البحث عن مغامرات إثنوغرافية بديلة: الأنثروبولوجيا وخزانة العجائب والسفر إلى الحياة الجديدة/ محمد تركي الربيعو
درست الأنثروبولوجيا في بدايتها المجتمعات «البدائية» التي بدت محصّنة أمام أفكار الحداثة الغربية. غير أن هذا الحقل المعني بدراسة المجتمعات التقليدية وطقوسها، شهد في العقود القليلة الماضية طقوس عبور جديدة على مستوى الاهتمامات والبحث الإثنوغرافي، من خلال عدم اقتصار أبحاثه على دراسة «المجتمعات الباردة»، وإنما محاولة الاهتمام ودراسة مؤسسات وظواهر جديدة كالحزب السياسي والسوق والهجرة واللاجئين والرشوة وغيرها من المواضيع، كما أن التجارب اليومية أخذت تفرض على هؤلاء الباحثين استبدال ما كان يسمى بـ«الغيرية البعيدة» بمفارقة «الغيرية القريبة» التي عنت أن هناك آخرون في كل مجتمع، حتى يمكن القول إنه ليس هناك إلا هؤلاء. أسهم هذا التحول في مجال اهتمامات الحقل الأنثروبولوجي – وفقاً لمارك أوجيه (عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي)- في نسف الأفكار والأحكام المسبقة التي وضعتها الأنثروبولوجيا الكلاسيكية بين المدنية والتوحش، غير أن ذلك لم يعن – أيضاً وفقاً لأوجيه- أننا توقفنا عن العيش في زمن الطقوس والرموز، الذي لطالما شغل أبحاث الإثنوغرافيين، أو أن سلوكيات وطقوس الآخر التقليدي قد دُفِنت لصالح سلوكيات عقلانية حداثوية. فنحن نعيش – كما يعتقد – ونعتمد في جوانب عديدة من خطوط حياتنا اليومية والمؤسسات التي نعمل بها على منطق «الفكر البري» (وفق تعبير شتراوس) لذاك البدائي. وقد حاول أوجيه أن يشرح فكرته السابقة بشكل أدق، من خلال دراسته «إثنولوجي في المترو» التي بدا أنه يروم من خلالها الكشف عن آثار الفكر البري في «زمن الليكزس» (العولمة) على حد تعبير توماس فريدمان. إذ بدا له من خلال تنقلاته اليومية وملاحظاته الإثنوغرافية في محطات المترو، أن مسار التنقل داخل هذه المحطات، هو أقرب ما يكون إلى الاحتفال اليومي بعبادة السلف، خاصة أن راكب المترو لا يكلّ ولا يملّ وهو يغدو ويعود بلا انقطاع بين محطات غالب تسمياتها تعود لرجال عظماء أو لأماكن مشحونة بالرمزية التاريخية. كما بدا لأوجيه أن التعابير التي نجدها داخل محطات المترو، ولوائح الإرشاد، والطابع التكراري لاستعمالها، بالإضافة إلى تعليمات المنع (ممنوع التدخين)، تشابه إلى حد كبير لغة الطقس الكهنوتي ولغة مؤلفات السحر.
ورغم فرادة الطرح الذي يقدمه أوجيه في دراسته السابقة حول علاقة الطقوس الدينية وعدّتها الشعائرية في الزمن الغابر بحياتنا اليومية، يرى بعض الباحثين الأنثروبولوجيين أن هذه الرؤية تبقى رؤية تقليدية؛ أي بمعنى أنها لا تستطيع أن تنظر للحياة اليومية إلا عبر عدسة ماضوية، وبالتالي فهي تفرض على وظيفة الأنثروبولوجي ذات الانشغالات السابقة التي تدور حول ديناميات الذاكرة، واستمرارية المحلي، أو ترديد ترانيم باتت مألوفة عن التنوع والتاريخ والنسبية الثقافية. بيد أنه لا بد من الإشارة هنا إلى أن هذه الرؤية لا يُفهم منها أنها دعوة من قبل هؤلاء الأنثروبولوجيين للقطيعة مع الماضي وأخلاقياته، بل هي محاولة لعدم الاقتصار على هذا الجانب، ومحاولة العبور بنتائج الدراسة السابقة لفهم مدى تأثير القيم الثقافية على تشكّل وتخيّل الحياة الجديدة في ذهنيّة أي جماعة أو مجتمع محلي (كما سنرى مع أفكار أرجون أبادوراي حول الحياة الجديدة وعلاقة هذه الصورة بالقيم والأخلاقيات والدين)، شريطة أن ندرك في الجانب ذاته، أن هذه القيم الثقافية هي محليّة ولكنها متغيرة، وأن البحث عن ميكانيزمات وصور ثقافية لأزمنة مختلفة تبدو مشتركة أو متشابهة للتأكيد على استمرارية المحلي تبقى رؤية منقوصة.
