صفحات مميزة

التغييرات الأخيرة في الموقف التركي من الثورة السورية –مجموعة مقالات-

 

 

 

التفاهم التركي – الأميركي:خلفيات.. وتداعيات سورية

المركز العربي للابحاث

بعد مناقشات طويلة استغرقت نحو عام، تخللها توتر مكتوم ظهر إلى العلن في مناسبات مختلفة، توصلت الولايات المتحدة وتركيا إلى اتفاق يسمح للأولى باستخدام المجال الجوي التركي والقواعد العسكرية الموجودة في أضنة (انجرليك) وديار بكر، في شن الحرب ضد تنظيم الدولة، وفي مقابل ذلك وافقت واشنطن على إنشاء “منطقة آمنة” غير معلنة شمال سورية غرب نهر الفرات، تبدأ من مدينة جرابلس وتمتد على مسافة 100 كم تقريباً في اتجاه الغرب، وبعمق يصل في بعض المناطق إلى 50 كم داخل الأراضي السورية، كما وافقت على إطلاق يد تركيا في التحرك ضد التهديدات التي يمثّلها تنظيم الدولة وحزب العمال الكردستاني في سورية والعراق على أمنها ومصالحها.

على الإثر، أعلنت الحكومة التركية عن بدء عملياتها العسكرية ضد تنظيم الدولة، مستغلة تفجيراً انتحارياً نفذه أحد أفراد التنظيم (تركي كردي) في مدينة سروج الحدودية مع سورية يوم 21 تموز / يوليو 2015. كما قصفت طائراتها، أول مرة منذ ثلاث سنوات، مواقع حزب العمل الكردستاني في إقليم كردستان العراق، ولم يخل الأمر من استهداف القوات التركية لمواقع وحدات حماية الشعب الكردية عبر الحدود مع سورية.

دوافع تغيير الموقف التركي

منذ سقوط الموصل في العاشر من حزيران / يونيو 2014، وتشكّل التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة في أيلول/ سبتمبر من العام نفسه، ظلت تركيا ترفض مطالب الولايات المتحدة بفتح مجالها الجوي وقواعدها العسكريّة أمام طائرات التحالف، أو المشاركة في عملياته العسكرية ضد التنظيم. وقد عقّد هذا الأمر الجهود العسكرية الأميركية لمواجهة تنظيم الدولة الذي بدت حركته أسرع أحياناً من حركة الطائرات الأميركية التي كان عليها أن تنطلق من أماكن بعيدة كالبحرين مثلاً لضرب قوافل التنظيم أو تحشداته في سورية، بدل الانطلاق من القواعد الأطلسية الموجودة في تركيا على بعد نحو 300 كم فقط من الحدود.

عكس هذا الموقف مدى التباين في رؤية الطرفين الأميركي والتركي لأبعاد الصراع في سورية والعراق وجوهره، إذ أصرت تركيا على أنها لن تكون جزءاً من الجهد العسكري للتحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة إلّا في إطار مقاربة شاملة تؤدي إلى التعامل مع جذور الأزمة (نظام الرئيس بشار الأسد) التي أدت إلى نشوء الظواهر التي يحاول التحالف معالجتها (تنظيم الدولة). لذلك ربطت تركيا مشاركتها في الجهد العسكري للتحالف بتحقق ثلاثة شروط؛ ألّا تستثني عمليات التحالف النظام السوري، وإقامة منطقة “آمنة” تشمل حظراً للطيران شمال سورية، وتدريب المعارضة السورية المعتدلة وتسليحها لمواجهة النظام السوري وتنظيم الدولة معاً. لكن إدارة أوباما التي كانت أكثر اهتماماً بالتوصل إلى اتفاق مع إيران حول ملفها النووي، اختارت عدم إثارة خصمها الإيراني على إرضاء حليفها التركي، فرفضت الاستجابة لأي من شروط أنقرة الثلاثة. لا بل تجاهلت واشنطن اعتراضات تركيا وذهبت في اتجاه اعتماد قوات الحماية الكرديّة التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطيّ (PYD) -وهو الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، والمصنّف تركياً وأميركياً منظمة إرهابية – شريكاً ميدانياً في الحرب على تنظيم الدولة في سورية، وقدّمت له دعماً عسكرياً ومالياً، ولوجستياً كبيراً، مكّنه من طرد مقاتلي تنظيم الدولة من عين العرب (كوباني) في ريف حلب، وتل أبيض في ريف الرقة، والحسكة.

ساهمت السياسة الأميركية في تزايد نفوذ الـ (PYD) وساعدته في تأمين تواصل جغرافي بين مناطق نفوذه في القامشلي وعين العرب، لا بل ودفعت قادته إلى التفكير في السيطرة على ريف حلب الشرقي والشمالي للوصول إلى عفرين (أقصى الشمال الغربي)، وإقامة كانتون كردي (يسميه الحزب مشروع الإدارة الذاتية)، تمتد مساحته على كامل الشريط الحدود السوري التركي. إضافة إلى ذلك، ساعد الصعود الكردي في  سورية في نشوء حالة من النشوة القومية لدى أكراد تركيا، انعكست في بعض جوانبها على سلوك الناخبين في المناطق الكردية في تركيا خلال الانتخابات البرلمانية الأخيرة، إذ انحاز معظم أكراد تركيا إلى حزب الشعوب الديمقراطية، ما ساهم في تجاوزه عتبة 10 في المئة اللازمة لدخول البرلمان ممثلاً بقائمة حزبية أول مرة في تاريخ تركيا الحديث.

ظلت تركيا، طوال العام الماضي، تراقب عن كثب القتال الدائر بين وحدات حماية الشعب الكردية وتنظيم الدولة بما هو صراع يفضي إلى إضعاف الطرفين، لكن محاولة تنظيم الدولة السيطرة على أعزاز في منتصف أيار / مايو الماضي، وهو نقطة العبور الرئيسة بالنسبة إلى قوات المعارضة السورية المتركزة شمال حلب مع تركيا، وسيطرة القوات الكرديّة على تل أبيض في 15 حزيران/ يونيو الماضي، قد دفع أنقرة إلى تغيير حساباتها خشية أن ينجح تنظيم الدولة في قطع مناطق شمال حلب عن تركيا بعد إخراج قوات المعارضة منها، وأن ينجح الأكراد في إقامة كانتون على امتداد حدودها الجنوبية، وجعل سورية قاعدة لانطلاق مقاتلي حزب العمال الكردستاني ضدها، من جهة أخرى.

أدت كل هذه العوامل مجتمعة إلى تغيير الموقف التركي، وتسريع التوصل إلى اتفاق يسمح للطرفين بتحقيق جزء من أهدافهما. فبالنسبة إلى الأميركان، يزج الاتفاق بالجهد العسكري والأمني والاستخباراتي التركي الذي لا غنى عنه في المعركة لهزيمة تنظيم الدولة؛ وبالنسبة إلى تركيا، يسمح الاتفاق بإطلاق يدها لمواجهة المطامح الكردية في إنشاء كيان مستقل على حدودها مع سورية، وفي إنشاء منطقة آمنة خالية من تنظيم الدولة وقوات النظام السوري وتشكّل قاعدة لقوات المعارضة السورية ومنطقة يمكن استيعاب الأعداد الكبيرة من اللاجئين السوريين فيها بما يخفف الضغط على الداخل التركي من الناحيتين الأمنية والاقتصادية.

