صفحات الثقافة

جدلية اللون الأسود/ حبيب سروري

 

 

اللون ظاهرة فيزيائية بالتأكيد، وإداركية أيضاً: تتولى مناطق الدماغ البصرية تحليله، ونافذتها: العين. لكنه أيضاً “تركيب ثقافي معقد”، كما يقول ميشيل باستورو (Michel Pastoureau) في نصه عن تاريخ الألوان.

هو في البدء “واقع اجتماعي”، يخضع للسياق الزمكاني والبيئات الثقافية. إذ كما يمثل اللون الأسود رمز الحداد والموت في بعض الثقافات كالأوروبية والعربية، يمثل اللون الأبيض رمزهما في الثقافة الصينية مثلاً. وثمة شر واحد بلونين متعارضين: “الساحرات السود في مسرحية ماكبث، وملكة الثلج الأبيض لأندرسن”، كما يذكّر آلان باديو في كتابه الأخير (2015) عن اللون الأسود: “جدلية اللون الأسود”.

وكان ميشيل باستورو قد درس في كتابه “الأسود: تاريخ لون” (2008)، تجليات اللون الأسود، ذي الأهمية الاستثنائية في التاريخ الغربي، وذي الحضور العريق المتميز منذ استخدامه منذ ما قبل التاريخ لرسم شخوص الفنون الكهفية الميتافيزيقية.

الأسود لون المزج المتوازن بين الأقطاب المتناقضة: مثلاً هو لون البؤس ولون الأناقة أيضاً، إذ ليس ثمّة أكثر أناقة، في نظر أغلب الناس اليوم، من فستان أسود أنيق للمرأة، ومعطف وبنطلون أسودين للرجل. والأسود هو أيضًا لون الموت، ولون الرغبة الجنسية ومسرح اللذة أيضاً. لذلك استخدم باديو مصطلح Dialectique في عنوان كتابه، ودرس في ما درس، علاقته الفلسفية التعارضية مع اللون الأبيض.

لكن قبل ذلك بكثير اشتغل العرب على هذا التعارض، وتعمّقوا في فنون هذا “الديالكتيك”، انطلاقاً من ثقافتنا ومنظوماتها الجمالية. امتلأت المناظرات في الأدب العربي القديم بجدلٍ تناقضي بين رؤيتين مختلفتين تدافع كل منهما عن أطروحتها وتحاول دحض الأخرى. ثمة مناظرات جميلة بين السيف والقلم، الليل والنهار، فصول السنة، البر والبحر، الأرض والسماء.

لعلّ هذه الخلفية الفكرية التعددية البديعة هي ما قادت إلى مناظرة شهيرة بين كاتبين عربيين، في مجلة مصرية قبل حوالي نصف قرن، عنوان طرفها الأول: “لماذا أنا مؤمن؟”، والثاني “لماذا أنا ملحد؟”. كم تنقصنا اليوم للأسف المناظرات الجدلية حول كل مسلّمات حياتنا، لا سيما الأكثر جوهرية.

وقد درس الفيلسوف آلان باديو في كتابه مجمل تجليات تعارضات الأبيض والأسود في الثقافة الأوروبية (التي تختلف كثيراً عن تكامليات اليين واليونغ الصينية)، وبشكل خاص ديالكتيك اللون الأسود الذي يبدو غالباً رمزاً “لنقص ما، ولثراء كثيف في الوقت نفسه”.

إحدى هذه التجليات إشكالية “الصفحة البيضاء” الشهيرة: عدوة الكاتب، وعقدة وهوس مخاوفه ألا يجد ما يكتبه. أليست الكتابة “علامات سوداء تهزم الجفاف الأبيض؟” الأسود فيها رمز الانتصار الإبداعي ومفتاحه.

كل شيء جميل ولذيذ في الحياة ينبع من فن المزج الكيماوي المضبوط لجرعات “سوداء” على صفحات “بيضاء”، والمَوْسقة بينهما. “من لم يجرب ذلك في حياته، وبشكل مبكر، لم يستوعب شيئاً من الحياة” يقول باديو.

تعبر فصول كتابه كل التجليات الحديثة لتاريخ ثنائية الأبيض والأسود. لعلّ آخرها ثورة استبدال السبورة السوداء والطباشير البيضاء اليوم، بالسبورة البيضاء وأقلام التخطيط السوداء (Marqueur).

يتغلغل الكتاب في إشكالية الجنس، أو “القارة السوداء” حسب التسمية الشهيرة؛ فيدرس رموز اللون الأسود في الملابس الداخلية الأنثوية، وتغيّرات الرؤى الاجتماعية الغربية خلال العقود الأخيرة حول الشعيرات السوداء على الجسد.

“عندما يحوط الأسود غلالة من البياض، وعندما يغيب عن مكانه الرسمي، تتفجّر الرغبة على صعيد الواقع”، يقول. هكذا: “الأسود يأسر الإنسان بامتياز، كلون لا لون له”.

معروف علمياً أن الأسود والأبيض ليسا لونين في الحقيقة. الأسود غياب للضوء، والأبيض خليط عشوائي من ألوان قوس قزح التي تمتد من الأحمر إلى البنفسجي، أما ما قبلهما وبعدهما، فألوان لا تراها العين الإنسانية.

يدرس الكتاب إشكالية تسمية “الثقوب السوداء” و”المادة السوداء” في فيزياء الفضاء والكون. ويتعمّق في دراسة مصطلح “سواد النفس البشرية” في الثقافة الغربية ذات المنابع الدينية، حيث “النفس سوداء بالفطرة إلى هذه الدرجة أو تلك”، لأن “الشيطان يقود المرقص”. ويصير الأسود هنا لون التلطّخ الشيطاني، والأبيض لون البراءة وعدم المعرفة، لون “ما قبل التلطخ بالجنس”.

لا ينسى باديو التعرض لمدلول أو رمزية ألوان الأعلام كما تستخدمها الحركات الثورية والفاشية والعدمية؛ وألوان الملابس الدينية للخوري، والكاردينال، والبابا (المتدرجة من الأسود إلى الأبيض، مروراً بالأحمر)؛ والعلاقة الحميمة المعقدة بين اللونين “الأحمر والأسود”، استئناسًا بعنوان رواية ستاندال الشهيرة.

تبدو هنا استعارة الشاعر إيطالي الشهير دانتي : “الريح الأسود” رمزاً للتعب الإنساني من هذه الحياة بعد “سقوط الأحمر ـ الأسود، تحت وطأة انتصار الأسود ـ الأسود”.

طبيعي أن يدرس باديو بدقة، في فصلٍ خاص، مصطلح “الرجل الأسود” الذي اخترعه البيض. يستهل ذلك بعبارة جان جينيه في مسرحيته “الزنوج”: “ماذا يعني إذن: رجل أسود؟ وقبل ذلك: ما لون الرجل الأسود”؟

يسرد تاريخ اختراع “الأوروبيين البيض” للمصطلح العنصري “العرق الأسود المتخلف بيولوجيًا”، والواقع “بين الإنسان والقرد”، حسب رؤية عنصرية قديمة مارست العبودية وبررتها. ويذكّر بنضالات الشعوب الأفريقية ضد هذه العنصرية، لا سيما قادتها مثل لومامبا، أم نيوبي، أميلكار كابرال، الذين اغتالتهم أو أسقطتهم جميعاً الاستخبارات الاستعمارية الغربية.

لا ينسى باديو، على هامش ذلك التذكير، الانزلاق المعاكس: Black is beautiful الذي يقول إن الأسود أقوى، أجمل، أذكى، وأكثر انسجاماً مع الطبيعة من الأبيض.

يختتم هذا الفصل بهذه العبارة العميقة: “في المنظومة الكليّة التي نأملها، لا مكان لأبيض أو لأسود. الإنسانية فيها بلا لون”.

لعل أفضل خاتمة تجلو “جدلية اللون الأسود” هو كونه لون الحداد، وفي الوقت نفسه لون السخرية من الحداد، أي “الفكاهة السوداء”. الأسود هنا” في شاطئين متناقضين من المتراس الوجودي”.

ختاماً، فكاهة سوداء ثخينة :

“في حفل جنائزي مسيحي، تقف زوجة الفقيد وأولاده موشحين بالسواد، يصغون إلى الخوري وهو يقول: “يا إخوتي، ها نحن نبكي اليوم فقيداً رائعاً. كان مسيحيّاً مؤمناً بحق. يحب أولاده. زوج مخلص، نموذجي يعطف على جيرانه…”

الأرملة ذات القبعة والحذائين والفستان الأسود ترتبك بصمت. تقول لابنها: “بيير، إذهب بهدوء إلى النعش، وتأكّد إذا كان من فيه والدك!”.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى