الاستبداد أعلى مراحل الإنسانية
حسام عيتاني
يتغير مضمون دعوات المعارضة السورية للحصول على مساعدة سياسية وعسكرية غربية عند وقوعها على آذان كتاب وسياسيين أمريكيين لتصبح محاولة للاستدراج إلى فخ جديد شبيه بالتورط الأمريكي في العراق.
تختفي الدوافع الانسانية التي حملت المعارضة على قرع أبواب الحكومات الغربية لنيل عونها في مواجهة ديكتاتور دموي، لتحل مكانها تصورات عن الانخراط كطرف في حرب لا نهاية لها بين إرهابيين وطوائف ومذاهب تقتتل منذ فجر التاريخ.
التحول هذا وجد من يعبر عنه في أوساط المثقفين الأمريكيين، بحسب مقال ديفيد بروموتيش “ابقوا خارج سوريا” (Stay out of Syria!) في العدد الذي سيصدر في 20 حزيران (يونيو المقبل من مجلة “نيويورك ريفيو اوف بوكس” ويحض السياسيين الأمريكيين، كما يظهر في العنوان على الامتناع عن مساعدة المعارضة السورية.
ينطلق المقال من كشف الأخطاء التي وقعت فيها الإدارة الأمريكية في دعمها الثورة الليبية على العقيد معمر القذافي، وأوصلت إلى قتل السفير الاميركي في قنصلية بنغازي على أيدي مسلحين مرتبطين بتنظيم “القاعدة”، ومن هؤلاء ينتقل الكاتب إلى “جبهة النصرة” في سوريا وهي “الجناح الأكثر فاعلية في قتال [نظام الرئيس بشار] الأسد” والمتحالفة مع القاعدة التي تقاتلها، بدورها، حكومة نوري المالكي في العراق.
ويفند الكاتب عدداً من الذرائع التي وردت في مقالات نشرت في الصحافة الأمريكية في الأسابيع القليلة الماضية والتي تقوم على أن الوضع في سوريا اليوم مختلف عن ذاك الذي كان سائداً في العراق عشية غزوة عام 2003، وأن التدخل العسكري الأمريكي المحدود عبر فرض منطقة حظر جوي وضربات إلى أهداف منتقاة، تصب في نهاية المطاف في خدمة المصالح الأمريكية في المنطقة. ويرفض في الوقت ذاته كل التقارير التي أشارت إلى استخدام النظام السوري أسلحة كيماوية ضد المدنيين والمسلحين، مستعيناً بعدد من تصريحات المسؤولين الغربيين في حلف شمال الاطلسي والمحققة الدولية كارلا دي بونتي للقول إن ما من إثبات صلب واحد يثبت استخدام الأسلحة المذكورة، بل إن المعارضة هي التي استخدمتها بحسب تصريح دي بونتي.
الحجة التي يقابل برومويتش بها دعاة التدخل الأمريكي في سوريا واضحة: لقد دفعت الولايات المتحدة 4500 قتيل من جنودها ولقي 151 ألف عراقي مصرعهم حتى عام 2007 فقط في حرب لم يكن لها ما يبررها، إضافة إلى الدمار الهائل والخسائر المادية الأخرى. وبعد استعراضه أعداد اللاجئين السوريين في البلدان المجاورة، يستنتج الكاتب أن المهمة الملحة اليوم هي مساعدة هؤلاء اللاجئين والدول التي تستضيفهم حتى لا تتكرر مأساة لجوء العراقيين الذين ترك 2.7 مليون منهم بلدهم في الأعوام العشرة الماضية ولم تستقبل الولايات المتحدة منهم كمهاجرين سوى 64 ألفاً.
يمكن رسم الخلفية التي يأتي منها المقال على النحو التالي: تدور حرب أهلية في سوريا لأسباب لا تعني الأمريكيين. وأسفرت عن ملايين اللاجئين الذين خسروا الحياة المستقرة التي كانوا يعيشونها في ظل الحكم الذي يحاربونه اليوم.
يهيمن على معارضي النظام حركة إرهابية هي “جبهة النصرة” التي تعرفنا على نسخة منها في العراق. ولسنا مضطرين لخوض حرب جديدة ضد هؤلاء الإرهابيين ما دامت الحكومة العراقية الحالية، واستطراداً حكومة بشار الأسد تواجهانهم. وليس لنا أن ندخل في صراعات بين “متوحشين” لا نفهم ماذا يحركهم وليسوا غير جماعات دينية وعرقية متصارعة منذ الأزل، على ما يبدو من تواصل القتل في العراق. ما يستحق اهتمامنا ومساعدتنا هم هؤلاء اللاجئين حتى لا نضطر إلى استيعابهم في بلادنا.
ما من كلمة واحدة عن الدافع إلى ثورة السوريين ولا عن الأسباب وراء تعثر العراق وتأخر نهوضه. ما من تفسير لظاهرة الأقليات والعلاقات المعقدة بينها وبين الأكثرية في المشرق العربي. ما من علاقة بين الدعاية المدوية طوال عقود عن الحريات والديموقراطية وحقوق الإنسان وبين الأمل الذي علقته أجزاء من المعارضة السورية على تدخل إنساني أو سياسي لوقف المذابح التي يقترفها النظام منذ أكثر من عامين ضد المدنيين السوريين.
كان على السوريبن والعراقيبن قبلهم- بحسب منطق المقال – أن يرضوا بالحياة التي كانت لهم في ظل النظام بدلاً من إرباك العالم بمشكلات اللجوء. يكاد الكاتب أن يصارح القراء أن مسائل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية التي حركت السوريين وكانت في صميم الثورات العربية المستمرة منذ مطلع 2011، لا ينبغي أن تفكر فيها شعوب مقسمة إلى مسيحيين وسنة وعلويين وأكراد وما شاكل من التنويعات الإثنية. عليه، تنقلب مقولات الحداثة والحرية إلى مجرد ضمان للقمة الخبز حتى في ظل القتلة والاستبداد.
هي النظرة الاستعلائية العنصرية بصيغتها الجديدة. الرغبة في علاقات مع عالم “مفيد” لا امتحانات أخلاقية وسياسية قاسية فيه تعري القيم والسياسات التي تتشدق بها الحكومات الغربية، وتعيدها إلى حقيقتها البسيطة القائمة على المصلحة العارية، مضاف إليها ضرورات ما بعد حروب فيتنام والعراق وأفغانستان: السيد لا يريد قتلى في بيته.
موقع 24