تداعيات التدخل التركي على الصراع السوري وأطرافه

من المبكّر الحكم على تأثير التدخل العسكري التركي الذي ما زال محدوداً بضربات جوية وقصف مدفعي عبر الحدود، في المسار العام للصراع السوري ونتائجه، لكنها ستطال مختلف أطراف الصراع على الأرجح وفق الآتي:

  1. تنظيم الدولة

سيكون تنظيم الدولة أبرز المتضررين من إعلان تركيا الحرب عليه لأسباب عدة:

خسارته المتوقعة مساحات واسعة تمتد من مدينة مارع في ريف حلب الشمالي إلى جرابلس في أقصى ريف حلب الشرقي، بكل ما تحتويه هذه المناطق من قيمة إستراتيجية (سدود مائية، ومحطات توليد كهرباء، ومصانع، وصوامع، وأراض زراعية)، وهو ما سيؤدي إلى انعزاله في المنطقة الشرقيّة والبادية السورية، وسيقطع الطريق على مخططاته التوسعية، وهدفه المعلن بإقامة خلافة إسلامية بعاصمتين؛ الموصل في العراق، وحلب في سورية.

افتقاده أي تواصل جغرافي مباشر بين تركيا ومناطق نفوذه، ومن ثمّ افتقاده أهم عنصرين في مقومات بقائه وتوسعه؛ المقاتلين الأجانب الراغبين في الانضمام إليه، وشبكات التهريب التي تؤمّن له مصدر تمويل مهم بشرائها النفط الخام المنتج من الحقول السورية في دير الزور وتهريبه إلى السوق التركية المتعطشة لهذه السلعة.

تعرّضه للاستنزاف الدائم: فقرار الحكومة التركية المشاركة في الضربات الجوية، والسماح لطائرات التحالف باستخدام قواعدها القريبة من مناطق سيطرة التنظيم سوف يزيد من عدد هذه الضربات وفاعليتها، إذ لن تضطر طائرات التحالف للإقلاع من مناطق بعيدة (الأردن، ودول الخليج العربي)، والتحليق ساعات طويلة للوصول إلى أهدافها. كما ستمكّن القواعد التركية طائرات التحالف من التزود بالوقود بسهولة، وهو ما يساعدها على البقاء في الأجواء لساعات طويلة، ويمنحها القدرة على رصد تحركات التنظيم ومتابعتها، وتحديث بنك الأهداف وتوسيعها من دون الحاجة إلى جهد استخباراتي استثنائي.

خسارة نينوى: يدرك تنظيم الدولة أنّ التدخل التركي لن يقتصر على سورية، بل سوف يمتد إلى العراق عبر الضربات الجويّة أو عبر انخراطها في تدريب قوات محلية (عشائر)، وإعدادها وتسليحها لإخراجه من محافظة نينوى، عاصمة دولته وأهم معاقله.

  1. النظام السوري

مع أنّ أنقرة لم تحقق شرط ضرب النظام السوري بانضمامها إلى جهود التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة، إلّا أنّ هذا لا يمنع استهدافه مستقبلاً، إذ حدد المسؤولون الأتراك ثلاثة أهداف للعملية العسكرية وهي محاربة التنظيمات “الإرهابية” الكردية، وتنظيم الدولة، وتحقيق الديمقراطية في الجوار (إشارة إلى نظام الأسد). فضلاً عن ذلك، لن تكون منطقة العمليات التي تنوي تركيا إقامتها داخل سورية، وعلى اختلاف مسمياتها (عازلة، آمنة …إلخ) خالية من تنظيم الدولة، أو القوات الكردية فحسب، وإنما من قوات النظام أيضاً وخصوصاً تلك المتمركزة في بعض مناطق ريف حلب الشمالي والجنوبي. حينئذ، سيكون النظام أمام خيارين؛ إمّا الانسحاب الطوعي وإفراغ تلك المناطق، وإمّا الدخول في مواجهة مع تركيا قد تدفعها إلى توسيع نطاق عملياتها وأهدافها. كما أنّ انسحاب تنظيم الدولة المتوقع من مناطق سيطرته في ريف حلب الشرقي والجنوبي قد تدفعه إلى التوسع في مناطق التماس مع قوات النظام وخاصة في ريف حمص الشرقي، وهو ما قد يعرّضها إلى مزيد من الخسائر والاستنزاف. عدا عن ذلك، فإنّ دخول تركيا في التحالف الدولي سيبدد ما تبقى للنظام من آمال وطموحات مستقبلية في الانضمام إلى التحالف الدولي، واعتماد الغرب له شريكاً في مكافحة الإرهاب.

  1. حزب الاتحاد الديمقراطي

إنّ انضمام تركيا بثقلها العسكري والسياسي إلى التحالف الدولي يفقد قوات الحماية الكردية بالتدريج أهميتها ودورها الوظيفي بصفتها شريكاً ميدانياً للتحالف في قتال التنظيم ضمن الأراضي السورية، ويحرمها من زيادة نفوذها وتوسيع مناطق سيطرتها، ويقطع الطريق نهائياً على مساعيها لربط مناطق الإدارة الذاتية (القامشلي، وكوباني، وعفرين) جغرافياً بعضها ببعض. كما يحدث خللاً في علاقات الحزب الكردي مع الولايات المتحدة ولا سيما بعد موقفها المبهم من تعرّض قواته لقصف تركي، و”دعمها” الضربات الموجهة ضد حزب العمال الكردستاني، وهو ما يدفعه إلى البحث عن تحالفات جديدة تضمن بقاءه وتحفظ دوره المستقبلي. وفي هذا السياق، ألمح رئيس الحزب صالح مسلم إلى استعداده لقبول عودة الجيش النظامي إلى المناطق الكردية، ولكن بعقلية جديدة وشروط جديدة، ووعد بأن تكون وحدات الحماية الكردية جزءاً من الجيش النظامي، إذا غيّر ما سماه “عقليته البعثية والمخابراتية”.

  1. المعارضة

من المرجّح أن تكون فصائل المعارضة المسلحة في حلب أبرز المستفيدين من التدخل التركي، إذ يدفع ذلك عنها خطراً وجودياً في حلب وريفها الشمالي، ويوقف استنزافها، ويسمح لها بالاستفادة من سلاحها ومقاتليها المرابطين في مناطق التماس مع تنظيم الدولة لإكمال معركتها مع قوات النظام في حلب بعد إيقافها مرات عدة إثر هجوم التنظيم على مواقعها وخطوط إمدادها، واستغلاله اشتباكاتها مع قوات النظام للتوسع في المناطق التي تسيطر عليها. كما يساهم التدخل التركي في الدفع بعيداً بقوات الحماية الكردية الطامحة لانتزاع ريف حلب الشمالي من فصائل المعارضة بهدف فك الحصار المفروض عن عفرين وربطها بباقي المناطق الكرديّة.