وفي سياق البحث عن مرحلة عبور أو دور جديد لسندباد هذا الزمان (الأنثروبولوجيين)، يرى الأنثروبولوجي الهندي أجرون أبادوراي في كتابه «المستقبل واقعاً ثقافياً: مقالات عن الظرف الكوني/ترجمة الراحل طلعت الشايب) أنه من المثير للدهشة أن يبدو علم الأنثروبولوجيا اليوم وكأنه منشغل بالماضي وحسب، بدون أن يكون له قول كثير عن المستقبل باعتباره واقعاً ثقافياً؛ وعليه فقد ظل التحليل المنهجي لصنع المستقبل اختصاص أفرع كثيرة من العلوم الاجتماعية والطبيعية، ولكن ليس الأنثروبولوجيا. إذ استطاع علم الاقتصاد أن يدعم مكانته ليكون الحقل الرئيسي الذي يُدرس فيه كيفية قيام البشر بصياغة المستقبل والتنبؤ به. بينما ما زال دور الأنثروبولوجيا محدداً نسبياً في الجدل الأخلاقي الدائر بخصوص موضوعات مثل، الاستنساخ، والهندسة الوراثية، والأشكال الجديدة من الحرب الميكانيكية. وانطلاقاً من هذا الواقع، يحاول أبادوراي الإجابة في كتابه السابق عن سؤال أساسي، وهو كيف يمكن أن تبني الأنثروبولوجيا أسلوباً أكثر منهجيةً ورسوخاً في تناول قضايا المستقبل؟ أو بالأحرى ما هو دور الأنثروبولوجيا في المستقبل؟
للإجابة عن هذا السؤال، بدايةً، يرى أبادوراي أن الإجابة تتطلب إرساء فهم جديد للمستقبل يعتمد على دراسة للعلاقة بين ثلاثة هموم إنسانية كبيرة هي التي تشكله باعتباره واقعاً ثقافياً. هذه الهموم هي الخيال والطموح والتوقع. ويرى أبادوراي أن الأرشيف الهائل لمجال الإثنوغرافيا الذي أنتجه علماء الأنثروبولوجيا وسلفهم منذ أواخر القرن التاسع عشر كان عبارة سلسلة من الصور لما هو محلي، أكثر مما هو سلسلة من صور إنتاج المحلية باعتبارها عملية نشيطة ومستدامة ومتواصلة، ينبثق المحلي من خلالها، في وجه قوى التفكك والإزاحة والصعوبات المادية والتآكل الاجتماعي، التي تواجهها كل المجتمعات. كما كانت الفكرة آنذاك أن المحلي كان دائماً في حالة استمرار، بينما نُظِر للخيال باعتباره يتجلّى فقط في الأحلام والتخيلات ولحظات التجلّي والإبداع العابرة. ورغم أن تحليل الأساطير والطقوس في تاريخ الأنثروبولوجيا زاخر بالدلائل على عمل الخيال في المجتمعات صغيرة الحجم، على أنه نادراً ما كان تحليل هذا الخيال متصلاً بالعمل الاجتماعي المعتاد لإنتاج المحلية، إذ غالباً ما نُظِر إليه بوصفه صورةً تعكس تدمير أو إنكار أو تجاوز الاجتماعي. وقد شهد النصف الأخير من القرن العشرين تطوراً كبيراً في الإنتاجية الاجتماعية للطقوس والشعائر، فقد عمل فيكتور تيرنز على الدراما الاجتماعية، وبحث غيرتز حول صراع الديكة في بالي بإندونيسيا، ويمكن أيضاً أن نشير عربياً إلى الدراسة الرائدة للأنثروبولوجي المغربي حسن رشيق «سيدي شمهروش: السياسي والطقوسي في جبال الأطلسي الكبير» التي ركّز فيها على التنظيم السياسي ودور الجماعات المحلية في إعادة إنتاج وتعديل الطقوس وطريقة التوزيع المتعلقة بتقديم القرابين إلى ضريح سيدي شمهروش. كل ذلك ـ وفقاً لأبادوراي- كان له تأثير كبير يذكرنا بأن الخيال كان جزءا من الآليّة الأساسية لإعادة الإنتاج الاجتماعي ولإعادة إنتاج الطقوس المحلية، مع ذلك، لم يسفر هذا العمل عن إعادة نظر شاملة في إنتاج الحياة اليومية، أو النظر للمحليّة باعتبارها مشروعاً غير مكتمل دائماً، حتى في أبسط المجتمعات. ولذلك، يرى أبادوراي أننا نحتاج اليوم إلى استعادة كاملة لآثار الخيال في السجل الأنثروبولوجي كعنصر أساسي في بناء أنثروبولوجيا قوية للمستقبل، وهو ما يستوجب النظر إلى الأرشيف الشخصي للذكريات المادية والمعرفية، خاصة في حياة الناس العاديين، لكن ليس بوصفه أرشيفاً عن الماضي فقط أو بالأساس، بل بوصفه يقدم لنا خريطة للتغلب على العقبات والتفاوض وتشكيل مستقبلات جديدة.
