البعد المتوسطي للأزمة السورية/ عبد الجليل زيد المرهون
كيف يبدو البعد المتوسطي للأزمة السورية؟ وما هي تجلياته الراهنة؟ هناك منظومة عناصر أمنية وسياسية واجتماعية لهذا البُعد، تلتقي فيما بينها غالبا، وإن لم تتكامل بالضرورة.
في اللحظة الراهنة، ثمة عنصران رئيسيان يفرضان نفسيهما بكثير من الوضوح في إطار هذه المنظومة: يتمثل الأول في التنافس الأميركي الروسي على البحر الأبيض المتوسط وموانئه ومنافذه وممراته الحيوية.
ويتجلى العنصر الثاني في النزوح السوري الكبير نحو أوروبا، وتحوّل أزمة اللاجئين السوريين إلى أزمة أوروبية داخلية، بالتوازي مع أبعادها الوطنية والدولية، وما تفرضه من تحديات اجتماعية وثقافية وإنسانية.
في الأصل، تُعد سوريا دولة متوسطية، لها مركزيتها الجغرافية والتاريخية التي حددت دورها الطويل الأمد في حضارات البحر الأبيض المتوسط، كما في تفاعلاته الاجتماعية والثقافية، وصياغة مناخه الدبلوماسي وبيئته الجيوسياسية.
وسوريا هذه، شهدت في مسارها التاريخي المديد جملة من المنعطفات الكبرى في العصرين الروماني والبيزنطي، وبعيد الحرب العالمية الأولى وتفكك الدولة العثمانية. وهي تشهد اليوم منعطفا آخر لا يقل تاريخية.
في جميع هذه المنعطفات الكبرى، كان بُعد سوريا المتوسطي حاضرا، وحاسما في كثير مما تقرر وحدث.
ولعل غالبية المواطنين العرب قد قرؤوا، في مرحلة ما، عن تكوين سوريا التاريخي، وتفاعلاتها المديدة مع حضارات الغرب الأوروبي. وهم بالضرورة قد قرؤوا أيضا عن تطوّر تكوينها الديموغرافي العام، وتعدديته الاجتماعية والثقافية، وتنوعه الحضاري الفائق والفريد من نوعه في هذا الشرق. وهذا الشق الأخير من السمات الوطنية ذو صلة هو الآخر بتفاعل سوريا مع محيطها المتوسطي، شرقا وغربا، وعلى المستويات كافة.
في وقتنا الراهن، ثمة أزمة تعيشها البلاد، لا اتفاق على تعريفها القانوني، وما إذا كانت نزاعا مسلحا داخليا، أم حربا ذات جذور وامتدادات غير محلية. وحسم هذه المسألة يبدو سهلا استنادا إلى منطق الأشياء، لكنه لا يغدو كذلك عند الأخذ بالمقاربات المعيارية. وهذه تحديدا مشكلة المجتمع الدولي ومعاييره المضطربة أو المزدوجة.
وعلى أي حال، هذه الأزمة حالها حال الوطن ذاته، كان لا بد أن ترتدي في صيرورتها ومسارها بُعداً متوسطياً، يفرض نفسه على حاضرها ومستقبلها. وهذا ما حدث فعلا.
وكما سبقت الإشارة، ثمة عناصر وتجليات مختلفة لهذا البعد، سوف نكتفي هنا بالوقوف -بشيء من الإيجاز- على اثنين منها، يتصل كل منهما بالبيئة الدولية لهذه الأزمة.
في أحد مساراته، تجلى البعد المتوسطي للأزمة السورية في رفع منسوب التنافس على البحر الأبيض المتوسط بين القوتين الأميركية والروسية.
تعتبر كل من روسيا والولايات المتحدة لاعبا أساسيا في الأزمة السورية، إلا أن لكل منهما مقاربة خاصة، متباينة عن الأخرى، وتكاد تكون متناقضة.
والتنافس الروسي الأميركي في هذه الأزمة له تجلياته الكثيرة على أرض الواقع، أمنياً وسياسياً. ومن ذلك التحرك النشط لضمان النفوذ، أو تعزيزه، في البحر الأبيض المتوسط، استباقاً لتطوّرات الأزمة السورية، أو بالتناغم الفاعل مع معطياتها.
لقد عززت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) من قدرات الأسطول السادس، فزادت من إمكاناته الاستطلاعية، وطوّرت حجم ومدد تواجد قطعاته في المياه الدولية بين قبرص وسوريا وإسرائيل. كذلك جرت إعادة تعريف جزئي للوجود الأميركي في تركيا.
وعلى الضفة الأخرى للمتوسط، طوّرت الولايات المتحدة من قدراتها في قاعدة روتا الإسبانية. وقد تضمن ذلك نشر أربع سفن حربية أميركية محملة بأنظمة (AEGIS) وصواريخ اعتراض قياسية من طراز “أس أم 3” (SM 3)، وألف عسكري أميركي. وقد انضم الفريق الجديد إلى الجنود الأميركيين المنتشرين على الأراضي الإسبانية، بموجب الاتفاق الدفاعي الثنائي المشترك لعام 1988، والذين يبلغ عددهم سبعة آلاف جندي.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن صواريخ “أس أم 3” المطوّرة ذات معدلات تسارع عالية، ولديها ارتفاع اعتراض يفوق ألف كيلومتر.
وتستطيع سفينة أميركية مزودة بأنظمة (AEGIS) وصواريخ “أس أم 3″، تتمركز في قاعدة روتا، التعامل مع ظروف حرب صاروخية تندلع في رقعة واسعة من البحر المتوسط.
وعلى تخوم المتوسط، استمر البنتاغون في تعزيز حضوره في كل من رومانيا وبلغاريا، كما جرت إعادة تعريف، بعيدة المدى، للوجود الأميركي في البحر الأسود.
وعمليا، بات البحر الأسود منطقة نفوذ أطلسية شبه كاملة، تراجعت فيها مكانة روسيا ودورها التاريخي، فإضافة إلى تركيا -العضو القديم في حلف شمال الأطلسي (الناتو)- أضحت كل من بلغاريا ورومانيا عضوين في الحلف، وأصبحت جورجيا حليفا وثيقا للغرب. كما تراهن دول الناتو على إمكانية أن يغدو بحر آزوف متاحا لقواتها، إذ إن مضيق كيرتش -الذي يصل بحر آزوف بالبحر الأسود- يخضع لرقابة أوكرانيا.
وفي أولى التحركات ذات المغزى، دخل البحر الأسود، في التاسع من مايو/أيار 2014، الطراد الأميركي “فيلا غلف”، المزود بمنظومة (AEGIS)، وصواريخ جوالة من طراز “توماهوك” (Tomahawk)، وصواريخ مضادة للغواصات.
إن إعادة الانتشار الأميركي في البحر المتوسط وحوله قد استهدفت بالدرجة الأولى مواجهة التمدد الروسي الجديد، والاستعداد لحرب أوسع نطاقا في سوريا، وتعزيز الانخراط في قضايا متصلة بالحرب الراهنة الدائرة فيها، ودعم الحلفاء المتأثرين أو المنخرطين فعليا في هذه الحرب.
وإن الولايات المتحدة -بإعادة انتشارها العسكري الجزئي هذا- قد أعادت تعريف البيئة الأمنية للبحر الأبيض المتوسط، أو لنقل أعادت تعريف بيئتها الجيوسياسية.
على الجانب الآخر، وخلافا للمنظور الأميركي، تبدو المقاربة الروسية للبحر المتوسط على صلة مباشرة بالبحر الأسود، ومستقبل الوجود الروسي فيه. فالروس ينظرون للمتوسط باعتباره الخاصرة الرخوة للبحر الأسود، واستتباعاً لأمنهم القومي. وبالقدر الذي يجري تأمين المتوسط، يزداد الشعور الروسي بالأمن، والعكس صحيح.
هذا المبدأ العسكري، أو لنقل الإستراتيجي، شكل فلسفة اهتمام الروس بالبحر المتوسط منذ مئات السنين، وكان إحدى خلفيات حروبهم القيصرية الكثيرة مع الدولة العثمانية، والسبب الرئيسي للوجود السوفياتي اللاحق في هذا البحر.
واليوم، قد يبدو لأول وهلة أن انضمام شبه جزيرة القرم للاتحاد الروسي شكل طوق أمان لوجود روسيا في البحر الأسود، بيد أن الأمر ليس كذلك.
إن البحر الأسود قد تحوّل -كما سبقت الإشارة- إلى منطقة نفوذ أطلسي، وإن ضمان أمن روسيا القومي في هذا البحر يستلزم بالضرورة الانتشار في فضائه المتوسطي، أو لنقل في عمقه الإستراتيجي الرخو.
ومن هنا، يُمكن أن يلحظ المرء التطوّر المتسارع في حجم ونوع الحضور الروسي في مياه البحر الأبيض المتوسط، في السنوات السبع الأخيرة، كحد أدنى.
في قلب هذه المعادلة، تقع سوريا. فالوجود الروسي في سواحلها ليس منفصلا عن المقاربة الروسية الأم، أو لنقل السياق الجيوسياسي الأوسع لهذه المقاربة.
لقد جرت أخيرا إعادة تعريف نوعي للوجود الروسي في سوريا، استهدف من خلاله الروس تعزيز حضورهم في البحر الأبيض المتوسط.
وحتى وقت قريب، كان هذا الوجود يتصف بقدر من الرمزية، ولم تكن له ذراع عسكرية ذات مغزى. وكان نموذجه الأساسي منشأة طرطوس، وهذه المنشأة مخصصة لأغراض الصيانة والتموين، وهي ليست قاعدة عسكرية. ولا يُمكن تصنيفها على هذا النحو وفقا للمعايير المتعارف عليها دوليا. وكان الاحتفاظ بها يحمل مغزى سياسيا بالدرجة الأولى، وذلك على الرغم من اعتراضات إسرائيل الدائمة، ودعايتها الممنهجة ضدها.
اليوم، بدا للروس أن وجودهم في سوريا بات مهددا، وأن عليهم استعادة زمام المبادرة، والانتقال إلى مرحلة الحضور العسكري المباشر فوق الأرضي والمياه.
وقد يكون للتطوّرات في إدلب وجسر الشغور علاقة بهذا المسار الجديد للسياسة الروسية تجاه الأزمة السورية. فالروس -حالهم حال الإيرانيين- وجدوا في تلك التطوّرات تجاوزاً للخطوط الحمر، لا يمكن الركون له، أو التفرج عليه.
كذلك، فإن الروس ربما استشعروا أن هناك في العالم الخارجي من يراوده إغراء التحرك العسكري ضد سوريا، مستنفدا مناخا ما، قائما بذاته، أو جرى اصطناعه في الأصل.
وفي المحصلة، ألقت روسيا ببعض من ثقلها العسكري على الأرض السورية لتقول للجميع إنها حاضرة، ولا يجوز تجاوزها، أو القفز على هواجسها.
وفي الحسابات الأساسية، ليس ثمة فرق بين كثير من الخيارات العسكرية التي تقود إلى ذات الهدف. وقد اختار الروس ما هو أقل إثارة وصخبا.
إننا اليوم بصدد مشهد جديد في البيئة الدولية للأزمة السورية، وهو مشهد لا يدرك أبعاده إلا القليل من الناس، لكن خلاصته هي أن البيئة الإستراتيجية لهذه الأزمة قد تحوّلت.
التجلي الآخر للبعد المتوسطي للأزمة السورية، يتمثل في أزمة اللاجئين السوريين التي شقت طريقها سراعا عبر المتوسط، وأضحت قضية أوروبية داخلية، وذلك بموازاة أبعادها الوطنية والإقليمية الضاغطة.