أمّا سياسياً، فيأمل الائتلاف الوطني أن يكون التدخل التركي مقدمة لإقامة منطقة آمنة، تشمل حظراً للطيران، تسمح بعودته مع الحكومة المؤقتة إلى سورية وتولّي إدارة ملفات إغاثية وإنسانية لتخفيف المعاناة عن سكان المناطق المحررة، وجسر الهوة بين الخارج والداخل، وتنظيم العمل العسكري واتخاذ المنطقة الآمنة نقطة انطلاق لقوات المعارضة في عملياتها ضد النظام. إضافة إلى ذلك، يصب المسعى التركي لتحجيم (PYD) وإيقاف تمدده في مصلحة الائتلاف، إذ يتهم الأخير (PYD) بالتحالف مع النظام وإيران لضرب فصائل الثورة، ومنع القوى والأحزاب الكرديّة من الانضمام إلى مؤسسات المعارضة، واستغلال الصراع للانفصال وتأسيس دولة كردية في سورية.

ترتبط حدود التدخل التركي مستقبلاً بمحددات داخلية لعل أبرزها شكل الحكومة الائتلافية، أو نتائج الانتخابات المبكّرة في حال قررت حكومة العدالة والتنمية الذهاب باتجاهها، والتكلفة التي يترتب على تركيا تحملها نتيجة قرارها التدخل عسكرياً ضد كل من تنظيم الدولة وحزب العمال الكردستاني، وأطراف دولية وإقليمية حريصة على إفشال الهدف التركي المرتبط بدعم المعارضة الساعية إلى إسقاط نظام بشار الأسد، فضلاً عن حدود التفاهمات التركية – الأميركية، وحدود التغيير الذي تنشده واشنطن في المنطقة عموماً وسورية خصوصاً.

المدن

 

 

 

الأكراد شمال شرق سوريا: حسابات الداخل ومعطيات الخارج/ زياد ماجد

ملخص

كثُر الحديث في شهر يونيو/حزيران 2015 عن عمليات تهجير لسكان عرب من مناطق مختلطة قوميا شمال شرق سوريا. وذكرت شهادات مواطنين سوريين وتقارير إعلامية وتصريحات سياسية أن عمليات التهجير هذه تلت طرد “وحدات الحماية الكردية” لميليشيا “تنظيم الدولة الإسلامية” من مدينة تل أبيض والبلدات المحيطة بها. في المقابل، نفى المسؤولون الأكراد صحة هذه الشهادات والتقارير والتصريحات، وذكروا أن التهجير الفعلي الذي حصل في المناطق المذكورة هو ذاك الذي استهدف سكانها حين هاجمهم “تنظيم الدولة” واستولى على أراضيهم عامَي 2013 و2014.

وقد أدَّى الاتهام والنفي والسجال الذي تبِعهما إلى فتح نقاش سوري داخلي أظهر عمق التأزم السياسي بين شرائح واسعة من الأكراد والعرب السوريين، وفاقم خطابَ مظلوميةٍ كرديًّا له مشروعيته بناءً على تجارب التاريخ الحديث، لكنه صار مبعثَ تبريرِ سلوكياتٍ وممارساتِ غلبةٍ راهنة.

وفي ما يتخطى الإطار السوري لمسألة التوتر الكردي العربي، الواجب معالجتها على أكثر من مستوى سياسي وثقافي، يبدو أن التطورات العسكرية الأخيرة في الشمال والشمال الشرقي السوري أثارت قلق تركيا التي تنظر بريبة الى التمدد العسكري الكردي على حدودها الجنوبية بغطاء جوي أميركي. ولن يمر هذا الأمر على الأرجح دون تداعيات سياسية وميدانية في المستقبل القريب.

مقدمة

يتطلب البحث في واقع المناطق الشمالية والشمالية الشرقية السورية اليوم، خاصة منطقة الجزيرة، إثارة مُعطيَين تاريخيين، الأول: صعود الهويات القومية وأفول الإمبراطورية العثمانية ومسار ترسيم الحدود في المشرق العربي بعد اتفاقية سايكس-بيكو (بين بريطانيا وفرنسا) عام 1916، وما تبع ذلك من تشكُّل الدول الحديثة في المنطقة. والثاني: سياسات حزب البعث عقب استيلائه على السلطة في دمشق وفرضه “التعريب” على الأقليات القومية داخل سوريا، ومحاولته تعديل الديموغرافيا والتسميات الجغرافية في مناطق وجودها.

وفي المُعطى الأول، تجاهلت اتفاقيات رسم الحدود وتشكيل الكيانات السياسية تطلعات قسم كبير من الأكراد لإقامة دولة وطنية، فوَجد هؤلاء أنفسهم موزعين بين إيران الصاهرة لهم في بوتقةٍ عمادُها العنصر الفارسي، وتركيا الكمالية التي واجهتهم بتشدد قومي وبحملات قمع وتتريك، والشمالَين العراقي والسوري حيث عانوا من سياسات تهميش متلاحقة تحولت مع صعود البعث إلى السلطة تباعًا في البلدين إلى سياسات سيطرة مُمنهجة. وهنا يأتي المعطى الثاني في ما يخص الشأن السوري؛ ذلك أن النظام البعثي عمد على مراحل عدَّة بدءًا من أواسط الستينات ثم طيلة الحقبة الأسدية بعد عام 1970 إلى حظر اللغة والهوية الكرديتين واعتماد التعريب في التعليم، وفي مختلف أوجه الحياة العامة في المناطق ذات الأغلبية الكردية، كما عرَّب أسماء بلدات ومدن كانت حتى ذلك الوقت مُحافظةً على أسمائها غير العربية. وعمل نظام الأسد ابتداءً من عام 1974 على إسكان فلاحين عرب، غمرت قراهم بحيرةُ سد الفرات، في قرى ذات أكثرية كردية على الحدود الشمالية الشرقية في محافظة الحسكة ضمن مشروع “الحزام العربي”، مما عُدَّ سعيًا إلى تعديل ديموغرافيا المنطقة المذكورة، وإن كانت نتائج الأمر ظلَّت محدودة(1).

ويُضاف إلى ما ذُكر، أن عشرات الآلاف من الأكراد في سوريا لم يحصلوا على وثائق سورية؛ إذ تمنَّعت السلطات المتعاقبة في دمشق عن منحهم الجنسية، مُدعيةً أن أصولهم تعود إلى جنوب شرق تركيا وأنهم نزحوا إلى سوريا على دفعات خلال عقود الانتداب الفرنسي. وأدَّى مختلف العوامل هذه، ضمن المُعطيين الآنفين، إلى نشوء مظلومية كردية لها سردياتها وخطابها وقواها السياسية. وشكَّلت الساحة التركية، حيث يعيش العدد الأكبر من الأكراد، الحيز الأبرز للكفاحية الكردية في محاولة لانتزاع حقوق ثقافية وسياسية من أنقرة. وتحولت الكفاحية هذه في بعض أوجهها إلى العنف المسلح بعد ظهور “حزب العمال الكردستاني”(2) بزعامة عبد الله أوجلان، أواخر سبعينات القرن الماضي.

