها ضمن سلم أولوياته، حيث تتغنى بها ديباجته، وتعمل بنوده على إبرازها وترتيبها. إلا أننا عندما نفكر في الإعلان، في ضوء الأسئلة وردود الفعل التي توالت منذ إقراره، نتبيَّن أنه نشأ ككل النصوص القانونية ذات الصبغة الدولية، محملاً بجوانب من روح التوافق السياسي، الذي تمت صياغته في إطاره، وروح التحفُّظ العقائدي الرافضة لكثير من بنوده. إن مرجعية الإعلان تحولت إلى سقف عقائدي، مؤسس لكل خطاب في مجال حقوق الإنسان؟
إن مراجعة متأنية للإعلانات والمواثيق الجزئية، التي دُوِّنت لرفعِ مسعاه الكوني، تدل على قوته، كما تدل على المرونة البادية علاماتها على بعض بنوده. أما الاختلافات القائمة بين المواثيق الجزئية، وهي في أغلبها تسلم بصورة معلنة بالروح الناظمة لإعلان 48، رغم أنها أعدت في الأصل لنقد ما تعتبره تمركزاً غربياً في ديباجته وبنوده، الأمر الذي ترتَّب عنه ، ما ولد اشتغال الأجيال الأخرى من المواثيق التي صدرت بعده، على تدارُك العديد من نقائصه، نحن نشير هنا إلى عهدي الحقوق المدنية والسياسية، ثم الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافة، وقد صدرا معاً سنة 1966، حيث اتجه العمل فيها نحو مزيد من ترميمه وتقويته.
لا يعني هذا، أننا نسلم بالإيجابية المطلقة لإعلان أُعِدَّ في سياق ملابسات سياسية أيديولوجية وتاريخية معلومة، قدر ما يعني أولاً وقبل كل شيء، أن انفجار الوعي الحقوقي الذي ولَّده الإعلان، والمتمثِّل في صدور مواثيق تخص قضايا وموضوعات محدَّدة، يُعَدُّ أمراً مقبولاً، بناء على ديباجته وروحه العامة. وعندما تعلن المواثيق الجزئية اختلافاتها مع بعض بنوده، أو تحيل في ديباجاتها إلى مرجعيات دينية أو أخلاقية، أو تقر بمبادئ وضعية مناقضة أو متكاملة مع مرجعياته، فإن الأمر يؤدي في النهاية إلى توسيع دائرة النظر، ويحول النسبية المستَوعَبة في بنود الإعلان إلى أمر فعلي. كما أن جهود الفاعلين في حقل تدوين هذه المواثيق، تتحول إلى مكاسب جديدة تثري دائرة الإعلان، وتغنيها بما يمكِّن من ضرورة مواصلة العمل الهادف إلى مزيد من تحيينه، في ضوء ما راكمته الإنسانية في عالم يَتَعَوْلَم ويَتغيَّر بإيقاع غير معهود في التاريخ.
2 – تنتظم بنود إعلان 48 في إطار رؤية فلسفية جامعة لروحه العامة ومفاصله الكبرى، وهي رؤية يسهل الانتباه فيها إلى الحضور البارز لكثير من مكاسب الفكر الفلسفي الحديث والمعاصر، حيث تحضر الملامح العامة لهذه الرؤية في المفاهيم والكلمات وصيغ الربط الواردة فيه. تحضر الرؤية المذكورة بلغة محدَّدة، وذلك على حساب لغات أخرى، بهدف إبراز تصوُّرات معينة وإخفاء ما يناقضها، لنكون في النهاية، أمام خيار يروم الإعلاء من شأن رؤية فلسفية معينة للإنسان وللطبيعة والتاريخ. صحيح أن ميثاق 1948 يتبنى بصورة واضحة، مكاسب مواثيق صدرت قبله (إعلان استقلال الولايات المتحدة الأمريكية، الثورة الفرنسية، مكاسب الفكر الإنساني المعاصر في النظر إلى العلاقات الإنسانية)، ويقدم خلاصة لجهد فكري قانوني وسياسي، مرتبط بضغوط وإكراهات وأسئلة اللحظة التاريخية العامة، التي أنجز في إطارها.
