التسوية الشبحية بين الترهيب والتهريب
بشير هلال *
هناك تسوية سياسية شبحية تحوم فوق سورية. فلا يُعرَف حتى بالعناوين العريضة إن كانت تتضمن تنحية الاسد بدءاً او منتصفاً او نهايةً ولا مصير الأجهزة الأمنية أتُعاد هيكلتها ام يُبعد رؤوسها وحسب أم تبقى كما هي في المحتوى وإنما خاضعة لإطار قانوني شكلي جديد، ولا ترسيمة الحكومة الانتقالية للتسوية العتيدة أيكون رئيسها معارضاً من طائفة معينة لطمأنتها الافتراضية أم لا تكون هذه معياراً في اختياره؟ وهل يكون نصف أعضائها او ثلثاها من المعارضة؟ وأية معارضة أتلك المتجمعة في «الائتلاف الوطني» وسلفه «المجلس الوطني» أو يُضاف اليها في حصتها تلك المسماة مثلاً بـ «معارضة الداخل» بما فيها استطراداً جماعة «الجبهة الشعبية للتغيير والتحرير» المنسوبة إلى المعارضة والمقربة من موسكو ومن النظام إلى درجة مشاركة الأخير حكومته الحالية بالسيدين قدري جميل نائب رئيسها وعلي حيدر وزير «المصالحة الوطنية»؟ وهل تكون غالبيتها بالمحصلة النهائية من مريدي النهاية الراديكالية للنظام أم من مؤيدي اعادة نظر جزئية تهجينية؟
كذروة لعبثية التلغيز وشبحيته يقال ويُرَدَّد إعلامياً وديبلوماسياً إن الاطار المفتاحي في التسوية لا يزال «اتفاق جنيف» الأميركي الروسي (30 حزيران / يونيو الأخير) أو نسخة جديدة منه باسم «جنيف 2» يمكن إقرارها في مجلس الأمن تحت الفصل السادس وتكون تجاوزاً لاختلاف تفسيره – وبخاصة حول النقطة المركزية المتمثلة بتنحية رئيس النظام- والذي لم يمنع رغم ذلك المبعوث الابراهيمي المتمتع بتغطية عربية – أممية من اعتماده كمرجعٍ مُعلَن ووحيد لـ «وساطته».
والحال أن بعض كبار دعاة «التسوية» التي أعلن الابراهيمي امتلاك مُقتَرَحٍ بشأنها معروفون بالرغبة بحفظ جوهر النظام ومؤسساته المُوَصّفَة بـ «الدولة». يشمل ذلك «معسكر» طهران الخمينية المتمسكة بـ «واسطة العقد»السورية وموسكو البوتينية المتشبثة بالموقع السوري واستخداماته لاستعادة مواقع سالفة في النظام العالمي وبكين الرأسمالية «الشيوعية» التي تشاركهما كراهية حقوق الانسان وتقديس «عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول» واسرائيل التي تشاطرهما ذلك لتحصين اضطهادها المنظم للفلسطينيين ورهاب نهاية نظام تقاسمه جبهة هادئة في لعبة اللاحرب واللاسلم. وهذه القوى هي التي تحتاج بالدرجة الاولى إلى شبحية «التسوية» بمعنى تلغيزها وحجب حقيقة محتواها لتعارضها مع المطالب الأساسية للسوريين الثائرين لإسقاط النظام ومحاولة تهريبها بالضغوط العسكرية والمعيشية الإبادية وبتأجيج ردود الفعل الطائفية واستدراج «الدفاع عن الأقليات».
وثمة قوى في الوسط من هكذا شبحية مثل بعض الأنظمة العربية الانتقالية التي عانت الهيمنة الطويلة للعسكريين كمصر التي تجمع سياستها الخارجية الحالية بين جاذبياتٍ تاريخية تجعلهم يضغطون لبقاء النظام ناقصاً رئيسه وبين حسابات جماعة «الاخوان المسلمين» الطامحة الى دورٍ عربي – إسلامي انطلاقاً من نظرةٍ لم تغادرها الا من طرف لسانها عن الخلافة والأمة.
الوسطية من شبحية «التسوية» تطاول جزئياً واشنطن رأس الغرب المفكِّر والعملاني نظراً لاستراتيجياتها الأوبامية المتجنبة لتورط مباشر في الشرق الاسلامي خصوصاً والتي لا تنطلق فقط من زاوية الفشل الظاهري لأكبر عمليتي تدخلٍ بوشي في افغانستان والعراق ولكن أيضاً من زاوية ترشيد استخدام التفوق الأميركي العسكري في الشروط الجديدة لنسبة وعلاقات القوى العالمية التي تجعل من الصين منافساً استراتيجياً من نوعٍ غير تقليدي كما تعمم مخاطر الحروب غير المتناظرة. وضمن هذا السياق تتردد واشنطن وتدفع اوروبا إلى ترددٍ مشابه في تقديم دعم واسع للمعارضة وخاصة بالسلاح طالما أن «الأزمة السورية» لم تتوسع إلى الجوار أو تطال «مُحرَّم» الأسلحة الكيماوية.
لكن شبحية «التسوية» تستفيد أيضاً من أربع وقائع سورية:
الاولى عدم إقرار قوى النظام ورأسه باستحالة الانتصار على ثورة كسرت حاجز الخوف واضطرت للتعسكُر وأبدت استعداداً غير مسبوق في تقديم التضحيات والإصرار السياسي على اقتلاعه.
الثانية من القوى التي تطلق على نفسها بتسامحٍ إعلامي خارجي اسم «معارضة الداخل» والتي أسهمت موضوعياً بصرف النظرعن النوايا التغييرية لـ «هيئة التنسيق» بتصعيب توحيد المعارضة وتسفيه اضطرار مكونها الشعبي إلى التسلح بوجه خيار الحرب الشاملة عليه ومطلبـها بـإنـهاء النـظام بـدءاً مـن رأسـه كما أسهمت بتقديم الغطاء للتدخل الروسي – الايـرانـي المباشر وللتردد الدولي. إذ تحت شعارات: لا للتدخل والتطييف والعسكرة بدَت هاجيـة لتـطور الحراك الشعبي هجاءً قـطعها عنه وصيَّر نسبـتـها اليه تمثيلاً واعـلاماً وديـبلوماسيـة مجرداً من الواقعية.
الثالثة توغل قوى المعارضة السياسية والعسكرية الجذرية في التجزوء «المؤسسي». إذ تحولت لا مركزية الثورة التي كانت سلاحاً طبيعياً و «عفوياً» فعالاً ضد البربرية السلطانية المركزية للنظام الى أداة لإنتاج مشهد سياسي – عسكري فوضوي ومفتوح لتدخل قوى تكون احياناً نابذة لوحدة العمل الثوري ولاهدافه الاصلية.
الرابعة سعي بعض القوى السلفية والاسلاموية بتعاونٍ مع خارجٍ عربي وإقليمي متشظٍ إلى أسلمة الثورة وصورتها. الأمر الذي يـقدم لها نفعاً احتمالياً خصوصياً لكنه يفيد أيضاً قوى النظام والمدافعين عنه في جهدهم لإنتاج تسوية لا تستحق اسمها.
وبكل هذه المعاني فإن شبحية «التسوية» غدت أداة سلبية خالصة. فهي مُكرَسة للتحريف والتضليل والترغيب والتخويف معاً وتمارس على أطراف الحراك الثوري ومؤيديه النسبيين في الخارج بمقادير متزايدة. ولا عجب في ذلك طالما انها قائمة على غياب اتفاق واضح حول تعريف عناصر الحل السياسي. فتتحول الديبلوماسية عن دورها في الوقت الذي يقوم فيه جنود وثوار حقيقيون على الارض برسم وقائع يعتبرونها بدورهم نهائية ولا تحتاج الى تصديق ديبلوماسي. ما يخلق اختلافات قليلة او كثيرة مع قوى الارض في حين أن هذه الشبحية تعني خلق طلب إضافي على عنف النظام أولاً وزيادة التدخل الايراني – الروسي ثانياً وضغطاً على الغرب لإبطاء دعم الثؤرة السورية ثالثاً.
الإشكال ان الابراهيمي بالتفافيته يقدم غطاء الشرعية الدولية لهذا السياق الشبحي كمثل اقتراحه انتخابات على اساس نظام برلماني التفافاً على»عقدة» تنحي الأسد لإتاحة تحاصصية «لبنانوية» أو «ديموقراطية توافقية» لا تتوافر شروطهما في الوضع السوري فيما يضاعف استخدام الترهيب بوضع السوريين أمام خيار الجحيم أو القبول بتسويته.
ألم يحِن وقت إعادة تحديد مهمته أو «استقالته»؟
* كاتب لبناني
الحياة