نظام الأسد و”حزب العمال الكردستاني”

في الوقت الذي كان نظام حافظ الأسد يفرض سياسات القمع و”التعريب” القسري على الأكراد السوريين، كان يعمد أيضًا إلى تشجيع حليفه في “الجبهة الوطنية التقدمية”، الحزب الشيوعي السوري-جناح خالد بكداش(3)، على استقطاب مجموعات كردية إليه لإبعادها عن منازعة السلطات في دمشق وجعلها تقدم الأيديولوجيا على الانتماء القومي. وابتداءً من أوائل الثمانينات، وبسبب سوء علاقته بالحكم التركي لأسباب عدة منها قضية لواء الإسكندرون(4)، انفتح النظام الأسدي على “حزب العمال الكردستاني”، وسمح له بمعسكرات تدريب في الأراضي اللبنانية التي كان يُسيطر عليها، واستضاف زعيمه أوجلان في العاصمة دمشق ووفَّر له الحماية الأمنية، وسعى إلى توظيف قتاله الجيش التركي من أجل ابتزاز السلطات التركية وإيجاد “ورقة ضغط” عليها تحقق توازنًا سياسيًّا (نسبيًّا) بين دمشق وأنقرة.

واستمرت سياسة “احتضان” الحزب الكردي وزعيمه أوجلان لغاية عام 1998 حين طُلب من الأخير مغادرة الأراضي السورية بعد تهديدات تركية وحشد قوات عسكرية على الحدود؛ فتحسنت بعدها علاقات الأسد بأنقرة ووقَّع البلدان “اتفاقية أضنة” الأمنية (للتعاون في “مكافحة الإرهاب”)، وفتحا صفحة جديدة في علاقاتهما، وعُدِّلت الخريطة الرسمية السورية وأُزيل لواء الإسكندرون لاحقًا منها. وقد وسَّع وجود أوجلان وكوادر حزبه في سوريا لسنوات طويلة وتنظيمهم أنشطةً وشبكاتِ دعم وتضامن في المناطق ذات الأغلبية الكردية شعبيتهم في الأوساط الكردية السورية؛ فصار “حزب العمال” ممثلًا لفئات كثيرة من أكراد سوريا على نحوٍ قرَّبها سياسيًّا من الشرائح المساندة له في تركيا.

ومع انتقال السلطة من الأسد الأب إلى ابنه عام 2000، شهدت المناطق الكردية انعقاد منتديات حاشدة ضمن سياق ما عُرف يومها بـ”ربيع دمشق”. وأثارت تلك المنتديات قضايا سورية عامة مرتبطة بالمطالبة بإنهاء حالة الطوارئ في البلاد (السائدة منذ عام 1963) وإطلاق المعتقلين السياسيين واحترام حرية الرأي والتعبير وإقرار الحق بتأسيس الجمعيات والأحزاب. كما أثارت المنتديات قضايا كردية ترتبط باحترام الثقافة وحقوق المواطنة للأكراد وحصول “غير المجنسين” منهم على أوراقهم الثبوتية السورية. وقد تعامل النظام مع المنتديات الكردية ومع سائر المنتديات في سوريا أمنيًّا، فأقفلها بعد أشهر على ظهورها واعتقل العشرات من منظِّميها.

وفي عام 2004، انتفض ألوف الشبان الأكراد ضد النظام السوري عقب مباراة كرة قدم شهدت شغبًا واستفزازًا لجماهيرهم الكروية ثم اعتداءً وحشيًّا عليهم من قبل القوى الأمنية، ووصلت التظاهرات والاعتصامات الكردية إلى العاصمة دمشق حيث أخمدها النظام بالقتل والاعتقال. وتعددت في عامي 2005 و2006، المبادرات السياسية من قبل أطراف المعارضة السورية وبعض الشخصيات العامة المستقلة، وبينها قوى وشخصيات كردية، وصدر “إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي” واعتقل النظام قسمًا كبيرًا من موقِّعيه، ومن ضمنهم ناشطون سياسيون أكراد.

عانى أكراد سوريا مثل الأكثرية العظمى من مواطنيهم السوريين من منظومة القمع والاستبداد والتهميش التي أدار من خلالها حُكم الأسدَين: الأب والابن البلاد. واتخذت معاناتهم طابعًا خاصًا في أحيان كثيرة، مرتبطًا كما ذكرنا بخصوصياتهم الثقافية القومية واللغوية المُستهدفة، وبمحاولات توظيف قضيتهم في إطار الصراع ثم التسوية مع أنقرة. لكن معاناتهم المزدوجة هذه لم تكن استثناءً وحيدًا في السياق السوري؛ إذ إن فئات أخرى عانت مثلهم لانتماءاتها الجهوية (أهل مدينة حماه ومحيطها مثلًا الذين حُرموا من الوظائف والكثير من الخدمات، وتعرض بعض أحياء مدينتهم وعشرات الآلاف من أبنائها للإبادة في فبراير/شباط 1982) أو الأيديولوجية (بعض اليساريين وجمهور واسع من الإسلاميين السوريين ممن نُكِّل بهم وتعرضوا لمجازر ولأحكام بالإعدام أَرْدَت الآلاف منهم خلال عقدي الثمانينات والتسعينات).

المسألة الكردية بعد اندلاع الثورة السورية عام 2011

أتاح اندلاع الثورة السورية، في مارس/آذار 2011، حرية التعبير السياسي وطرح المواضيع الإشكالية المسكوت عنها داخل سوريا. كما أنه سمح بانطلاق أنشطة شعبية تتخذ من الاعتصامات والمسيرات والتضامن الوطني أشكالًا جديدة للمطالبة بالحرية والعدالة وإسقاط حكم الاستبداد. وقد شارك الشبان الأكراد بفاعلية في المظاهرات والأنشطة الثورية على مدى أشهر. وعرفت مدينتا القامشلي وعامودا تجمعات حاشدة طالبت بإسقاط النظام وتضامنت مع باقي المدن السورية الثائرة، لاسيما درعا وحمص ودوما ثم حماه التي تعرضت لقمع وحشي من قبل قوات الأسد. ولعبت شخصيات كردية بارزة، مثل مشعل تمو(5)، دورًا فاعلًا في قيادة التوجه الكردي المعارض وربطه بالثورة ومواجهة سياسات النظام الهادفة إلى الاستثمار في أي شرخ كردي عربي أو الدفع نحوه.

