التحولات الجيوسياسية في الشرق الأدنى والأوسط: ربيع الجهادية واندثار المعالم الإقليمية الشرق أوسطية/ فولكر بيرتيس
يتمثَّل الاتِّجاه العام الأكبر في الشرق الأدنى والأوسط في يومنا هذا في انهيار النظام الإقليمي – من دون وجود أحد يمكنه إعادة بناء هذا النظام: فالقوى الدولية الكبرى في هذه الأيَّام لا تُجهِّز اتِّفاقية “سايكس بيكو” جديدة – أي نظام دول وحدود يتم تحديده من الخارج، مثلما تفاوض على ذلك كلٌّ من الدبلوماسي البريطاني مارك سايكس والفرنسي فرانسوا جورج بيكو في عام 1916 فيما بينهما. وكذلك يبدو أنَّ الأطراف الإقليمية الفاعلة غير مستعدة وغير قادرة على عقد مؤتمر يشبه مؤتمر فيينا – خاص بالشرق الأوسط، بهدف التفاهم على تصوُّرصور
مع غياب اهتمام القوى الدولية العظمى واستمرار المنافسات القديمة بات الاتجاه العام الأكبر في وقتنا الراهن في منطقة الشرق الأدنى والأوسط يتمثل في انهيار النظام الإقليمي، مثلما يرى الخبير الألماني في شؤون الشرق الأوسط ومدير معهد الدراسات الأمنية والاستراتيجية في برلين، فولكر بيرتيس في تحليله التالي لموقع قنطرة.
لا أحد يستطيع اليوم أن يتنبَّأ كيف سيبدو شكل الشرق الأدنى والأوسط بعد خمسة أو عشرة أعوام. ففي أحسن الأحوال نحن نستطيع تحديد الاتِّجاهات التي تؤثِّر اليوم وبالتالي نستطيع تحديد الإطار للمستقبل القريب – حتى وإن كانت هذه الاتِّجاهات سوف تتغيَّر عاجلاً أم آجلاً أو حتى إذا كانت سوف تنكسر.
يتمثَّل الاتِّجاه العام الأكبر في الشرق الأدنى والأوسط في يومنا هذا في انهيار النظام الإقليمي – من دون وجود أحد يمكنه إعادة بناء هذا النظام: فالقوى الدولية الكبرى في هذه الأيَّام لا تُجهِّز اتِّفاقية “سايكس بيكو” جديدة – أي نظام دول وحدود يتم تحديده من الخارج، مثلما تفاوض على ذلك كلٌّ من الدبلوماسي البريطاني مارك سايكس والفرنسي فرانسوا جورج بيكو في عام 1916 فيما بينهما. وكذلك يبدو أنَّ الأطراف الإقليمية الفاعلة غير مستعدة وغير قادرة على عقد مؤتمر يشبه مؤتمر فيينا – خاص بالشرق الأوسط، بهدف التفاهم على تصوُّراتها الخاصة لشكل النظام.
لم تعد ومن عدة جوانب المنطقة الممتدة بين البحر الأبيض المتوسط والخليج (العربي-) الفارسي ذلك الشرق الأوسط، مثلما نعرفه – أو كنا نعتقد أنَّنا نعرفه. وهذا ينطبق على العلاقات بين المواطنين والنخب الحاكمة، وعلى الطبيعة الداخلية للدول، ولكن أخيرًا وليس آخرًا ينطبق على موازين القوى بين القوى داخل المنطقة. وفي ذلك يبدو أنَّ هناك خمسة اتِّجاهات جيوسياسية عامة لها صلة خاصة:
الإعراض بدل التدخُّل
أولاً: يحاول اللاعبون الدوليون عدم التدخُّل. فالولايات المتَّحدة الأمريكية والاتِّحاد الأوروبي ودوله الأعضاء وكذلك روسيا والصين والدول الأخرى ستستمر في سعيها إلى الحفاظ على مصالحها الرئيسية في المنطقة، وستدعم شركاءها أو ستعمل على تقويتهم، وستحاول – حيثما كان ذلك ممكنًا – حلَّ النزاعات بين ومع الشركاء الإقليميين.