تساعدنا دروس الفلسفة السياسية الحديثة، في فهم جوانب من المنطق الداخلي المتحكم في عملية إنشائه، حيث تحضر في بنود الميثاق مجموعة من المفاهيم، التي تشير إلى مبادئ ومقدمات الحداثة، بل إننا نستطيع القول بأن الميثاق يُعَدُّ في موضوعه بمثابة تمرين قانوني، يعتمد أرضية فلسفية حاضنة، يتعلق الأمر بالرؤية الفلسفية الحداثية، كما أنه يستوعب ويتجاوز في الآن نفسه، ميراث الحكمة الإنسانية في مجالي الدين والأخلاق، وخاصة في أوجُهِها المتصلة بالإنسان والحرية والعقل.
ساهمت تصوُّرات ومفاهيم الفلسفة الحديثة في تركيب وإنشاء المواثيق الناشئة في مجال حقوق الإنسان، بالصيغ التي نشأت بها. ولم يكن بإمكان الفكر الحقوقي أن ينجز المواثيق والعهود، دون روافع الوعي الفلسفي الجديد بالإنسان والحرية والعدالة، وهي روافع قيَّمية لا يمكن فصلها عن المنظور الحداثي في تاريخ الفلسفة.
صحيح أن مفاهيم الإنسان والطبيعة والعقل والحرية والمساواة، حاضرة في المأثور النظري التاريخي لمختلف الثقافات في التاريخ، إلا أن الدلالات التي اتخذتها في الفكر الفلسفي الحديث والمعاصر، تختلف تماماً عن دلالاتها في السياقات النصية القديمة؛ إن صيغتها القانونية والمؤسسة في إطار من التوافق المحكوم بشروط تاريخية محددة، والمستند في الآن نفسه، إلى مكاسب فكرية تُدْرَجُ في عِداد الإرث البشري المشترك، منحتها خصوصيتها وإطارها القانوني السياسي الجديدين، كما منحتها مقتضيات وإيحاءات الأفق النظري الحداثي.
يستوعب الميثاق إذن، جملة من المفاهيم التي لا يمكن أن تفهم إلا في إطار الفلسفة السياسية الحديثة، وخاصة في كيفية تصوُّرها للإنسان وللطبيعة والإرادة والعقل، كما نشأت وتطورت في نصوص مؤسسي الفكر السياسي الليبرالي ابتداء من القرن السابع عشر، دون أن يعني هذا، أننا ننفي تضمن الميثاق لمعطيات نظرية أخرى، مرتبطة بخيارات فلسفية سياسية أخرى.
وإذا كان الميثاق يخصص مجموعة من بنوده لموضوع العمل السياسي، المرتبط بمجال النضال من أجل تحقيق الديمقراطية، أدركنا أهمية الخلفية الفلسفية الناظمة له، والمتمثلة في حضور الطابع التعاقدي المساواتي للأفراد والجماعات، في ترتيب وإدارة شؤونهم السياسية. إن الشرعية السياسية في الميثاق تستند إلى الحقوق الطبيعية وإلى العقلانية ثم إلى الإرادة العامة ومبدأ التعاقد الحر الواعي، كما تستند إلى تجربة في التاريخ تَخَلَّت عن مطلقاتها الفكرية الكبرى، لمصلحة تصوُّرات تاريخية ذات طابع نسبي، تصوُّرات متصلة بمكاسب الفكر الحديث والمعاصر في مجال المعرفة والتاريخ.
3 – يتخذ الصراع العالمي المتواصل في جبهة حقوق الإنسان، عدة مظاهر بعضها يخص الإعلان في علاقته بالمواثيق الدولية الأخرى في بابه، وكثير منها يخص آليات التطبيق والتوجيه والتنفيذ والتسخير. وتثير الجبهة الثانية، قضايا خلافية متعددة، رغم أن جوهرها الأساس، يتمثل في منطق القوة الذي ما زال يتحكم في مختلف صوَّر الصراع القائمة اليوم.