أدَّى اغتيال تمو في أكتوبر/تشرين الأول 2011 واختطاف وتوقيف عشرات الناشطين الأكراد المعارضين لنظام الأسد، وتنامي ظاهرة العسكرة في صفوف الثورة السورية لمواجهة بطش النظام ثم تحولها إلى كفاح مسلح بعد احتلال الجيش الأسدي لساحات المدن والبلدات منعًا للتجمع والتظاهر فيها واستهداف آلاف المدنيين والناشطين السلميين قتلًا واعتقالًا، إلى خلق واقع سياسي كردي جديد؛ إذ آثر معظم القوى السياسية الكردية، لاسيما “حزب الاتحاد الديمقراطي”(6)، تحييد المناطق الكردية أمام ما أسمته: “النزاع” العسكري الناشب. ومع تصاعد هذا الأخير أواخر عام 2012 وخروج قسم كبير من البلاد عن سيطرة الأسد، أنشأ “حزب الاتحاد” وحلفاؤه “وحدات حماية الشعب” بهدف السيطرة على المناطق ذات الأكثرية الكردية.

تراجع مع الوقت الحراك الثوري في الحسكة وفي مناطق في ريفَي الرقة وحلب، وبدا أن القوى الكردية الرئيسية قررت إعادة التموضع على الخارطة السورية على نحو يسمح لها بالاستفادة من الصدام القائم بين النظام ومعارضيه؛ أولًا: لترنح سطوة النظام على قسم واسع من الأراضي السورية بما يُتيح لها الانتشار في تلك التي تقيم فيها أكثرية كردية؛ وثانيًا: لحاجة جميع الأطراف إلى تجنُّب الصدام بها. فلا النظام المنهك يريد زيادة أعدائه وفتح جبهات جديدة تشغله في مناطق فيها مراكز استراتيجية له (نفط ومطار وقواعد عسكرية)، ولا فصائل المعارضة، من الجيش الحر والكتائب والجبهات الإسلامية، تريد قتال الميليشيات الكردية ودفعها للتحالف مع النظام سواء في داخل مدينة حلب أو في العديد من مناطق السيطرة المتداخلة وطرق الإمداد في الريفين الحلبي والرقاوي.

ورغم بعض المعارك المتفرقة مع جيش النظام ومع الجيش الحر ثم مع الفصائل الإسلامية، إلا أن الصدامات ظلت محدودة وتمكن المقاتلون الأكراد من التحكم بمعظم المناطق ذات الأكثرية الكردية، تاركين جيوبًا وقواعد للنظام من ناحية وممرات لوجستية للمعارضة من ناحية ثانية. ونفذ مقاتلو “وحدات حماية الشعب” حملات اعتقال طالت أكرادًا معارضين لـ”حزب الاتحاد الديمقراطي”، كما طردوا بعض العائلات العربية والتركمانية المُتهمة بالاستيطان أو بالتعاطف مع خصومهم. (7) لكن في المقابل، يجدر القول إن التهجير الداخلي في سوريا نتيجة قصف النظام للمناطق الخارجة عن سيطرته، في ما عدا المناطق الكردية، أوصل ألاف السوريين العرب إلى هذه المناطق بحثًا عن الأمان. وفي الأمر ما أبقى– تمامًا مثل التهجير الذي حدث من حلب إلى اللاذقية – على الاختلاط المذهبي والقومي موجودًا في العديد من المحافظات السورية.

صعود “تنظيم الدولة الإسلامية” والصدامات الكبرى

أدَّى صعود “تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام” ابتداءً من ربيع عام 2013، وانتشاره في العديد من مدن وبلدات محافظات دير الزور والرقة وحلب وإدلب إلى اشتباكات متفرقة بين مقاتليه والمقاتلين الأكراد، لم تصل حدود محاولة أي من الطرفين الحسم مع الآخر؛ فمقاتلو “الدولة الإسلامية” كانوا مستغرقين في قتال “الجيش الحر” والفصائل الإسلامية المعارضة واحتلال المناطق التي سبق للأخيرين أن حرَّروها من النظام، فيما كان المقاتلون الأكراد يركِّزون على تثبيت مواقعهم وتجهيز أنفسهم للمرحلة اللاحقة.

وفي يناير/كانون الثاني 2014 أعلن “حزب الاتحاد الديمقراطي” وحلفاؤه في الشمال الشرقي السوري تشكيل حكومة لإدارة المناطق الكردية، وجرى تنظيم العمل الخدماتي والأمني وتطوير الأجهزة السياسية الكردية في ما سُمِّي “غرب كردستان”، وأثار الأمر سجالات حادة بين من اعتبره خطوة نحو “الاستقلال” عن سوريا ومن رأى فيه ترتيبًا مؤقتًا لإدارة مناطق حكم ذاتي كردية. وبدا أن انعدام الثقة بين الأطراف المتساجِلة هو العنصر الأبرز والأبلغ أثرًا سياسيًّا.

واستمرت الأمور على هذا النحو من استتباب للسيطرة الكردية على مدن وبلدات في الحسكة وريفَي الرقة وحلب حتى يونيو/حزيران 2014؛ حيث حصل في ذلك الشهر التطور الدراماتيكي الكبير الذي أطلق الصراع في الشمال والشمال الشرقي السوري؛ إذ أعلن أبو بكر البغدادي زعيم “تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام” الخلافة في يونيو/حزيران 2014 عقب استيلاء قواته على الموصل في العراق وتقدمها نحو مناطق أُخرى، ثم بدئها حملة لتوسيع مناطق سيطرتها شمال الرقة في سوريا؛ حيث اصطدمت بعنف بـ”وحدات الحماية” الكردية، واحتلت بلدات عديدة كانت تحت سيطرة الأخيرة. وتسبب هجوم تنظيم الدولة في العراق كما في سوريا بتهجير عشرات الآلاف من العراقيين وآلاف السوريين، أكثريتهم من الأكراد.

وأدَّى التوسع السريع لـ”الدولة الإسلامية” وما رافقه من انهيار للجيش العراقي ومن جرائم ضد المدنيين، ثم من إعدام التنظيم لمخطوفين غربيين -صحافيين أميركيين وعامل إغاثة بريطاني- إضافة إلى دخول قواته إلى داخل مدينة كوباني (عين العرب) ذات الأكثرية الكردية شمال محافظة حلب، إلى دفع الولايات المتحدة وعدد من حلفائها الغربيين والعرب إلى التدخل العسكري؛ فشنَّت الطائرات الأميركية والحليفة ابتداءً من سبتمبر/أيلول 2014 مئات الغارات الجوية على مواقع التنظيم الجهادي وعلى حشوده في كوباني وفي معظم مناطق انتشاره (في سوريا والعراق). وسمحت الغارات الجوية للقوات الكردية السورية “وحدات الحماية” بإعادة تنظيم نفسها وشنِّ هجوم مضاد على تنظيم الدولة، مدعومة بمقاتلين من البشمركة القادمين من العراق عبر الأراضي التركية، ومن بضع وحدات من الجيش الحر (رقَّاوية وحلبية الانتماء).