غير أنَّ هذه الدول – وهذا ما يُظهره بالذات “التحالف” الذي تقوده الولايات المتَّحدة الأمريكية ضدَّ ما يعرف باسم تنظيم “الدولة الإسلامية” في اقتصار هذا التحالف على الضربات الجوية والمساعدة في التسليح والتدريب – لا يوجد لديها أي اهتمام أو أية نية من أجل تمهيد الطريق لتغييرات هيكلية في دول المنطقة أو حتى من أجل تحديد شكل النتائج السياسية. ومن هذه الناحية لقد تعلمت الولايات المتَّحدة الأمريكية من العراق وكذلك تعلم الأوروبيون في الاتِّحاد الأوروبي والروس من تجربتهم في أفغانستان.
بعد ثلاثة عشر عامًا من بدئها انتهت مهمة حلف الناتو القتالية إيساف مع نهاية العام الماضي 2014. وقد تم استبدالها بمهمة استشارية وتدريبية تحمل اسم “الدعم الحازم”، تقرَّر من أجلها بقاء اثني عشر ألف جندي أجنبي في أفغانستانانسحاب على مراحل – بعد ثلاثة عشر عامًا من بدئها انتهت مهمة حلف الناتو القتالية إيساف مع نهاية العام الماضي 2014. وقد تم استبدالها بمهمة استشارية وتدريبية تحمل اسم “الدعم الحازم”، تقرَّر من أجلها بقاء اثني عشر ألف جندي أجنبي في أفغانستان، من بينهم نحو تسعة آلاف جندي أمريكي وما يقارب ثمانمائة وخمسين جنديًا ألمانيًا.
ثانيًا: تتغيَّر موازين القوى ولا توجد تحالفات قابلة للبقاء. وهكذا لم تعد للمرَّة الأولى سوريا والعراق في الوقت نفسه لاعبين فعَّالين، بل إنَّ هذين البلدين باتا يشكِّلان اليوم المنطقة التي تحسم فيها أيضًا الأطراف الأخرى صراعاتها السياسية والإيديولوجية والدينية. في حين أنَّ مصر مشغولة بنفسها. والمملكة العربية السعودية وإيران ليستا الخصمين الوحيدين، بيد أنَّهما أصبحتا الخصمين المهيمنين في المنطقة، ولكنهما أثبتتا حتى الآن أنَّهما غير قادرتين أو غير راغبتين في أن تصبحا بطلتين في مجموعة قوى إقليمية.
ولكن من دون وجود تفاهم بين الرياض وطهران لا يمكن التنبُّؤ بحدوث انفراج إقليمي وكذلك بنهاية الحرب في سوريا. إنَّ معظم الدولة في المنطقة تنظر إلى ما يعرف باسم تنظيم الدولة الإسلامية على أنَّه تهديد جاد. ولكن من الواضح أنَّ حتى مثل هذا التحدي والتهديد الكبير لا يساهم في التغلب على المنافسات بين هذه الدول. ففي الشرق الأوسط كثيرًا ما يكون عدو عدوي هو عدوي باستمرار.
من حلِّ الدولتين إلى واقع الدولة الواحدة
ثالثًا: الصراع الإسرائيلي الفلسطيني يفقد من أهميته بالنسبة للمنطقة، ولكن ليس بالنسبة للإسرائيليين والفلسطينيين. إذ إنَّ فلسطين لم تعد تُمثِّل القضية التي يمكن من خلالها تعبئة الناس في باقي المنطقة. كما أنَّ مواطني كلِّ دولة يخرجون إلى الشارع أكثر احتجاجًا على حكوماتهم الخاصة. ومع ذلك يبقى الصراع الإسرائيلي الفلسطيني ذا أهمية، ويبدو أنَّ اندلاع أعمال عنف جديدة أمر محتمل أكثر من تحقيق تقدّم دبلوماسي. ومن الممكن لقوة إسرائيل في أثناء ذلك أن تعمل على تعزيز شكل خادع من أشكال الثقة بالنفس وأن تساهم في جعل جهود الوساطة الأمريكية التالية تذهب أدراج الرياح وفي جعل إسرائيل تفوِّت الفرصة التي قد تكون الأخيرة للتوصل إلى حلِّ الدولتين وتسير دون أن تدري إلى واقع الدولة الواحدة.
