صفحات سورية

الانشقاق الحاسم في سوريا


أحمد شامي

يأتي انشقاق السيد “رياض حجاب” رئيس وزراء الأسد والذي عبر الحدود اﻷردنية بصحبة عناصر من الجيش الحر كضربة جديدة لنظام العصابة في دمشق. مع ذلك، تسير اﻷمور في “سوريا اﻷسد” كما لو أن شيئاً لم يكن وكأن لا شيء تغير مع انشقاق “الرجل الثاني” في الدولة ! فما هو دور “رئيس الوزراء” في دولة العصابة اﻷسدية ؟

أذكر حين كنت طالب ضابط في دورة أغرار في مدرسة المشاة بالمسلمية قرب حلب، في صيف عام 1986 أن رئيس وزراء اﻷسد اﻷب، عبد الرؤوف الكسم، جاء هو ومرافقيه بسيارته المرسيدس الرسمية وطلب مقابلة العميد مدير المدرسة. هذا اﻷخير ترك السيد “الكسم” ينتظر أكثر من نصف ساعة على المدخل الخارجي قبل أن يتنازل ويسمح له بالدخول ٳلى حرم المدرسة.

السيد “عبد الرؤوف الكسم” جاء لرؤية ابن أخيه الذي كان يمضي دورة تدريببية كطالب ضابط مجند. السيد “الكسم” والذي كان يحظى بثقة اﻷسد اﻷب، طلب من العميد مدير المدرسة أن يمنح ابن شقيقه “ٳجازة” لبضعة أيام يمضيها مع عائلته. انتفض مدير المدرسة ورد ببرود على رئيس الوزراء قائلاً : “أنت تعرف أن هذه اﻹجازات استثنائية ولا يمكن منحها ﻷحد !! مع ذلك، كرمى لعيونك وأنت رئيس وزراء السيد القائد المفدى، سأسمح لابن أخيك بمرافقتك لتناول وجبة الغداء خارج المدرسة، على أن يعود قبل الرياضة المسائية…”.

في نفس الدورة، كان العديد من المقربين لدوائر اﻷمن وأقرباء كبار الضباط لا يضيعون وقتهم الثمين في الحضور للمدرسة ولا حتى لتوقيع أوراق سحبهم للخدمة اﻹلزامية.

هذا المثال الذي كنت شاهداً عليه يوضح حقيقة منصب “رئيس الوزارة” في نظام العصابة اﻷسدية والذي يصح فيه قول “ستالين” حين قابل رئيس وزراء فرنسا “بيير لافال”  عام 1935 الذي جاء طالباً منه أن يبدي بعض المرونة والاحترام لبابا الفاتيكان والكنيسة الكاثوليكية ﻹبعادهما عن “هتلر” : “بابا الفاتيكان ؟؟! كم فرقة عسكرية تحت تصرف هذا الرجل ؟؟”.

كم فرقة عسكرية تأتمر بأوامر السيد “رياض حجاب” ؟ وكم قطعة عسكرية تتلقى أوامرها من الحكومة السورية أو حتى من المنشق السابق الوسيم والعسكري العميد “مناف طلاس” ؟ في دولة العصابة التي أسسها اﻷسد اﻷب، الكلمة اﻷولى واﻷخيرة هي لمن يحمل المسدس.

أهمية انشقاق السيد “رياض حجاب” تكمن في بعدها المعنوي وفي ٳضعاف حجة النظام وتعريته وليست في ٳضعاف بنية النظام اﻷمنية العسكرية والتي لم ولن تتأثر بهكذا انشقاقات. من يذكر اسم “البغدادي المحمودي” رئيس وزراء العقيد “القذافي” ؟ فقط حين فرالرجل ٳلى تونس وقت سقوط طرابلس وقبل قتل العقيد العتيد، عرفنا ومعنا باقي العالم أن في الجماهيرية الليبية الشعبية الديمقراطية ووو…رئيس وزارة !!

مع ذلك، فانشقاق رجل على هذا المستوى يظهر قبل كل شيء شجاعة استثنائية لديه، ونبلاً نادراً لدى العاملين في دولة اﻷسد مما يضع السيد “حجاب” في موقع يؤهله للعب دور بارز في سوريا ما بعد اﻷسد (بما لا يسر معارضي الخارج). انشقاق السيد “حجاب” يوضح مدى تفسخ قبضة النظام اﻷمنية وأن زبانية اﻷسد لم يعودوا يدرون من أين تأتيهم الضربة المقبلة وأنهم أصبحوا عاجزين عن مراقبة كل شاردة وواردة في دمشق.

ٳنهاك هذه اﻷجهزة وعجزها عن حماية، ومراقبة، كبار المسؤولين وحتى بعض الضباط من خارج الدائرة العائلية المغلقة، دليل على تمحور النظام أكثر فأكثر حول قاعدته العائلية الطائفية و في أذرعها اﻷمنية والعسكرية حصراً.

انشقاق السيد “حجاب” يشكل ضربة لبشار اﻷسد شخصياً و للواجهة السياسية في النظام. هذه الواجهة الحالمة بالمحافظة على كل السلطة في كل سوريا وبالمحافظة على الطبيعة العائلية اﻷسدية للنظام. خلف هذه الواجهة، نجد الذراع الضاربة للنظام والمؤلفة من قادة الفرق واﻷلوية المقاتلة على اﻷرض ٳضافة ٳلى رؤوس اﻷفرع اﻷمنية. هؤلاء أغلبهم من الطائفة العلوية و لديهم رأي مختلف قليلاً فيما يخص مستقبل النظام.

القوى الفاعلة على اﻷرض والمشتبكة مع الثوار تبتعد تدريجياً عن واجهة النظام وعن “عائلة اﻷسد” دون أن تجرؤ على قلب ظهر المجن لهذه العائلة التي قدمت خدمات جلى “للطائفة الكريمة” و لكن بما لا يقارن مع ما حظي به “حيتان” آل اﻷسد ومخلوف. العلاقة بين رأس النظام، بشار، وقادة القوى المقاتلة على اﻷرض، انتقلت تدريجياً مع تزايد عسكرة الصراع من علاقة خضوع القادة العسكريين لرأس الدولة ٳلى علاقة تعاضد بين طرفين يتهددهما خطر واحد، هو سقوط النظام وتعرض كافة زبانيته للعقاب.

عسكرة الثورة السورية كان لها آثار جانبية على النظام، فبعدما كانت عائلة اﻷسد هي المصدر الوحيد للنفوذ والثروة والسلطة، وبعدما أهمل اﻷسد الوريث طوال سنين قادة الفرق واللاعبين اﻷمنيين على اﻷرض وفي القطعات العسكرية، اللذين كانوا مدللين وقت اﻷسد اﻷب، وجد اﻷسد الابن نفسه مضطراً للاعتماد على قادة الفرق العسكرية ورؤساء اﻷفرع اﻷمنية والقوى الضاربة للنظام.

في نهاية المطاف، مستقبل نظام العصابة سوف تحدده المعارك على اﻷرض وتوازن القوى داخل النظام اﻷسدي وليس الانشقاقات السياسية مهما يكن مستواها وحتى لو انشقت “الدولة” السورية بقضها وقضيضها عن النظام. على العكس، سقوط أوراق التين عن عورة نظام العصابة يؤدي ٳلى اﻹبقاء على النواة الصلبة العائلية الطائفية مطلقة العنان ودون أن تحتاج “لمسايرة” حلفاء لم تعد لهم أهمية، هذا ما تعلمه آل بري في حلب حين تركهم النظام لمصيرهم اﻷسود.

الاستقراء المنطقي للأحداث في سورية الحبيبة وتسارع “تفتت” القشرة السياسية والعلمانية والحزبية للنظام يقود ٳلى استنتاج أن النظام قد يقوم “بالتخفف” من أثقاله وبالتخلص تدريجياً من “الماكياج” السني وحتى من “الدولة السورية”  ومن تحالفاته غير المفيدة عسكرياً مع باقي الطوائف بغرض الارتداد ٳلى حاضنه الطائفي أولاً ثم الجغرافي ثانياً.

ٳن صح هذا التصور، فسيكون بٳمكان قادة الفرق هؤلاء التضحية ببشار اﻷسد وعائلته، ٳن اقتضى اﻷمر، وتشكيل “مجلس عسكري أعلى” هدفه ٳنقاذ الطائفة وخاصة مسؤولي القوات العسكرية واﻷمنية الذين أدركوا أن النظام سائر ٳلى حتفه وأن بشار والعائلة هم وحدهم من سيكونون في الطائرة ٳلى طهران والتي لن تتسع للجميع. المسؤولون عن القمع قد فهموا أنهم قد يفقدون رؤوسهم في نهاية اﻷمر ٳن لم يحتاطوا للأمر و ربما لن يتمكن اﻷسد من حمايتهم من العقاب. من هنا بدأ نوع من “تلاقي المصالح” بين الراغبين في الانشقاق عن النظام من جهة، وبين مراكز قوى علوية منغمسة في قمع الحراك الثوري وغير قادرة، بعدما انغمست حتى الركب في دماء السوريين، على التراجع.

هذا قد يفسر تكاثر الانشقاقات لمن هم في داخل سورية والواقعين بين نيران متقاطعة وضغوط من عدة جهات، قياساً على ندرتها في الجسم الدبلوماسي خارج البلاد ! هدف قادة الفرق و القتلة المحترفين في النظام ليس تسهيل انتصار الثورة بل “تفكيك” بنيان الدولة في سوريا وٳشاعة فوضى ٳقليمية سوف تسهل انكفاء جزاري اﻷسد مستقبلاً ٳلى “محمية” علوية تضمن نجاتهم من المحاسبة والاحتفاظ بما غنموه. على اﻷقل هذا هو ما يحلم به هؤلاء وهو ما يفسر سلوكهم غير المسؤول والاستفزازي تجاه المحيط القريب بما لا يخدم “اﻷسد” في شيء. استفزاز تركيا عبر تسليم أجزاء واسعة من البلاد لحزب العمال الكردستاني لن يؤدي ٳلا ٳلى تشجيع هذه اﻷخيرة على ٳسقاط نظام اﻷسد. كذلك اﻷمر حين  يقترف الشبيحة مجازر مجانية متنقلة وحين يسارع طيران اﻷسد ٳلى قصف حلب بهدف التدمير المجاني دون التنسيق مع القوات على اﻷرض. هذا المنحى الخطر هو ما حذر منه العاهل اﻷردني حين صرح “أن النظام عاجز عن التغيير وأن فيه من يعمل ربما على خلق جيب علوي…”.

بكلمة أخرى، حتى لو انشق السيد “بشار اﻷسد” عن نظامه فلن نرى تغيراً ملحوظاً في أداء زبانية اﻷسد. نظام العصابة أصبح أسير آلياته الذاتية والتي لا تسمح بغير القمع والقتل وطرد الآخر، انتهاء بالجيب العلوي المدعوم ٳيرانياً دون البحث لا في حل سياسي ولا من يحزنون.

في حال هزمت الثورة، لا سمح الله، فسيكون أول “ضحايا” هذه الهزيمة هو “بشار” ذاته وعائلته الذين فشلوا فشلاً ذريعاً في ٳدارة اﻷزمة وسيكونون عبئاً مستقبلياً على الطائفة و”محميتها”. حالياً، الضمانة الأهم لآل اﻷسد هي علاقاتهم الخارجية، مع ٳيران، ٳسرائيل وروسيا. سيبقى رأس “بشار” على كتفيه مادام زبانيته يحتاجون ٳلى دعم خارجي وغطاء دولي وهذه الحالة ستزول فور انتهاء اﻷعمال العسكرية. هذا ربما ما يفسر تواري “بشار اﻷسد” عن اﻷنظار وخروجه عن صمته فقط حين جاء حليفه وحاميه اﻹيراني ليطمئنه، ويطمئن الخائفين من زبانية النظام، أن ٳيران لن تتركهم لمصيرهم.

وفق هذه المقاربة، سيكون تنحي اﻷسد، أو “انشقاقه” مجرد تغيير في واجهة النظام ولن يعني، بأي شكل من اﻷشكال، نهاية العنف الذي تمارسه جحافل القتل ولا نهاية النظام الدموي في سوريا والذي لن يتوقف عن القتل “مادام فيه عرق ينبض ومادامت لديه ذخيرة”. في هذا تختلف بنية نظام العصابة في دمشق عن صديقها الراحل “القذافي” وتتطابق مع صنوها الصدامي البائد والذي احتاج “لغزو” أمريكي من أجل اقتلاعه من جذوره مع أن عراق صدام كان محاصراً منذ سنوات ولم يكن له من ظهير ٳقليمي أو دولي.

مهما تعددت الانشقاقات فلن ينتهي نظام العصابة اﻷسدي دون استئصاله كاملاً في بعديه العسكري واﻷمني وهذا يحتاج ٳما لتدخل خارجي جوي وبري أو لتسليح الجيش السوري الحر بشكل نوعي وتنظيمه ٳلى درجة يصبح معها قادراً على ٳكمال المهمة وحده. هذان اﻷمران بعيدا المنال حالياً مادام في البيت اﻷبيض رئيس متخاذل ومتهاون مع نظام العصابة اﻷسدي، لا يهمه كم من اﻷرواح ستزهق في بلاد الشام مادام ذلك لا يسيء لفرصه في ٳعادة انتخابه !

اﻷدوار أصبحت واضحة ومحور الشر لم يعد يخفي وجهه القبيح، أعضاؤه معروفون من ٳيران ٳلى الصين وروسيا وٳسرائيل وحزب “حسن نصر الله”. في الجهة اﻷخرى، بين “أصدقاء الشعب السوري، ما زال هناك الكثير من اﻷقنعة والنفاق.

في النهاية، الانشقاق الحاسم في المأساة السورية سيكون لحظة ينشق “الرئيس اﻷسمر” عن نظام اﻷسد…

أحمد الشامي    http://www.elaphblog.com/shamblog    ahmadshami29@yahoo.com

بيروت اوبسرفر : الخميس 9 آب 2012

http://beirutobserver.com/index.php?option=com_content&view=article&id=80907:hjab&catid=39:features

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى