صفحات الثقافة

قدود مكسورة فوق النخل/ زينة هاشم بيك

 

 

لماذا أكره الأفلام الصامتة

أكره الحرَّ لأنه يذكرني

بالمرة الأولى التي صفع فيها وجهي.

كنا جالسَين على الصوفا وقال

إنه صفعني لأن الحرَّ شديد في الخارج.

بعد ذلك بكى وقبّل قدميّ،

وقال إنه لن يعيدها. أكره الأزهار

لأنه بعد أن لكمني

أحضر لي ثلجاً وخمس باقات:

ورد وزنبق وقرنفل وخزامى وفريزيا.

أكره الحليّ لأنه اشترى لي

عقدَ ألماس حين أخرجني

من المشفى، وقال أحِبّيني أحبيني أحبيني.

أكره الأفلام الصامتة لأنها تشبه

آلامي آنذاك – ذروة السّخط لكن بصمت.

أكره أقفاص الطيور لأنني

فتحتُها أكثر من مرة

ولم يَطِرْ الكناري.

أكره الأعشاش لأن يديَّ، حتى بعد سنوات

من رحيلي في ذلك اليوم الذي خنقَ فيه العصافير،

لا تزالان تُطلقان رائحة الريش

ولا أزال أسلُّ من شَعريَ القشَّ والأغصان الصغيرةَ

وصوتَه.

 

■ ■ ■

 

قدود مكسورة

عزيزتي حلب، لا البدرُ الليلةَ

ولا خدُّ حبيبي

فوق النخل

“كنّا ستةً”

والآن صرنا خمسةً

على النبعة

في حديقة لغتنا، “الشحاد” هو الذي ينتظر

ليحصد بوسة

على باب الدار

أكان يجب أن يقصفوا جسدك

ليروا الله

في شريانك؟

عليّ أن أقول له إن “البوسة حرام يومَ الجمعة”.

بدلاً من ذلك، سنحصي الميْتات المشرقة

فوق النخل.

في عملة الحب، أسنانها

لؤلؤ منضود. هو يلملمها

عن ضفة النهر.

هل، لو “نفَخْنا” في الناي، سنبعث

البلبل المكنونَ

على باب داري؟

عزيزتي حلب، وأيّة قدودٍ

تحصي الأنفاس والإيقاعَ الآن

في شريانك؟

 

■ ■ ■

 

بعد التفجيرات

(إلى طرابلس، لبنان، آب 2013)

بعد التفجيرات، ها هي منامات الرماد تراودني؛

كل شيء داكن، حتى محافظ أقلام الأولاد.

يحلُّ أيلول فجأةً بتناوُبِ أضوائه وتقلّباته

دون أن ننتبه إليه. يُقْبلُ ابن عمتي الميت إليَّ

باسماً، يحاول أن يقرصني، ويضحك.

بعد يومين من التفجيرات، وُجدَ ببغاءُ الصيدلية

الصاخبُ حياً؛

لا يتحدث الآن، بل يموء بين حين وآخر.

يقول صاحبه مازحاً، “قريباً ستجعله هذه البلاد

ينبح”. تبدو الأشجار كأنها تتذكر

الأشلاء على أغصانها.

انقذفت بعض المصاعد من أماكنها

مثل قلوب مذعورة. أحاول ألا أتذكرَ

الأولاد الثلاثة الذين ماتوا حاضنين بعضهم

في السيارة، بعد يوم أمضوه على الشاطئ.

تتنقّل أفكاري ما بين الشرفات المهدَّمة

وبيت صديقتي المهشَّم، أحدّق في اللوحة

ولم تزل معلَّقةً على الحائط المتصدع: قارب صيد، وبحر

هادئ. المتطوعون يكنسون الشارع، والصبيُّ

بائع العلكة يمدّ يدَ العون لهم. يقول الناجي

ذو الضماد على عينه إن الأمر بدا كمطر من الزجاج.

من النافذة تغني عمتي في وداع ابنها،

ومن بعيد يلوْح الطربوش الأحمر فوق نعشه،

ويطير منديلها الأبيض.

