الائتلاف الوطني .. ضرورة موفّقة
أسعَدَ خبر تشكيل الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية جميع السوريين الحريصين على صَوْن وحدة البلاد وحفظ دماء السوريين وإيجاد أفق جديد يمكّن من تحقيق أهداف الثورة في الحرية والكرامة والدولة المدنية الديمقراطية التعدّدية بأفضل الطرق الممكنة في ظلّ الظروف الحالية. وفي حقيقة الأمر، كان تشكيل إطار يجمع المعارضة السياسية تحت مظلّة واحدة مطْلبًا ملحًّا لشهور طويلة تعود إلى بدايات الثورة، وغدا لاحقًا ضرورة لتحقيق أهداف الثورة يصعب – إن لم يستحِلْ – الوصول إليها من دونه. وللأسف الشديد، باءت أكثر المحاولات جديّة في هذا المضمار – هيئة التنسيق والمجلس الوطني – بالفشل لأسباب عديدة، نعتقد أن الائتلاف تجنّبها فحاز على إجماع سوري أوسع وتفاعل دولي أكثر استعدادًا على تقديم شيء ما أكبر من ذلك الذي قدّمه للمجلس الوطني، بغض النظر عن حجم هذا الدعم.
ولكي أُجْمِل وأوجِز، هناك ثلاثة أسباب رئيسية تدفعني للقوْل بأن خطوة تشكيل الائتلاف موفّقة وفرص نجاحها أكبر من تلك التي توافرت للمجلس الوطني. أما أولاها، فهو خارجيّ يتعلق بتوقيت الخطوة الذي يأتي بُعَيْد الانتخابات الأميركية حيث لدى الإدارة الأميركية هامش أكبر “للمخاطرة” بخطوة ما، لم يكن ليجرؤ أوباما على المضيّ بها دون أن تكون فرص نجاحها عالية قبل الانتخابات، ولا يعني هذا أن هناك شيء ماثل في الأفق ولكن تصبح الفرضية أكثر ترجيحًا الآن. في نفس الوقت، تأتي الخطوة بعد أن وصلت الثورة السورية إلى أفق مسدود في حالة من “الستاتيكو” الاستنزافية للطرفين، والتي لا توصل إلى حلّ سياسي ولكنها تؤدّي إلى كوارث إنسانية متزايدة، وتهييء بيئة أكثر خصوبة للتطرّف العنفي خاصّة ذلك الذي يتستّر تحت غطاء الدين والجهاد العالمي العابر للحدود، وبالتالي يصبح فتح باب للحلّ السياسي ضرورة دوليّة لاستقرار المنطقة وحفظ الكيان السوري من أي احتمالات تجزئة لا يمكن احتواؤها لاحقًا.
أما ثاني وثالث هذه الأسباب فهو داخليّ يعود إلى شكل ومضمون الائتلاف. فشكلًا، استطاع مهندسو الائتلاف أن يختاروا التسمية المناسبة له والتي تعكس ما يمثّله هذا الجسم السياسي حقيقة، وهذا على النقيض من المجلس الوطني الذي افتقد الابداع محاولًا محاكاة التجربة الليبية ففشل لأنه لم يراعِ فرادة سورية وتجربتها. إن تسمية “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية” تعكس تماما الفئات التي يمثّلها، فهو لا يحتكر التمثيل السوري (كما أراد المجلس) بل إنه فقط يمثل القوى الثورية (السياسية وغير السياسية) إضافة إلى المعارضة التقليدية. كما أنه ليس مجلسا يفتقد المرونة، بل ائتلاف مرن جامع لمن يرغب بالانضمام ويوحي بتوافق قواه المنضوية فيه حول نقاط معينة أدّت إلى “ائتلافها” في سبيل تحقيقها. والتسمية رغم أنها مسألة شكلية ولكنها تعكس دلالات سياسية تهمّ الجهات المختلفة السوري منها والدولي.
وفي جانب آخر، وُفِّق مهندسو الائتلاف في اختيار قائده، ولا أخال أي شخصية سورية أخرى قادرة على استجلاب هذا التوافق الذي حصل عليه المهندس الداعية أحمد معاذ الخطيب. إن اختيار الرجل للمهمّة وجّه رسالات في أكثر من اتجاه، وعكس الانتماء السياسي المناسب لمن ينبغي أن يقود هذه المرحلة من الثورة والتاريخ السوري. فالرجل، ذو التاريخ المعارض الذي لا يمكن أن يشكّك به أحد، معروف باعتداله السياسي والديني. فهو يمثّل الجناح اللاعنفي العقلاني من الثورة الذي يدعو للنضال المدني بوجه الطغيان، ولكنّه أيضا يتعامل مع الواقع العسكري المفروض على الثورة. وهو إسلامي التوجّه لكنّه غير منتمٍ للأحزاب الدينية (بالأخص جماعة الإخوان المسلمين) ومعروف بتسامحه وعلاقاته الجيّدة مع بقية الطوائف. وبالتالي، فالرجل يوافق المزاج العام للثوّار بالتزامه وخلفيّته ويلقى في الوقت نفسه قَبولا من القوى غير الإسلامية المشاركة في الثورة. فضلا عن ذلك، لم يسبق للمهندس الخطيب أن شارك في أي مجلس أو هيئة أو حركة سياسية منذ بدء الثورة، وبالتالي ليس عليه تحفّظات شعبية أو خلافات شخصية مع بقية القوى السياسية. إن انتخاب معاذ الخطيب “ضربة معلّم” كما يقال.
أما من حيث المضمون، فقد نجح الائتلاف في إيجاد تركيبة سياسية مقبولة جدّا ضمّت غالبية القوى الفاعلة في الثورة، ولم تغِب إلا أحزاب هيئة التنسيق التي وُجِّه لبعضها الدعوة ولكنها اختارت طواعيّة عدم الانضمام في الوقت الحالي (والمسؤولية الوطنية تفرض على المخلصين الصادقين الانضمام لهذا الائتلاف). لقد ضمّ الائتلاف، حسب ما أُعْلِن حتى الآن، 65 عضوا، يتمثّل المجلس الوطني فيه كتنظيم موحّد بحوالي الثُلُت، وقوى الحراك الثوري بحوالي الرُّبع، إضافة لممثلين عن جمعيات أهلية (كاتحاد الكتاب ورابطة العلماء)، ومقاعد لبقية القوى السياسية والإثنية، ومقعد للمنشقّين، ثم مجموعة من المقاعد “للشخصيات الوطنية” وهي بدعة سورية تهدف لاحتواء أولئك غير المنضوين ضمن أيّ من التشكيلات السابقة وقد يشكّل انضمامهم إضافة إيجابية للائتلاف أو يجنّب الائتلاف شرّ عوائق قد يضعوها في وجهه بحال عدم وجودهم. أما النقطة الأهم في جانب المضمون، فهي الأهداف المحدّدة الواقعية التي وضعها الائتلاف لنفسه، والتي سنقيّم أداءه بناء عليها. وقد وُفِّق في تحديد هذه المهام أيضا دون أن يشغل نفسه بكل صغيرة وكبيرة في الثورة كما أراد أن يفعل المجلس الوطني وفشل، فدور الائتلاف هو التمثيل السياسي وليس احتكار الثورة. لقد حدّد الائتلاف مهامه بأربع مهام رئيسية: توحيد المجالس العسكرية ضمن مجلس عسكري أعلى، إنشاء مجلس قضاء أعلى، الحصول على اعتراف دولي، وتشكيل حكومة مؤقتة تمثّل السوريين ريثما يسقط النظام.
لا شكّ أنها خطوة هامة جدّا في مسار الثورة السورية، ولا شكّ أن التفاؤل كبير جدا، ولكن لا ينبغي أن يعمي هذا التفاؤل أعيننا عن العيوب، الصعوبات، والمشاكل المحتملة. إن تشكيل الائتلاف ليس الحلّ السحريّ للأزمة السورية، بل هو الخطوة الأولى في هذا المنعطف (الأخير ربما) وينبغي أن تُتْبع بخطوات كثيرة حتى نصل إلى الحلّ. فلا ينبغي التعويل كثيرا على الخارج الذي أثبت عدم حماسته لمساعدة السوريين، دون أن يعني ذلك عدم السعي الحثيث لتحصيل الدعم الدولي السياسي والإغاثي. كذلك ينبغي على الائتلاف أن لا يضيع ضمن ألاعيب السياسة والمهاترات الإعلامية والمزايدات الشعبوية، بل يجب أن يعمل جاهدا على تنفيذ المهام التي شُكِّل من أجلها، بصمت وثبات دون الالتفات إلى التصريحات التثبيطية التي لا تصدر إلا عن طالب سلطة أو جاهل باللعبة السياسية الدولية. وفي هذا السياق، يجب على رئيس الائتلاف – الرجل الطيّب الذي لم يخبر السياسة وألاعيبها قبلًا – أن يبتعد عن الفردانية والارتجالية، ويستعين بأولي العلم والخبرة، ويستشير مختلف القوى الحقيقية الفاعلة وأهل الثقة حتى يصل مبتغاه، وأن يوازن بين الإفراط في الظهور الإعلامي والغياب الطويل بحيث يكون لكلّ طلّة إعلامية معنى وغرض تدفع الجمهور السوري للإنصات بإمعان. أما السوريون، فيتوجّب عليهم أن يعطوا هذا الائتلاف الفرصة في تمثيل الثورة سياسيا، فالساحة لم تعد تحتمل المزايدات، وأن يكون نقدهم بنّاءً هادفًا، لا جارحًا هادمًا. وأخيرا وليس آخرًا، أتمنّى من القوى السياسية المنضوية في الائتلاف أن تسهّل عمله، وتلك غير المنضوية بأن تنضمّ، مبتعدين جميعا عن المصالح الشخصية الفئوية، واضعين سورية وشعبها في المقام الأول قبل كلّ مقام، وفي أعلى الأولويات قبل أي أولوية.
ما زالت الطريق طويلة، ولكنّنا أقرب من أي وقت مضى نحو “البداية”: بداية مشوار الحرية والديمقراطية في سورية الحبيبة. أتمنى التوفيق للائتلاف الوطني، وأعطيه، ورئيسه، ثقتي في هذه المرحلة، على أمل أن أبقي هذه الثقة حتى لحظة سقوط النظام. عاشت سورية حرة أبية!