رابعًا: لم يعد من الممكن إيقاف الحروب الأهلية. فقد كانت الحروب الأهلية في العالم العربي محصورة إلى حدّ كبير في العقود الماضية داخل حدود كلِّ دولة معنية – في لبنان والجزائر والسودان واليمن والعراق. ولكن هذه لم تعد الحال اليوم. فالحرب في سوريا والحرب في العراق انتقلتا خارج حدودهما. وكذلك يصدر الخطر نفسه من الحربين الأهليتين في ليبيا واليمن. وفي الوقت نفسه تفقد الحدود بالذات من أهميتها، وتنطمس على نحو متزايد المعالم الإقليمية لدول عالم الشرق الأوسط.
مشروع بناء دولة جهادية
خامسًا: تتكوَّن وحدات سياسية إقليمية جديدة شبه مستقلة. وهذا لا ينطبق فقط على المنطقة الكردية العراقية، التي بات يعاملها المجتمع الدولي بالفعل ومن عدة جوانب كدولة، أو على الكانتونات الكردية في سوريا، بل ينطبق أيضًا على ما يعرف باسم “الدولة الإسلامية”.
توسيع منطقة القتال – يرى فولكر بيرتيس أنَّ “الدولة الإسلامية ليست مجرَّد تنظيم إرهابي آخر، بل يجب أن يتم فهمها – خاصة إذا كنا نريد محاربتها بشكل فعَّال – على أنَّها مشروع بناء دولة جهادية: وهي محاولة لإقامة دولة شمولية توسُّعية لا تسعى إلى الحصول على اعتراف المجتمع الدولي، ولن تقدِّم أيضًا أي طلب للحصول على عضوية الأمم المتَّحدة، بل ترفض النظام الإقليمي والنظام الدولي كنظام”.
إنَّ “الدولة الإسلامية” ليست مجرَّد تنظيم إرهابي آخر، بل يجب أن يتم فهمها – خاصة إذا كنا نريد محاربتها بشكل فعَّال – على أنَّها مشروع بناء دولة جهادية: وهي محاولة لإقامة دولة شمولية توسُّعية لا تسعى – على العكس من حكومة إقليم كردستان في أربيل أو الكانتونات الكردية السورية أو السلطة الفلسطينية – إلى الحصول على اعتراف المجتمع الدولي، ولن تقدِّم أيضًا أي طلب للحصول على عضوية الأمم المتَّحدة، بل ترفض النظام الإقليمي والنظام الدولي كنظام.
صحيح أنَّ “التحالف” الذي تقوده الولايات المتَّحدة الأمريكية ضدّ تنظيم الدولة الإسلامية أوقف توسُّع هذا التنظيم مؤقتًا. بيد أنَّ تنظيم الدولة الإسلامية سوف يبقى يمثِّل تحدِّيًا عسكريًا وسياسيًا وإيديولوجيًا، طالما لن يتم تشكيل حكومات جديرة بالثقة وشاملة لجميع الأطياف في كلّ من بغداد ودمشق، وطالما لن يتم تقديم أي بديل سياسي فقهي مقنع من قبل المملكة العربية السعودية.
إذ إنَّ تفسير السعودية الوهابي للإسلام لا يزال يشكِّل مصدر الإلهام الإيديولوجي بالنسبة لتنظيم الدولة الإسلامية ولغيره من الجهاديين. وكذلك سوف يستمر الدعم والتشجيع لتنظيم الدولة الإسلامية طالما بقي صراع الهيمنة بين المملكة العربية السعودية وإيران يشجِّع على الاستقطاب الطائفي في جميع أنحاء المنطقة.
بعد وفاة الملك عبد الله صار الحاكم في الرياض منذ شهر كانون الثاني/ يناير 2015 شقيقه سلمان. ومن حيث المبدأ فإنَّ مثل هذا التغيير في القيادة يُقدِّم فرصة لوضع معايير جديدة في العلاقات مع الجيران. ولكن مع ذلك على الأرجح أنَّ هذه القيادة الجديدة سوف يتم اختبارها في البداية من قبل منافسيها الخارجيين و – أخيرًا وليس آخرًا – من قبل منافسيها الداخليين. وهذا في العادة لا يمثِّل أساسًا جيدًا من أجل مبادرات إيديولوجية جريئة أو سياسية خارجية.
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: فولكر بيرتيس وموقع قنطرة 2015 ar.qantara.de
موقع قنطرة ينشر هذا المقال بالاتفاق مع الكاتب فولكر بيرتيس. لا يسمح بنشر المقال في مكان آخر من دون موافقة الكاتب.