وربما لفهم أدق هنا لفكرة أبادوراي السابقة حول أرشيف الماضي وعلاقة هذا الأرشيف بالأنثروبولوجيا وبناء مستقبل أفضل، يمكن أن نحيل هنا إلى المقالة المهمة «بيروت، بين الكابوس الحضري والأحلام الطوباوية» التي كتبها كل من الأنثروبولوجي الفرنسي تييري بواسيير والباحث اللبناني في العلوم السياسية جميل معوض. إذ تشير فكرة المقال التي جاءت خلاصة لسلسلة حلقات دراسية عقدت في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى في بيروت تحت عنوان «إمكانية لبيروت، تصورات طوباوية ومبادرات مدنية»، إلى أنه في غياب قدرة المحافظة على المساحات العامة أو إعادة تشكيلها، لجأ بعض أهل بيروت إلى خلق فضاءاتهم الافتراضية الخاصة. على هذا النحو، تقوم بعض مواقع الإنترنت بمشاركة صور لبيروت قبل الحرب (صور فوتوغرافية من الأرشيفات، وبطاقات بريدية)، كما تتشارك حكايات عن النزهة القديمة التي كانت تحصل في المدينة (وهو شيء مشابه لما نشهده اليوم في بعض صفحات الفيسبوك التي تهتم بنشر صور عن سوريا في فترة الخمسينيات والستينيات). قد يعكس هذا البعد الحنيني لبيروت، التي لم تعد موجودة بعد الحرب –وفقاً لكاتبي المقال- بعداً خيالياً، وربما منطوياً على ماض رحل، مع ذلك فهما يريان أن هذا البعد التخيلي في خلق «مدينة متخيلة»، أو إعادة اشتهاء المدينة أو لنسمها كما نشاء، يرسّخ في الحاضر شكلاً من أشكال الحقّ في الحلم، الذي ربما يكون الوسيلة الأخيرة لإنقاذ بيروت من التفتّت الحضري والاجتماعي. بدون الحاجة إلى تغيير الواقع الحضري رأساً على عقب، وإنما إعداده وتكييفه، عن طريق ما هو موجود والمحافظة على ما تبقى، كل ذلك بالتواصل مع الناس وممارساتهم وتصوراتهم.
وفيما يتعلق بالطموح ـ الركن الثاني من مصفوفة أنثروبولوجيا المستقبل ـ فمن المهم وفقاً لأبادوراي، أن نفهم أن القدرة على الطموح قدرة ثقافية، لا يمكن فصلها عن المحلي وعن اللغة وعن القيم الاجتماعية والتواريخ والمعايير. ولتوضيح كيف أن القدرة على الطموح هي قدرة ثقافية، يقترح علينا أبادوراي أن نفهم مثلا ًمعنى الأفكار الخاصة بالحياة الجيدة في المجتمعات المختلفة؛ ورغم أن هناك اليوم، نتيجة للتأثير الواسع للإعلام العالمي، وسرعة الاتصال الإلكتروني وتضاعف دوائر الحركة والتنقل، نمواً عاماً في الصور المشتركة عن الحياة الجديدة، بعضها تجاري ومتمركز حول الثروة والبعض الآخر سياسي الطابع مثل انتشار الأفكار الشعبية غير الديمقراطية؛ على أن هذه التقاربات بحثاً عن الرخاء والحركة، ما زالت تستمد قوتها من تشكّلات القيم والأخلاقيات والدين، وهي محليّة بيد أنها متغيرة. هذه التشكّلات يمكن أن نراها في تنوع صورة الحياة الجديدة التي لا يزال يتّسم بها عالمنا.