استمرت المعارك الطاحنة بين الطرفين حتى شهر يناير/كانون الثاني 2015، وانتهت بطرد “وحدات حماية الشعب” لـ”تنظيم الدولة” من كوباني والبلدات المحيطة بها. وتواصلت بعد ذلك عمليات الكرِّ والفرِّ مصحوبة بمئات الغارات الأميركية الإضافية المساندة للهجوم الكردي حتى شهر مارس/آذار، ثم استُؤنفت من جديد في شهر مايو/أيار 2015، وأدَّت إلى خسارة “تنظيم الدولة” مدينة تل أبيض وعشرات القرى المحيطة بها. وتلت عملية طرد “تنظيم الدولة” من المنطقة اشتباكات مستمرة حتى اليوم على محاور القتال وحدودها الجديدة، وأفضت هذه العمليات إلى سيطرة كردية على العديد من المعابر بين سوريا وتركيا، وأفضت كذلك إلى تأمين تواصل ترابي بين المناطق التي يسيطر عليها الأكراد السوريون، شمال شرق وشمال البلاد.

ورافق مجملَ الأعمال الحربية منذ صيف عام 2014 لغاية صيف عام 2015، تهجيرٌ ونزوح واسعان نحو الأراضي التركية. ورافقتها أيضًا عمليات إبعاد لعائلات عربية نفَّذتها “وحدات الحماية” الكردية بحجَّة تعامل الأخيرة مع “تنظيم الدولة” أو بحجَّة إقامتها على مقربة من نقاط الاشتباك المباشر الجديدة. وقد تناولت تقارير صحافية هذا الإبعاد القسري لمواطنين عرب (عبر الفضائيات العربية وفي صحيفة “صانداي تايمز”، خاصةً بتاريخي 27 فبراير/شباط و1 يونيو/حزيران 2015). وذكرتها أيضًا تصريحات رسمية أميركية حذَّرت من استمرارها (تصريح جيف راثكي المتحدث باسم الخارجية في 13 يونيو/حزيران 2015)، وأُخرى رسمية تركية على لسان وزير الخارجية ثم على لسان الرئيس أردوغان نفسه الذي اتهم “الغرب” بالتواطؤ مع “حزب العمال الكردستاني” في تنفيذ عمليات الإبعاد هذه التي أوصلت -بحسبه- آلاف النازحين الجدد العرب والتركمان إلى تركيا (تصريحه في 16 يونيو/حزيران 2015)(8).

يمكن القول: إن “وحدات حماية الشعب” استفادت من الدعم الأميركي العسكري واللوجستي لتسيطر على أجزاء مهمة من الشمال والشمال الشرقي السوري، وعكس الأمر حسابات في واشنطن ترى في إقامة شريط كردي متواصل ترابيًّا منطَلقًا لقتال بري ضد “تنظيم الدولة” في سوريا، ولو أدَّى الأمر الى استفزاز أنقرة التي تبدو غير راضية عن الأمر، وغير راضية أصلًا عن المقاربة السياسية الأميركية للأوضاع السورية.

وقد ردَّت تركيا على مجمل التطورات المذكورة بحذر؛ فهي تخشى من آثار الوضع المستجد سوريًّا على أوضاع مناطقها الكردية المقابلة للحدود وعلى استقرارها بعد سيطرة الميليشيات الكردية على معظم المعابر، لكنها في الوقت عينه لا تريد الظهور بمظهر المساند لـ”تنظيم الدولة”. كما أنها تُطالب واشنطن بألا تكتفي بقصف “تنظيم الدولة” جويًّا، بل بتجاوز ذلك وفرض مناطق آمنة في كامل الشمال السوري تحمي المدنيين من طيران نظام الأسد، وتحدُّ من النزوح إلى أراضيها. وتريد كذلك قرارًا أميركيًّا واضحًا يربط “مكافحة الإرهاب” برحيل الأسد، وهذه جميعها مسائل لم تبتُّ واشنطن فيها بعد.

لهذه الأسباب، حشدت أنقرة قوات برية جنوب البلاد، ووضعتها منذ مطلع شهر يوليو/تموز 2015 في حالة تأهب، أمَّا تنفيذها عملية عسكرية خارج الحدود وانتشارها داخل الأراضي السورية، فمرتبط بمجموعة عناصر، منها تشكيل حكومة تركية جديدة، وتطورات الوضع الميداني السوري، والتنسيق مع قطر والمملكة العربية السعودية، وأخيرًا وليس آخرًا مفاوضات أنقرة وواشنطن ربطًا بسوريا وبالاتفاق النووي الأميركي-الإيراني، وغير ذلك من ملفات بالغة الأهمية.

خلاصة

في ما يتجاوز آنية التحولات الميدانية في الأشهر الأخيرة في محافظات الحسكة والرقة وحلب رغم أهميتها وخطورتها، يبدو بحث العلاقات العربية-الكردية سوريًّا مسألة مُلحَّة يُفترض أن يتفق على أسسها المسؤولون الأكراد ونظراؤهم في المعارضات السورية. ويُفترض أيضًا أن يضع هؤلاء أولويات لا تفصل بين مهمتي إسقاط النظام الأسدي المسؤول الأول عن الجرائم الوحشية وعن الخراب الذي أصاب سوريا، والتصدي لـ”تنظيم الدولة الإسلامية” وطرده من الأراضي السورية. وعلى أساس الاتفاق على المهمتين المتكاملتين المذكورتين، يمكن البحث في شكل النظام السياسي المستقبلي للبلاد وضرورة ألا يكون مركزيًّا وأن يتيح شكلًا من أشكال الإدارة الذاتية عبر لا مركزية موسعة، أو صيغة فيدرالية تترافق مع احترام الحقوق الثقافية واللغوية والسياسية لجميع المواطنين؛ ذلك أن دوامات الانتقام وسياسات الثأر والاستناد إلى “المظلومية التاريخية” لتبرير انتهاكات راهنة تؤسس لمظلوميات جديدة ولجولات مقبلة من التشنجات والصراعات، وهذا أسوأ ما قد يُصيب السوريين.

__________________________________

زياد ماجد – كاتب لبناني وأستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في باريس، صدر له عام 2013 في بيروت كتاب “سوريا الثورة اليتيمة”.

المصادر

1- ياسين الحاج صالح، تعريبان وتكريدان وما شابه، القدس العربي، 27 يونيو/حزيران 2015. وفي المقال يُحيل الكاتب إلى دراسة محمد جمال باروت “التكوُّن الحديث للجزيرة السورية” الصادرة عام 2013 عن “المركز العربي للدراسات وأبحاث السياسات” في الدوحة.

2- تأسَّس الحزب سريًّا في تركيا عام 1978، ودخل ابتداءً من عام 1984 في صراع مسلح مع السلطات التركية، وهو حزب قومي وماركسي، كان هدفه عند التأسيس الكفاح من أجل استقلال كردستان.

3- شهد الحزب الشيوعي السوري مجموعة انشقاقات على خلفية العلاقة بموسكو وموقفها من الصراع العربي-الإسرائيلي، ثم على خلفية العلاقة بنظام الأسد. ومثَّل جناح خالد بكداش الموقف الملتصِق بموسكو والمتحالف مع نظام الأسد، وكانت له قاعدة شعبية كردية مرتبطة ببكداش وعائلته الكردية.

4- دخلت قوات تركية لواء الإسكندرون عام 1938 بتواطؤ فرنسي (كانت سوريا يومها تحت الانتداب)، وجرى عام 1939 تنظيم استفتاء فيه ضُمَّ بموجبه إلى تركيا، وظلَّت دمشق تعد الإسكندرون أرضًا سورية سليبة حتى أواخر التسعينات.

5- مشعل تمو هو أحد السياسيين الأكراد الذين عملوا مع قوى المعارضة السورية قبل الثورة، وسبق أن اعتقله النظام عام 2008 لمدة ثلاث سنوات. ترأَّس تمو “تيار المستقبل الكردي”، وكان عند اغتياله عضوًا في “المجلس الوطني”، الهيئة المعارضة السورية الأوسع تمثيلًا يومها.

6- “حزب الاتحاد الديمقراطي” بزعامة صالح مسلم هو الفصيل السوري المرتبط عضويًّا بـ”حزب العمال الكردستاني” في تركيا.

7- شملت عمليات الطرد هذه عائلات من بلدات في محافظة الحسكة، ولا يوجد تقدير دقيق لأعدادها، وإنما معلومات عامة مستندة إلى تصريحات سياسية صادرة عن هيئات تركمانية، وعن أطراف سياسية سورية وفصائل مسلحة وشهادات جمعها ناشطون حقوقيون وصحافيون في مخيمات النازحين في تركيا.

8- من الواضح وفق هذه التقارير والتصريحات، وما سبقها من شهادات نازحين من نواحي تل أبيض ورأس العين وتل تمر وتل حميس وتل براك وجزعة واليعربية، أن عمليات تهجير قسري جرت لمواطنين عرب (ولآخرين تركمان، بأعداد أقل)، لكن المعلومات التفصيلية قليلة حول الموضوع، ولا يمكن بناءً عليها اعتبار ما جرى “تطهيرًا عرقيًّا”، ولا يمكن بالمقابل التقليل من خطورته ومن تبعاته المستقبلية على العلاقات الكردية-العربية سوريًّا.

 

 

 

ما الذي تغيّر لدى تركيا تجاه داعش؟/ ماجد عزام

لم تُخفِ تركيا يوماً موقفها تجاه تنظيم داعش الذي وصفته، دوماً، بالإرهابي، وهي انضمت إلى التحالف الدولي ضده منذ إعلانه، قبل سنة تقريباً، ولكن في السياق اللوجستى فقط، من دون الانخراط الفعلي في الحرب، وأيضاً مع إيضاح كامل، ومن دون إخفاء لحقيقة الموقف التركي وجوهره.

إذن، لم تُخفِ أنقرة عداءها للتنظيم الإرهابي، لكنها لم تعتبره خطراً داهماً ومباشراً، وقدمت دائماً الخطر الكردي بشقيه؛ سواء أكان حزب العمال الكردستاني (PKK) أو جناحه السوري حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، واللذين تضعهما أنقرة أيضاً على لائحة الإرهاب، كما داعش.

إضافة إلى ذلك، أعلنت الحكومة التركية مراتٍ استعدادها للانخراط العملياتي والميداني في الحرب الكونية ضد داعش. ولكن، وفق أسس وقواعد صحيحة، وحتى واقعية ومثمرة، تلحظ مواجهة المرض، وليس العَرَض فقط، بمعنى أن لا معنى أو جدوى من مواجهة داعش من دون مواجهة نظام بشار الأسد؛ كونه أصل الإرهاب أو جذره، وهو منتج البيئة الحاضنة التي أنتجت داعش وأخواته في المنطقة.

وفي السياق نفسه، قالت تركيا، دائماً، إن أية حرب ضد داعش لن تنجح من دون إقامة منطقة آمنة، شمال سورية، تتمتع بحماية جوية تسمح بإقامة مخيمات إيواء للاجئين، كما قواعد للمعارضة السورية المؤهلة، ليس فقط لقتال داعش، وإنما لقتال النظام أيضاً، ومنعه من الاستفادة أو تحقيق المكاسب، جرّاء التركيز أو الانشغال بقتال التنظيم المتطرف الذي هو صنيعته في كل الأحوال، بشكل مباشر وغير مباشر.

تعرّضت أنقرة، نتيجة موقفها، لحملة ابتزاز وتشويه دولية غربية، متعددة الأشكال والمستويات؛ من اتهامات بدعم داعش وتوجيهها، إلى دعم المعارضين في الداخل؛ لإسقاط حزب العدالة والتنمية وحكومته، بل وعهده بشكل عام، إلى اللعب بالورقة الكردية، سواء في تركيا أو في سورية، والإيحاء للسلطات التركية بأن رفضها الانخراط الفعلي، والمتقدم في الحرب ضد داعش، سيتيح الفرصة للأكراد للقيام بدور البطولة، بكل ما يعنيه ذلك من تقديم ثمن أو أثمان سياسية لهم، ليس في العراق، حيث يتصرف الأكراد عموماً بحكمة ووعي ومسؤولية، وإنما في سورية، وحتى في تركيا نفسها.

“ترى تركيا أن لا معنى أو جدوى من مواجهة داعش من دون مواجهة نظام بشار الأسد؛ كونه أصل الإرهاب أو جذره، وهو منتج البيئة الحاضنة التي أنتجت داعش وأخواته في المنطقة”

بدأ التبدل النسبي، أو بالأحرى، الحل الوسط التركي الأميركي، فيما يخص الحرب ضد داعش مع أحداث عين العرب- كوباني، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ومع إصرار واشنطن على تأجيل البحث في مصير النظام إلى أبعد مدى زمني، ضمن حوارها مع طهران حول ملفها النووي، وإصرار أنقرة على مواجهة أصل المرض، وليس العرض الداعشي، ومصلحتها في عدم ترك الساحة لخصومها، جرى التوافق على إدخال قوات البشمركة في المعركة ضد التنظيم، وعبر الأراضي التركية بمشاركةٍ، ولو رمزية، من الجيش السوري الحر. مع العلم أن تركيا استقبلت تقريباً كل أهالي المدينة، وعددهم 200 ألف، ولم تبخل عليهم بالإيواء أو الغذاء والدواء.

تبدّل آخر حصل مع أحداث تل أبيض، يونيو/حزيران الماضي، عندما نجحت قوات الحشد الشعبي الكردي في طرد تنظيم داعش، بدعم جوي أميركي تحديداً، واستغلت الأمر للقيام بتطهير عرقي في المدينة، كما في قرى وبلدات عربية وتركمانية محيطة بها، وبلغت الغطرسة حد الحديث عن إقامة كيان كردي في شمال سورية، يمتد من الحسكة شرقاً إلى ريف اللاذقية غرباً، بما يعنيه ذلك من تطهير عرقي كبير في سورية نفسها، يحرف بوصلة الثورة السورية، كما من إقامة حاجز كردي بين تركيا ومحيطها العربي والاتصال، أو حتى التوحد مع الكيان الكردي في العراق، وإيجاد منفذ مباشر له إلى البحر المتوسط، يحرم أنقرة مزايا اقتصادية، وحتى استراتيجية، والأخطر في القصة كلها أنه سيخلق سيرورة تدفع بأكراد تركيا إلى المطالبة بكيان مماثل، ولو تحت بند الحكم الذاتي.

