التاريخ ومزبلة التاريخ
الياس خوري
لا يوازي هول مشهد المجزرة في اوسلو وجزيرة يوتويا في وحشيته سوى النص الهستيري الذي تركه اندريس بريفيك . كلام مأخوذ من مزبلة التاريخ، وصليبية جديدة، وفكر نازي مناصر لاسرائيل ومعاد للفلسطينيين والعرب والمسلمين.
هذا الهول الوحشي، الذي قام باعدام الفتيات والفتيان وملاحقتهم بالرصاص في مياه النهر، آتٍِ من مكان عميق يخلط بين التاريخ والمزبلة، محولا الماضي الى حاضر متوهم، والحاضر الى تكرار مبتذل للماضي.
الرجل في هلوساته استعاد الحروب الافرنجية و’فرسان الهيكل’، قبل ان يفاخر بنازيته، بعدما اعلن تماهيه مع اليمين الاسرائيلي العنصري، مستبدلا العنصرية النازية ضد اليهود بكراهية العرب والمسلمين.
اعلن بريفيك نفسه قائدا ل ‘فرسان الحق’، واشار في نص طويل كتبه الى انه سوف ينعت ‘بأكبر وحش نازي منذ الحرب العالمية الثانية’.
كانت الصورة هي احد اكبر عناصر العملية الوحشية في تأثيراً. وانا هنا لا اشير فقط الى صور الضحايا او الى صور الأسى والدموع، بل اشير اساسا الى صورة على الـ’يو تيوب’ للقاتل بلباس عسكري، كأنه ضابط نازي انسلّ من كتب التاريخ الى الحاضر.
صور ضباط القتل والقمع في كل مكان تثير الاشمئزاز، فكيف اذا كنا امام صورة تستعيد الزمن النازي، تحت شعارات الحرب على التعددية الثقافية والخواف من الغزو الديموغرافي الاسلامي لاوروبا. واللافت ان هذه النازية الجديدة تدافع عن اسرائيل واحتلالها وممارساتها العنصرية. وهو امر يشير الى مهزلة فكرية صنعها اليمين الاسرائيلي بالاشتراك مع التيارات الأصولية والفاشية في اوروبا والولايات المتحدة.
معطيات ما جرى في اوسلو وجزيرة يوتويا لا تزال غير مكتملة العناصر، جلّ ما في الأمر ان الجريمة لم ترتكب بأيدٍ عربية او اسلامية، مثلما توقعت بعض وسائل الاعلام، وان النروج تواجه حالة ارهاب يميني اصولي، لا تزال تشكيلاته المنظمة، في حال وجودها، غامضة الملامح.
غير اننا نستطيع تقديم افتراض اننا اما الوجه الآخر من ايديولوجيا الحرب على الاسلام التي روّج لها مستشرق يميني كان مقربا من ادارة جورج بوش هو برنارد لويس، مع بعض تلامذته العرب غير النجباء، وان هذه الايديولوجيا التي لعبت في نهاية القرن الماضي على استنفار الجهاديين الاسلاميين في الحرب الباردة، ثم انقلبوا عليها عبر تأسيس ارهاب معولم عبر تنظيم القاعدة، تنقلب مرة اخرى على صانعيها. لا شك ان سفاح اوسلو وقاتل الفتيات والفتيان في يوتويا، هو ابن هذه الأفكار العنصرية، وانه قام بتحويل ايديولوجية العداء للعرب والمسلمين الى فعل اجرامي عصابي.
هدف حرب الحضارات انقلب، وتحول في المشهد النروجي المأسوي الى مجزرة كبرى بلا هدف او معنى.
لا استطيع ان اصدق ان قتل الأطفال في مخيم شبابي صيفي لحزب العمال يحمل اي هدف يتجاوزه، انه انتقام من الذات، ومحاولة لاثارة غبار اعلامي مكتوب بحبر دماء الضحايا.
الهذر الذي قرأنا نماذج منه في نص القاتل، لا يستعيد من التاريخ سوى قمامته. فهو يتحدث عن ‘فرسان الهيكل’ الصليبيين، ثم يستعيد النازية، ويدافع عن دولة الاحتلال في فلسطين.
لكن استعادة القمامة تكشف حقيقة اللعب الايديولوجي الذي لا يرى كيف تحولت الفاشية الى معاداة العرب والمسلمين في اورويا، او لا يتنبّه الى جدلية العلاقة بين النازية والصهيونية. هنا تتهاوى جميع عناصر اللعبة التي يتفنن فيها بعض مهرجي الثقافة في زمننا، كبرنار هنري ليفي الذي يحاول اقناع العالم بكذبة ان تأييد الاحتلال الاسرائيل لا تتناقض مع دعم الثورات العربية! كأن اسرائيل التي ايدت وتؤيد الديكتاتوريات تنتظر من السيد ليفي ان يعلمها مصالحها!
قال اندريس بريفك في شكل واضح لا التباس فيه انه نازي ويحب اليهود، كما قال انه صليبي ويكره العرب والمسلمين.
لا ادري كيف سيعالج الاسرائيليون المضمون الايديولوجي لجريمة اوسلو. فالقاتل يستعيد المرحلة النازية ويفتخر بها، وهي اكثر فترات التاريخ المعاصر وحشية وعارا، كما يستعيد الحروب الافرنجية، وهي فترة تاريخية مليئة بالخزي. والمرحلتان شكلتا كارثتين كبريين على اليهود. ولمن لا يعرف تاريخ الحروب الصليبية يكفيه ان يعلم انه لم يسمح لليهود بدخول القدس الا بعد تحريرها من الافرنج على يدي صلاح الدين.
قد يقال اننا امام نص كتبه رجل معتوه، وان التحليل لا يزال سابقا لأوانه، وهذا قد يكون صحيحا، لكنه يجب ان لا يحجب حقيقة ان هذا العته يستند الى اسس ايديولوجية تجري تغذيتها منذ عقد من الزمن على الأقل، وان انفلات خطاب حرب الحضارات من عقاله، وتحوّله الى خطاب ‘شرعي’ اكاديميا وثقافيا وسياسيا، ثم تبسيطه الفج في وسائل الاعلام الشعبية، ترك اثرا مدمرا على المبنى النفسي والسياسي، وقاد الى موجة صعود فاشية في اوروبا.
مواجهة هذه الفاشية هي مهمة الجميع. قيم التعدد الثقافي والمساواة والعدالة، هي ادوات القوى الديموقراطية في العالم بأسره من اجل بناء قيم جديدة على انقاض ركام القيم الأخلاقية التي قام المحافظون الجدد بتحطيمها.
همجية عملية اوسلو تذكر العالم بالحادي عشر من ايلول/ سبتمبر مقلوبا، وهي تعلن ان الفاشية على الابواب، وان علينا مقاومة جميع اشكالها.
اليوم نحن في حاجة الى صوت ستيفان هيسيل الشجاع، الذي اصدر بيان الغضب الانساني في كتيب صغير، واعاد رسم ملامح النضال بصوت شجاع وشاب، وقال للأجيال الجديدة ان عليها ان تغضب وتقاوم.
في هذا النص الصغير يكمن الفرق بين الشجاعة النبيلة التي تستعيد ابهى لحظات التاريخ ومقاومات الشعوب، وبين شجاعة الجبناء، التي لا ترى من التاريخ سوى قمامته، وتعتقد انها تستطيع بالدم البريء المراق ان تأخذ العالم الى مزبلة التاريخ.
القدس العربي