نعتقد أن متغيرات عديدة تتعلق بالتاريخ والسياسة والإستراتيجية، تدعونا اليوم إلى مواصلة العمل في الثقافة السياسية العربية، من أجل مزيد من توطين بنوده وفلسفته في مجتمعنا، كما تدعونا في الآن نفسه، إلى تجاوُز كثير من صيغه، فلا يعقل في ضوء التحولات التي عرفها أشكال الصراع بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، وبعد الثورة الإعلامية وثورة التواصل، والمتغيرات الاقتصادية الكبرى المتعولمة، لا يعقل بعد كل التحولات، التي أشرنا إلى عناوين بعضها، أن يظل الإعلان قادراً على استيعاب كل المتغيرات التي جرت، والأخرى التي في طور التشكُّل. فإذا ما تابعنا نماذج من الجهود التي بذلت في نقد الإعلان، استطعنا أن نتبين أن توسيع المرجعية بالإشارة إلى مختلف التيارات الفكرية، التي ساهمت بطريقة أو بأخرى في تبني جوانب من قضايا حقوق الإنسان، يساهم في إشراك الجميع في موضوع يتعلق بالجميع، فنحن لا نستطيع الدفاع عن كونية مبادئ ومواثيق حقوق الإنسان، إلا بإشراك كل الثقافات التي ناصرت أو تناصر هذه الحقوق.
وإذا كنا نعتبر أن قيمة إعلان 1948، تتمثل في قدرته على التعبير الحقوقي الفلسفي الأخلاقي والتاريخي، على تطلعات المجتمع الدولي في الزمن الذي حُرِّرَ فيه، بل ونجاحه في صياغة إعلان يعكس تاريخ مرحلة طويلة من الصراع من أجل الدفاع عن هذه الحقوق، فإن الانتصار لهذا الإعلان اليوم، يقتضي الدفاع عن ضرورة تغييره بإعادة تدوبن ديباجته وبنوده في ضوء المتغيرات الكبرى، التي لحقت مستويات الوعي الإنساني بموضوعه، والمتغيرات التي شملت جوانب متعددة من حاضر المجتمعات الإنسانية، في أبعادها الاقتصادية والسياسية والأخلاقية.
نحن هنا ندافع عن المنزع الكوني لهذه الحقوق، في روحه التاريخية النسبية، وفي سياق موازين القوى الدولية، التي تشتغل في إطارها منتديات المنتظم الدولي. لكننا نعي في الوقت نفسه، أن مواثيق التوافق التاريخي والسياسي، تتحدث بلغة ذات صلة بالمنظور الجديد للإنسان وللطبيعة والتاريخ، وهو منظور يُعلي من قيم الحرية والعقل، ويتوخى القطع مع تصوُّرات سادت في أزمنة سابقة على الأزمنة الحديثة.
نتصوَّر أن تطوير معارك النقد الثقافي، ومعارك الإصلاح السياسي الديمقراطي، وكذا العمل من أجل مزيد من الاستيعاب التاريخي لمكاسب التاريخ المعاصر داخل مجتمعاتنا، تُعَدُّ بمنزلة معارك مُدعِّمة ومُعزِّزة لمعركة تعميم الوعي بحقوق الإنسان في فكرنا وفي ثقافتنا السياسية. كما نعتبر أن العناية بالظواهر الاقتصادية والسياسية والعلمية الجديدة، والسعي لتملُّك مقوِّمات الثورة الإعلامية وما يمكن أن يترتب عليها مستقبلاً من نتائج، في الفكر وفي العلاقات البشرية، إضافة إلى ظواهر الإجرام الدولي، والتدويل الذي لحق بعض الأمراض كما لحق تجارة المخدرات، وتطور تقنيات علم الحياة، والبحوث الجارية للسيطرة على تركيب الجينات البشرية.. كلها قضايا ستكون لها نتائج وآثار على منظومة حقوق الإنسان، وينبغي أن يكون لنا رأي فيها، حتى لا نعيد القول غداً بأن جهود البشرية في هذا المجال، مرتبطة فقط بقيم وتصوُّرات لا علاقة لها بقيم تاريخنا وتراثنا، وهي اللغة التي ينبغي أن نتخلى عنها، لأننا جزء من العالم ومن قيَّمه، التي تنشأ أمامنا وبجوارنا، ومن حقنا أن يكون لنا فيها موقف وتصوُّر.
ضفة ثالثة