الاستثمار الروسي في النزاع السني ـ الشيعي
تظهر خارطة المشهد العربي والعالمي ميلاً متزايداً نحو تدهور أكبر في أحوال العرب والمسلمين ويلعب قطبا العالم، أمريكا وروسيا، دوراً كبيراً في هذا الاتجاه.
لأمريكا دوراتها المتعاقبة من الانعزال والتدخل في العالم، وهي الآن تدخل في طور انعزالي يتغذى من تجربة اندفاعها الأفغانية والعراقية، أولاً، ومن اكتشافها كميات كبيرة من النفط والغاز بشكل يخفض أسهم حلفائها النفطيين العرب، ثانيا، ومن خطتها الاستراتيجية للابتعاد عن المنطقة والتركيز على آسيا والصين للعقود القادمة، ثالثاً.
ينعكس هذا تراجعاً في وضعية حلفاء امريكا في العالم العربي، وخصوصاً السعودية، وفي قدرتهم على التأثير على قراراتها.
اما روسيا القريبة من أوروبا والعالمين الاسلامي والعربي فهي متورّطة جغرافيا (وبالتالي سياسياً وعسكرياً واقتصادياً) ومنخرطة مصيرياً بالتأثير في مآلات الصيرورة التي افتتحتها ثورات الربيع العربي، وتورطها المباشر في الصراع الدائر في سورية نابع من استراتيجيتها للتأثير في هذه الصيرورة.
الاستراتيجية الهجومية الروسية تقوم على تفكيك أوصال العالم الاسلامي من خلال الاستثمار في الصراع السني الشيعي وتأجيج ناره.
يعتبر النظام السوري ورقة مركزية في هذه الاستراتيجية فهو يمثّل نقطة الوصل بين روسيا، إيران ولبنان مروراً بالعراق، وسقوط هذا النظام سيعني كسراً لهذه الاستراتيجية، أما إعادة تأهيله، فتعني استمرار هذا الصراع وربما توريثه لأجيال قادمة.
الحلقة المخفيّة في هذه الأجندة ليست الحفاظ على عرش الأسد بالتأكيد بل تحقيق هدفين متكاملين: الاول منع تشكل جغرافيا سياسية واقتصادية جديدة، تؤالف بين بلدان ‘العروبة’ سياسياً واقتصادياً، والثاني هو منع هذا الخطّ الجغرافي السياسي الاقتصادي الطبيعي من الوصول بنفطه وغازه الى تركيا واوروبا لضمان سيولة ورخص واحتكار الروس لخطوط الطاقة مع اوروبا.
استراتيجية روسيا اذن تقوم على تفكيك العالم العربي والاستثمار في الصراع بين المذهبين الرئيسيين في العالم الاسلامي وفي إعاقة ومنع التغيير في العالمين العربي والاسلامي.
يتكامل التراجع الامريكي عن المنطقة مع العدوانية السياسية والعسكرية الروسية ليقدّما تفسيراً جليّاً لتفاصيل المشهد المظلم والمفتوح على آفاق شديدة الخطورة على الأمتين الاسلامية والعربية.
رغم الاختلاف بين الاستراتيجيتين الروسية والأمريكية فهما في الحقيقة تتكاملان وتتوافقان بالنتيجة لأن حركة الجزر الأمريكية تقابلها حركة مد روسية، بما يجعل هاتين الحركتين المتعارضتين شكلاً متوافقتين مضموناً، ويعود ذلك الى تلاقيهما في منطقتين سياسيتين:
الأولى هي العداء للحركات السلفية الاسلامية المسلحة، والثانية هي الاتفاق على مكانة اسرائيل ودورها في المنطقة.
يعتبر الروس، عملياً، الصراع السنّي الشيعي استثماراً اقتصادياً ومالياً مربحاً على المدى الطويل فهو سيبقي أوصال العالم العربي مقطعة ويفتح باباً لا يغلق للانتقام المتبادل بين السنة والشيعة، بحيث يستنزف امكانياتهم المالية والاقتصادية ويمنعهم من الازدهار والتقدم واعتناق مبادئ الحداثة والديمقراطية والتغيير.
تستثمر هذه الاستراتيجية في التطرّف المتزايد للحركات الاسلامية سنيّة وشيعية وفي اقتتالها الاستئصالي الذي يدمّر البنى التحتية للبلدان العربية ويزرع الخراب والدمار والموت، كما تشجع تواجهاً مصطنعاً بين حركات الاسلام السياسي المدنية مثل الأخوان والمسلمين وبين الأنظمة العربية، وهو خطأ استراتيجي قاتل ووصفة للحرب الأهلية لأنه لا يحارب تيارات اسلامية فحسب بل يخترع مواجهة عبثية بين الشعوب وثقافتها الدينية.
أحد أهداف هذه الاستراتيجية الروسية، وهي ربما تلتقي أيضا مع الاستراتيجية الأمريكية، وهناك اشارات كثيرة على ذلك، هي وضع اوروبا الضعيفة في موارد الطاقة والغاز تحت رحمة الروس والأمريكيين.
إضافة الى كل ذلك، فهذه الاستراتيجية الروسية تتكامل مع الاستراتيجية الاسرائيلية نحو العالمين العربي والاسلامي.
القدس العربي