“البعث” نجح في دفعنا إلى الاختيار بينه وبين سوء آخر/ حازم الامين
في ذروة المواجهة بين جماعة الإخوان المسلمين السوريين والنظام البعثي في السبعينات والثمانينات، لم يتحمل التنظيم آنذاك أن تُنسب إليه عملية مدرسة المدفعية في حلب، والتي أقدم خلالها نقيب في الجيش السوري اسمه ابراهيم اليوسف، مع مجموعة من الجنود، على إعدام ضباط علويين كانوا يتدربون في المدرسة، لا لشيء، بل فقط لأنهم علويون. نفى «الإخوان» أي علاقة لهم باليوسف، ومثلت العملية في حينه ذروة الشقاق بين الجماعة وتنظيم «الطليعة المقاتلة»، وهو أحد الانشقاقات الراديكالية عن «الإخوان» السوريين.
مناسبة استعادة هذه الواقعة إطلاق «فيلق الشام»، وهو أحد تشكيلات «جيش الفتح»، اسم ابراهيم اليوسف على «مدرسة المدفعية» التي تدور حولها اليوم أعنف المعارك في مدينة حلب. وتبدو استعادة التسمية أقرب إلى بعث ضغينة قديمة وأصلية، وضمها إلى المأساة السورية. فمن جهة، نحن أمام نظام مجرم قتل حتى الآن ما يزيد على ثلاثمئة ألف سوري وهجّر أكثر من نصف السكان، ومن جهة أخرى أمام جماعات تكفيرية لن يكون مستقبل سورية، إذا ما أوكل إليها، أكثر إشراقاً من مستقبلها في ظل «البعث».
والحال، أن السوريين من أمثالنا يتخبطون أيضاً بهذه المعادلة، فمهمة كسر حصار حلب تبدو لهم ولنا المخرج الوحيد لإنقاذ مئات الآلاف من المدنيين الذين تستهدفهم السوخوي الروسية والمدفعية الإيرانية بلا رحمة. وكم يبدو صعباً ومعقداً أن يجد المرء نفسه منحازاً ومنقاداً إلى هذه المهمة. وفي الوقت ذاته، وأثناء اندفاع المرء وراء مشاعره هذه، سيصطدم بعدد هائل من الوقائع غير المطمئنة. وربما تلخص العبارة التي كتبها ياسين الحاج صالح في صفحته على «فايسبوك»، النزاع بين المرء ونفسه حول ما يجري في حلب، إذ قال: «فيلق الشام أطلق اسم ابراهيم اليوسف على مدرسة المدفعية في حلب. بقدر غبطتي في انتزاع المدرسة من الدولة الأسدية المجرمة، بقدر ما أرى أن هذه التسمية إجرامية أيضاً».
ولكن، ليست تسمية مدرسة المدفعية باسم مرتكب مجزرة هي وحدها ما يستدرج الحيرة والقلق، فالمؤشرات المنبعثة من المعركة كثيرة، بدءاً من تولي عبدالله المحيسني دوراً في الترويج لـ «الملحمة» وصولاً إلى دور الحزب الإسلامي التركستاني (الصيني) وانغماسييه فيها. وهذا علماً أن مشهد غير السوريين على طرفي الجبهة، يُلخص الكثير من الحقائق حول المعركة، ناهيك عما تثيره عبارة «الانغماسيين» المستعملة في بيانات الفصائل المقاتلة عن المعركة، من هلع في كل العالم.
ويبدو أن إضفاء مهمة كسر الحصار الذي يضربه النظام حول حلب، على الحرب الدائرة اليوم في المدينة، أمر يحتاج إلى بعض التدقيق، وإن كان من نتائجه المحتملة كسر الحصار. فخطوة «إحكام الطوق» على ما يحلو لإعلام النظام أن يسميها، جاءت في سياق القتل الذي بدأه النظام قبل خمس سنوات، لكن «كسر الطوق» باشرته قوى في سياق آخر تماماً، ولا يبدو أن إنقاذ المدنيين هاجس معظم هذه القوى. فالحرب في حلب تجري على وقع مختلف عن جريانها قبل سنوات في حمص مثلاً، وعن جريانها اليوم في الغوطة وفي ريف دمشق.
ثمة مشهد سينعقد يوم الثلثاء بالغ القوة والغرابة، وبعيداً لمسافات طويلة من المدينة المحترقة. سيلتقي المتقاتلان الأصليان على المدينة في اجتماع دافئ، أي رجب طيب أردوغان وفلاديمير بوتين، ومن المرجح أن تكون حلب ملفاً بين ملفات يعتقد المراقبون أن ترتيبها بينهما سيكون ثالثاً أو رابعاً.
المشهد إذاً جلي، فمن منا لا يعتقد أن الحرب في حلب، هي أيضاً حرب بين بوتين وأردوغان؟ والرجلان سيلتقيان خلالها في سياق استئناف ود قطعته واقعة إسقاط الطائرة الروسية، واستأنفه اعتذار الرئيس التركي عن الفعلة. وسورية، وحلب خصوصاً، نقطة افتراق بين رجلين لا يرغبان في الفرقة ويبحثان عن مساحات التقاء. «الطوق» الروسي كان استباقاً للقاء، ووثبة الفصائل الإسلامية في أعقاب إحكام «الطوق» لا يمكن أيضاً استبعاد علاقتها بما سيجري في موسكو الثلثاء.
حلب تختنق، والانحياز الى مهمة كسر الحصار عنها فعل بديهي وفطري وإنساني، لكن العودة إلى السؤال الأول عن الحرب الدائرة فيها مهمة لا يستقيم الانحياز من دونها. فهل «كسر الحصار» هو المهمة المنوطة بـ»الجهاديين» اليوم؟
الإجابة يجب أن تكون أعقد مما يميل مثقفون وكتاب سوريون الى الإتيان به، خصوصاً بعد هذه الخيبات والإخفاقات كلها. إذ لا يعقل أن نتهم النظام بأسلمة الثورة، وبالإفراج عن ألف «مجاهد» من سجونه لكي يحول سورية إلى بؤرة نشاط لهم، ولكي يُرعب العالم بهم، ثم نعود لنوكل الى هؤلاء مهمة كسر الحصار عن المدينة. فهؤلاء سيرسمون مشهدهم، وهو ليس مشهدنا إطلاقاً، إذ أن مستقبل مئات الآلاف من المدنيين المحاصرين من النظام وحلفائه الروس والإيرانيين واللبنانيين، لن يكون هاجساً حقيقياً لهذه الجماعات التكفيرية.
لم يعد ما يجري في سورية صراعاً يمكن الركون فيه الى بداهة الانحيازات. فعناصر الحدث صارت مزيجاً مكثفاً من نزاعات العالم كله. لم نعد حصراً أمام نظام مجرم وقاتل، ففي مقابل هذه الحقيقة ثمة مصالح لا مكان فيها للأخلاق، وثمة مَن فتح سورية على أزمات ونزاعات بعيدة. وحلب اليوم ليست سورية، وما يجري فيها ليس محاولة لكسر الحصار، إنما سعي الى تغيير في المعادلة الميدانية بهدف مفاوضة أخرى، قد ينجم عنها كسر الحصار وقد لا ينجم.
ولكن، هل تكفي معادلة «قد ينجم عنها كسر الحصار» لتجاوز حقائق ثقيلة سيمليها «النصر في حلب»؟
الأرجح أن علينا أن نعيد تشكيل وجداننا بما يساعدنا على تجنّب الانزلاق وراء رغبتنا الأصلية في إلحاق هزيمة بالنظام. أن ننشئ وجداناً مركّباً من حساسيات أكثر تعقيداً من المقارعة السقيمة مع نظام صار خارج كل القيم. إنّه وعي يُخرج «البعث» ونظامه من معايير انحيازاتنا، ويعيق مهمته المتمثلة في دفعنا إلى الاختيار بينه وبين سوء آخر.
ربما كانت معادلة «قد ينجم عنها كسر الحصار» كافية ليندفع المرء وراء رغبته في انتصار «الجهاديين» في حلب، ولكن من الحكمة أن يبقي مخاوفه من الدخان الذي سينبعث من موسكو بعد غد.
الحياة