هذه الأزمة، كان من اليسير على المرء توقعها منذ البدايات الأولى للأحداث، قبل أكثر من أربعة أعوام، فمن يصل إلى تركيا ليس من الصعب عليه مواصلة سيره نحو أوروبا الحصينة. وهذه المسألة قد حدثت في تجربة اللجوء العراقي الواسع النطاق، قبل أعوام من اندلاع الأزمة السورية. وقبل ذلك أيضاً بكثير، في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين.
والجديد في الآمر اليوم هو أن البحر -وليس البر أو الجو- قد بات طريق النازحين نحو أوروبا. أو دعونا نقل إن اليونان -وليست بلغاريا- قد باتت المحطة الأولى التي يقصدها هؤلاء النازحون عبر تركيا.
كذلك، أدى انتشار اللاجئين السوريين في دول متوسطية عديدة لبروز إيطاليا مقصداً أولياً لهم، يسعون للانطلاق منه لاحقا باتجاه دول الشمال الأوروبي.
ولعل الكثير منا الآن قد تناهى إلى سمعه تفسير بهذا الاتجاه أو ذاك لظاهرة اللجوء السورية المتسارعة نحو أوروبا. وهي ظاهرة نددت بها الحكومة السورية ومعارضوها، سواء بسواء، كل من منطلقه الخاص ووفق رؤيته.
وبالطبع، فإن القراءة الوطنية لهذه الظاهرة لا تمثل بالضرورة رديفا لقراءتها السياسية العامة، كما أن منظورها المحلي ليس هو منظورها الدولي. والأهم من ذلك هو أن انعكاساتها البعيدة المدى على الداخل السوري تبدو مناقضة -على مستوى الحسابات المعيارية- لنتائجها الخاصة بأوروبا. وعند هذه النقطة، يُمكن القول إن سوريا تخسر، حتى وإن بدا ثمة ربح في مكان آخر.
هذا هو الاستنتاج العام والمجمل الذي يُمكن لأي محلل الخروج به، بمنأى عن أية حسابات خاصة، أو أي اصطفاف سياسي أو أيديولوجي.
وأياً يكن الأمر، يُمكن القول إن أوروبا المتوسطية -كما الوسطى والشمالية- باتت اليوم أكثر التصاقا بالأزمة السورية من أي وقت مضى. بل إن كيفية مقاربة هذه الأزمة أضحت عاملاً هاماً في تحديد شعبية القيادات والأحزاب السياسية الأوروبية. وهذا الأمر كان قائماً -بدرجة أو بأخرى- منذ فترة من الوقت، لكنه أضحى اليوم أكثر تجلياً.
وقد لا يكون مفيداً كثيراً التوقف عند الخلفيات الفعلية أو الافتراضية لمواقف دول أوروبا من أزمة اللاجئين السوريين، فالمهم هو العودة للجذور الأولى المسببة لهذه الأزمة، وهي غياب الحل السياسي، واضطراب السياسات الدولية وارتجالها تجاه المسألة السورية.
وليس من المستغرب بحال من الأحوال، أن تصبح أزمة اللاجئين السوريين أزمة أوروبية ودولية، إلا أن المستغرب هو هذا الضجيج الذي يحوم حول النتائج ويبتعد عن الأسباب. ولا يصغي لمنطق العقل، القائل بضرورة الذهاب نحو التسوية السلمية التي يختارها السوريون أنفسهم، وعدم المراهنة على الخيارات الأمنية، التي ثبت بؤسها وعقمها وشرها المستطير، والتي لا يعني التمسك بها سوى تدمير الوطن وإبادة أبنائه.
إن أوروبا، بكونها جارة كبيرة لسوريا، معنية اليوم، أكثر من أي وقت مضى، بالاستثمار في صناعة السلام السوري وإدامته، من خلال التشجيع على الحل السياسي الواقعي، الذي يحفظ أمن السوريين، ويصون وحدتهم الترابية، ويعيد لسوريا سلامها وازدهارها المدني المديد، الذي هو مكسب كبير لأوروبا، وللعالم أجمع.
الجزيرة نت