 

■ ■ ■

 

في يوم و ليلة

اعفِني الليلةَ من هذا الشغف العربيّ بالديكتاتوريين.

ادنُ مني، اصغِ – وردة الجزائرية تُغني،

في يومْ وِ لِيلة. هذا اليوم، هذه الليلة، فلنكن.

فلندع هذا الحديث عن الأرض جانباً. اعفني الليلةَ

من هذا الولعِ العربي بالمؤامرة. أخفض صوتك

إلى صوت عينيّ. انظر إليّ. فلنستمع إلى الموسيقى،

فلندخّن، فلنشرب ونضحك. فلنتّصلْ بالأصدقاء.

هل تتذكر علب التبغ على الصواني في أيدي أمهاتنا؟

كنّ يقلنَ: فِيْهْ مارلبورو، فيهْ فايسروي، فيهْ جيتان.

كانت صواني علب التبغ في كلّ بيت. وفي بعض الليالي،

كانت السياسة تستقر إلى جانب الرماد، وتأتي النُّكاتُ والتهليل،

ويأتي الرقص، وتعلو الـ “الله الله” مع الدخان. الوقت يضطهد

الجميع. فلنشْفَ قليلاً. سلني إن كان باستطاعتي أن أُحبَّ من جديد.

فلنبالغ، سلني إن كان هناك ذراعين كذراعيّ. وردة تغني

هي اشتاقت إليك قبل أن تعرفك. وأنا أيضاً اشتقتُ إليك قبل أن أعرفك.

والآن، يا حبيبي، أشتاق إليك أكثر وأكثر.

 

■ ■ ■

 

عـلــي

لم يكن متسوِّلاً،

بل مجرد شخص يلتمس

لفافةً ويتحدث إلى نفسه.

اقتفتْ يده اليمنى عباراتٍ

إلى دوائر متقطّعة

قرب رأسه المائلة،

قد رأت عيناه

ما وراء اللغة، ولم تستطيعا

إلى العودة سبيلا.

كانت لفافتُه

التي تدلّتْ أبداً بزاوية محددة

بين شفتيه

حتى كادتْ توازي أنفه،

هي مرساته الوحيدة.

كان أهل “وست هاوس”

يتكفّلون بحلاقة شعرٍ مجانية له أحياناً.

لم يدرِ أحد أين كان ينام.

أظننا اقتنعنا بأنه لم ينم،

بأنه كان يختفي

بعد ناصية الشارع.

لم نرَه جالساً أبداً،

كان متسكّعاً مألوفاً

يجوبُ الجانبَ ذاته

من الطريق كلَّ يوم،

كأنما المسافة

ما بين “أبو ناجي” و”اليونيفرسال” كانت

البحرَ الأبيض المتوسط بأكمله.

كان يمشي ويمشي ولكنه أبداً

في المكان. أو لعله لم يكن فيه أصلاً.

ذات يوم أشار إلى سيارة،

قال إنها دبابة روسية، وحدّد

السنةَ التي صُنعت فيها.

كان أحياناً يلقي محاضراتٍ مرتَجلة

عن الشيوعية.

كنّا نلقي السلام أو لا نلقيه،

كان يردّ السلام أو لا يردّه.

ترددتْ شائعات

بأنه كان أستاذاً جامعياً أُصيب بمسّ،

وأن عائلته بأكملها قُتلتْ

أمام عينيه في الحرب،

لكن لم يعرف أحدٌ عنه شيئاً

أكيداً، سوى أنه شكّلَ جزءاً

من شارع “بلس”

كالطلاب والرصيف والأطعمة السريعة،

وأنه كان أحد معالم

هذه المدينة.

 

* ترجمة: أحمد م. أحمد

بطاقة

شاعرة لبنانية تكتب بالإنكليزية من مواليد عام 1981 أصدرت أربع مجموعات شعرية: “أن تعيش في الخريف” (2014) و”أغنية عربية” (2016) و “كان يا ما كان” (2016) و”أعلى من خفق القلوب” (2017).

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى