الإنترنت والمجتمع والسياسة/ بدر الإبراهيم
منذ دخولها حياتنا، أثارت شبكة الإنترنت أسئلةً كثيرة بخصوص تأثيرها على المجتمعات الحديثة، وجدلاً حول طبيعة العلاقة القائمة بينها وبين المجتمع، ومدى تأثيرها في المجتمع، وتأثير المجتمع فيها، وحجم التغيير الذي تُحدثه في السياقات الاجتماعية والثقافية، خصوصاً مع قدرتها الهائلة على ربط الأفراد حول العالم، ومد جسور تواصلٍ بينهم، يمكنه التأثير على الخصوصيات الثقافية في كل منطقة من العالم. يطرح دارن بارني، في كتابه “المجتمع الشبكي” (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات،2015)، نظرياتٍ تسعى إلى مقاربة العلاقة بين التقنية والمجتمع، والتأثيرات الناتجة عن التقنية، انطلاقاً من تعريف التقنية ومضامينها وتصميمها، وما إذا كانت مجرّد أداة محايدة، أم أن لها جوهراً من الخصائص والسمات التي تجعلها بهذا التأثير.
تصر النظرية “الأداتية” على اعتبار التقنيات الحديثة، ومنها شبكة الإنترنت، أدواتٍ محايدة ووسائل تتوقف على الاستخدام البشري لها. وبهذا المعنى، فإن الإنترنت وسيلة لتسهيل تبادل كمٍ هائل من المعلومات، بسرعةٍ فائقة، بين أفرادٍ أو مجموعاتٍ تفصلها مسافاتٌ كبيرة، وهذه الوسيلة، كما غيرها من الوسائل التقنية، يمكن استخدامها لتحقيق غاياتٍ وأهدافٍ مختلفة، ويمكننا تقييم هذه الغايات أخلاقياً بالسلب أو الإيجاب، لكننا لا نستطيع تقييم التقنية نفسها إلا وفق معيار الفاعلية والكفاءة، فاللوم الأخلاقي ينصبّ على الاستخدام والمستخدمين.
أما النظرية “الجوهرانية”، فهي تؤكد أن للتقنية جوهراً وماهية، وليست مجرد أداةٍ محايدةٍ، إذ إنها تُجسّد قيماً خاصة، وهي تشكل نمط حياة المجتمعات الحديثة، وليست مجرد أداةٍ طيّعةٍ للاستخدام البشري. ولذلك، لا يمكن الفصل بين الوسيلة والغاية، ولا غضّ الطرف عن صناعة التقنية نمطاً محدّداً للحياة ورؤية العالم. هذه النظرية التي تشدّد على وجود جوهرٍ للتقنية يفسر تأثيرها، توغل في الحتمية بحسب منتقديها، وتتعاطى مع التقنية على أنها قوة مستقلة ذات لونٍ واحد، لا تخضع للعلاقات الاجتماعية البشرية، وإنما تُخضِعُها.
“بات واضحاً أن الاعتقاد بقدرة التقنية على توليد قوى جديدة من دون النظر إلى شروط الواقع والإمكانات مبالغة في غير محلها”
أفرز نقد المقاربة الجوهرانية للتقنية مقاربةً بديلة تُعرف بـ”البنائية الاجتماعية”، وتقوم على اعتبار التأثيرات الناتجة عن التقنية نتاجاً للتفاعل بين التقنية والبيئة الاجتماعية التي توجد فيها، والعلاقات الاجتماعية السائدة. ويرى أصحاب هذه المقاربة أن التأثير لا يعود إلى جوهر التقنية نفسها، فالإنترنت يتسم بطابع تعدّدي وغير متجانس، وهو خاضع لنمط العلاقات الاجتماعية، والسياق الذي يوجد فيه، ما يجعل الإنترنت وتأثيراته يظهران بأشكالٍ متعدّدة في أماكن مختلفة، وحتى في المكان نفسه، والأثر الذي يُنتجه الإنترنت هو إفراز السياق والأوضاع وموازين القوى السائدة في منطقةٍ ما. وهنا، تلعب السياسة دورها في تأثيرات التقنية.
هذه المقاربة الأخيرة، التي تُعطي وزناً أساسياً للسياق الاجتماعي والسياسي، والأحوال الاقتصادية وموازين القوى، لا تنقصها الشواهد، ويمكن من خلالها فهم حدود التأثير الذي يصنعه الإنترنت، وعلاقته بالقوى المهيمنة.
من الأمثلة المهمة لتأثير السياق السياسي والاقتصادي على التقنية، التحول الذي طرأ على شبكة الإنترنت، إذ إنها بدأت بميلٍ إلى الانفتاح والتحرر من القيود الرقابية، لكنها، بعد ذلك، شهدت عملاً دؤوباً على تقنينها وفرض أنظمةٍ رقابيةٍ عليها. ويعود ذلك إلى أسبابٍ سياسية واقتصادية، فمن جهة أصبح الهاجس الأمني مسيطراً على الحكومات المتنفذة، خصوصاً مع استخدام الشبكة من المتمردين عليها، ما دفع إلى فرض تشريعاتٍ تُضاعف الرقابة على الإنترنت، والطلب من الشركات المرتبطة بالإنترنت تزويد الحكومة الأميركية، مثلاً، بمعلوماتٍ عن مستخدميها. ومن جهة أخرى، أدّى توسع التجارة الإلكترونية إلى مزيدٍ من الضوابط القانونية والرقابية، لتأمين الثقة بين كل الأطراف، وحفظ مصالح الشركات والمؤسسات التجارية.
إسهام السياق السياسي والاقتصادي المباشر والقوي في تأثيرات الإنترنت، عبر التفاعل معه، نجده في الوطن العربي جلياً، إذ ساد اعتقاد في بعض الأوساط الثقافية، مع دخول الإنترنت إلى الوطن العربي، وتطور تطبيقاته حتى الوصول إلى مواقع التواصل الاجتماعي، أن هذه المساحة ستكون عصيةً على القوى المهيمنة، وورطةً لها، وفرصةً لتشكل قوى جديدة.
يشير ما جرى في السنوات الماضية إلى المبالغة الكبيرة في هذا الاعتقاد (أو التمني)، وصحيح أن الإنترنت وفر فضاءً للجميع ليعبروا بأشكال مختلفة، لكن القوى المهيمنة اقتصادياً وسياسياً تمكّنت من إغراق هذا الفضاء بسرديتها ورؤيتها، فمن يحوز رأس المال الوفير يمكنه الاستيلاء على الحيز الأكبر في فضاء الإنترنت، وابتلاع البارزين الجدد، وضمهم إلى المنظومة السائدة، وكل محاولات إيجاد مساحةٍ مختلفةٍ ومستقلةٍ لم تنجح في الفكاك من هذا التأثير للسياق وموازين القوى القائمة فيه.
شهدنا، في الربيع العربي، محاولةً لاستثمار فضاء الإنترنت في إيجاد مساحةٍ لخطابٍ يختلف مع السلطة السياسية، لكن تعثر الثورات، وشراسة الثورات المضادة، حملت معها إخراجاً لهذا الخطاب من أية مساحةٍ في الإنترنت، وهيمنة في هذه الشبكة لرؤية السلطة، وشكَّل الاقتناع والاندماج في هذه الرؤية المهيمنة من بعضهم، أو الخوف من مواجهته من آخرين، النتيجة الواضحة لتأثير موازين القوى السياسية على نتاج التقنية في منطقتنا العربية.
لا يعني هذا تأثيراً مطلقاً للقوى المهيمنة على فضاء الإنترنت. لكن، بات واضحاً أن الاعتقاد بقدرة التقنية على توليد قوى جديدة من دون النظر إلى شروط الواقع والإمكانات مبالغة في غير محلها.
العربي الجديد