ويعدّ عالم المسيحية البروتستانتية في الولايات المتحدة حالة واضحة لهذه الخصوصية؛ إذ على الرغم من التنوع الداخلي المذهل، يجمع هذا العالم مجموعة معينة من المعاني حول فكرة الحياة الآخرة، والحياة المسيحية، والحياة الجديدة. واليوم، خاصة في تلك القطاعات من ذلك العالم، التي يتوسّطها التلفزيون والراديو في الولايات المتحدة، يوجد تمازج واضح بين القيم والرسائل المشبع بها عالم المسيحية الأصولي، وينحو إلى التأكيد على شكل من المساعدة الخلاصية الذاتية، جرعة صحيّة من روح المبادة التجارية، ميلاً شديداً لدخول نقاشات عن الخلق والاجهاض وغيرها من المسائل العلمية، وانحياز شديد للأسرة باعتبارها واحة أخلاقية ضد أخطار المثلية الجنسية والطلاق والحرية الجنسية. هذا العالم البروتستانتي له في الوقت ذاته بعد تبشيري قوي، ومن خلال مؤسسات (وورد فيجن) أصبح حاضراً بعمق في عالم الأنشطة العابرة للحدود القومية، خاصة في ظروف وسياق الكوارث الطبيعية في العالم.
هذا التصور للحياة المسيحية الجيدة مليء بالطبع بكثير من الخلافات والمجادلات والتنوّعات الداخلية مثلما هو في عالم الإسلام، الذي يحتوي كذلك أفكاراً كثيرة مختلفة عن ماهية الحياة الجديدة، رغم أنها مقدّمة إلى حد كبير للغرب من خلال عدسة الإرهاب والجهاد. كما أن النزعة التبشيرية الإسلامية لها أشكالها الخاصة من التدخّل الإنساني. إلاّ أن ما يلاحظه أبادوراي في هذا الجانب، أن الأنثروبولوجيا كانت تميل نحو التردد بين دراسة الحركات اليوتوبية والألفية، الأمر الذي خلق فجوة ملحوظة في الدراسة المنهجية لتنوع الرؤى الخاصة بالحياة الجيدة والحياة الآخرة والحياة العادلة، وكانت النتيجة تقوية الشعور بأن المستقبل ليس عنصراً روتينياً في الفكر والممارسة في جميع المجتمعات. أمّا الملكة الثالثة فهي ملكة التوقع التي تحظى بالاهتمام الأكبر، إلى حد ما، في أرشيف الأنثروبولوجيا. فالحياة الجيدة، بمعنى ما، يمكن أن تُوصف بأنها تلك التي يتمنى كثير من الناس في العديد من المجتمعات أن يحققوها، ولكن الأنثروبولوجيا كانت مهتمة دائماً بما يخشاه الناس وبالتالي يسعون لتجنبه؛ وعلى الأقل منذ الدراسة الاثنوغرافية البارزة بعنوان «السحر والكهانة والشعوذة عند قبائل الازنداي» لإيفانز بريتشارد، كان هناك اهتمام كبير بين علماء الأنثروبولوجيين العاملين في المجتمعات غير الربية لفهم مثل تلك الممارسات وعلاقة ذلك بانشغال كامل وعام بسوء الحظ ونكد الطالع، والمهيأة كذلك لاحتواء مجهولات المستقبل المتصورة على ضوء أحداث الحاضر المؤذية. وقد شهد التوقّع اهتماماً لاحقاً من خلال تناول المخاطرة عبر إسهامات ماري دوغلاس حول الكيان الاجتماعي والطهر والخطر، (وربما تكون هي أول عالم أنثروبولوجي يرى أن هناك تناظرات صريحة بين الخرائط الثقافية للجسد الإنساني والكيان الاجتماعي والكون، وأن الكثير من المجتمعات الإنسانية تكتشف الخطر عند تلك النقاط التي قد تتعرض فيها التمايزات الصريحة لخطر الطمس أو الاختلاط). ورغم ذلك يرى أبادوراي أن هذا العمل رغم أنه أورثنا اهتماماً قوياً بالمخاطرة، فهو يعد تقدماً جزئياً في جوانب التوقّع بالمستقبل، خاصة أن دوغلاس بقيت تنظر للمخاطرة من خلال موضوع الجسد، الذي يعد واحداً من المواضيع التقليدية في حقل الأنثروبولوجيا، بدون أن تراعي مثلاً أن المخاطرة في المجتمعات الحديثة باتت تدرس من خلال مداخل جديدة مثل موضوع التأمين والسوق والكوارث. ولذلك يرى أبادوراي ضرورة أن يولي الأنثروبولوجي اهتماماً أكبر بهذه الجوانب، بما يساهم في أن يلعب الحقل الأنثروبولوجي دوراً أكبر في النظر للمستقبل بدل الركون للكشف عن بقايا خزانة العجائب في حياتنا اليومية.
٭ كاتب سوري
القدس العربي