هنا، تخلَّتْ السلطات التركية عن صمتها، وأعلنت، صراحة، أنها لن تسمح بكيان كردي شمال سورية، أو أية عمليات تطهير عرقي في المنطقة المتاخمة، بما يعنيه من زيادة تدفق اللاجئين إلى أراضيها، وفهمت طبعاً أن لا إمكانية لمحاربة هذه الأفكار الانفصالية، من دون محاربة داعش، والعكس صحيح أيضاً.

اكتملت سيرورة التحول أو الاصطدام بين تركيا وداعش، مع التفجير الذي نفذه التنظيم في مدينة سروج الشهر الماضي، وأوقع عشرات الضحايا من النشطاء الأكراد المتجهين إلى عين العرب كوباني تحديداً، وسواء كانت الجريمة جزءاً من الصدام الكردي الداعشي في سورية، أو استسهالا للهدف، فإن أنقرة فهمت الجريمة على أنها موجهة مباشرة ضدها، وإعلان حرب من داعش عليها، ولم يكن ممكناً السكوت، أو التصرف كأنّ شيئاً لم يكن.

فهمت واشنطن، من جهتها، وتفهم أن لا فرصة للانتصار في الحرب ضد داعش، من دون مشاركة تركية جدية وكبيرة، وكان الحل الوسط المتمثل في محاربة كل التنظيمات الإرهابية (وفق أجندة أنقرة)، وإقامة منطقة آمنة خالية من داعش، تتمتع بحماية جوية تركية، وحتى تغطية من المدفعية التركية، مع فتح قاعدة إنجرليك أمام الطائرات الأميركية، بما يوفر الكثير من الجهد والمسافات على طائرات التحالف.

لن تسيطر على المنطقة الخالية من داعش قوات الحشد الشعبي الكردية التي ستتوقف عن كونها رأس الحربة، أو قوات الطليعة البرية ضد داعش، بل ستدافع عن مناطقها، كما ستواجه بقية السوريين من عرب وتركمان التنظيمَ، وستكون السيطرة والقيادة الفعلية للجيش الحر، الذي لن يسمح لأية أفكار انفصالية بالمرور، كما لن يسمح للنظام بالاستفادة أو تحقيق المكاسب السياسية من الحرب الدولية والإقليمية ضد داعش. وستسمح المنطقة الآمنة كذلك بإقامة مخيمات لاستقبال اللاجئين، كما سيتم التفكير، فيما بعد، في نقل مخيمات اللاجئين المقامة حالياً في الأراضي التركية إليها.

لن يمنع التفاهم، أو حل الوسط الأميركي التركي، أنقرة من مواصلة مساعيها الإقليمية مع الرياض والدوحة لإسقاط نظام بشار الأسد، أو لإجباره على قبول إعلان جنيف نصاً، حيث لا مكان له وعائلته ومساعديه المقربين في أية عملية سياسية، وستواصل دعمها جيش الفتح في إدلب وحلب، بموازاة ما يحققه الجيش نفسه أيضاً في الجنوب، أي درعا ومحيط الشام، في انتظار القرار السياسي الدولي بالتسوية، أو إيجاد وقائع ميدانية، تستعجلها وتفرضها حقيقة واقعة على الأرض.

ربما تدفع تركيا ثمن، بل ربما أثمان، الانخراط الجدي في الحرب ضد داعش، كما التنظيمات الإرهابية الأخرى التي استغلت قتالها التنظيم لشرعنة نفسها، فيما يتعلق بالاستقرار الداخلي والنمو الاقتصادي، أو بعملية التسوية مع الأكراد التي قطعت شوطاً طويلاً قبل أن تتوقف، أو حتى تنهار، تحت وطأة الغطرسة الكردية والاتكاء على المتغيرات الإقليمية، لتحقيق مكاسب سياسية محلية، غير أن السلطات التركية تفهم أن لا مجال لخسران الحرب، وأن تحجيم الأكراد وإجهاض نزعاتهم الانفصالية، شمال سورية، سيجبر أكراد تركيا على العودة إلى رشدهم، والفهم أن لا شريك جديا لهم سوى حزب العدالة والتنمية، وأن الوسائل السياسية السلمية والديمقراطية وحدها قادرة على تحقيق آمالهم، وحقوقهم المشروعة في العدالة، والمساواة، والمواطنة الكاملة.

العربي الجديد

 

 

 

 

دلالات التصعيد التركي الكردي/ خورشيد دلي

المواجهة الجديدة

في الدوافع والرهانات

تداعيات مفتوحة

أسئلة كثيرة تطرح عن الأسباب الحقيقية للمواجهة الجديدة بين تركيا وحزب العمال الكردستاني بعد سنوات من إطلاق عملية السلام بينهما، فالقضية لا تتعلق بتعثر الأخيرة فقط، بل بالدوافع الجديدة للجانبين.

وهي دوافع فرضتها متغيرات الداخل التركي وتداعيات الأزمة السورية والاتفاق النووي الإيراني والصعود الكردي في المنطقة ودخول داعش (تنظيم الدولة الإسلامية) على ساحة الأحداث، وعليه فإن المواجهة الجديدة بين الجانبين تأخذ طابع الرهان على تحقيق مجموعة من الأهداف المتداخلة سياسيا وعسكريا.

المواجهة الجديدة

في سياستها تجاه قضيتها الكردية في الداخل ربما لم تعد تركيا ترى أنها أمام عملية مصالحة مع المكون الكردي الذي تعرض للإنكار والإقصاء طوال العقود الماضية، بل أمام صدام مع حركة كردية عابرة للحدود، تسعى إلى إقامة دولة كردية حركتها المستقبلية تتجه نحو الجغرافية التركية التي ما زالت تستحضر اتفاقية سيفر. ولعل ما زاد من الهواجس التركية بهذا الصدد، عاملان أساسيان:

الأول- سيطرة وحدات حماية الشعب الكردية على مناطق واسعة من شمال شرق سوريا، والسعي إلى الربط الجغرافي بين مناطق الجزيرة وعين العرب (كوباني) وعفرين بعد سيطرتها على مدينة تل أبيض، بما يعني ملامح اكتمال نشوء إقليم كردي جديد على حدودها الجنوبية، يمتد من جبال قنديل على الحدود العراقية الإيرانية التركية إلى البحر المتوسط.

ولعل ما زاد من المخاوف التركية هو إحساس تركيا بأن من يقف وراء هذا المشروع هو عدوها اللدود حزب العمال الكردستاني الذي يتخذ من جبال قنديل مقرا له، ومن هناك يدير التنظيمات التابعة له في سوريا والعراق وتركيا وإيران وأوروبا.

الثاني- وبموازاة هذا التطور الميداني برز تطور سياسي في الداخل التركي، لا يقل أهمية وربما خطورة عن الوضع الميداني على مشروع حزب العدالة والتنمية في الحكم، إذ أدى الانتصار السياسي الذي حققه حزب الشعوب الديمقراطي بحصوله على قرابة 13% من الأصوات في الانتخابات البرلمانية إلى فقدان حزب العدالة أغلبيته البرلمانية، وهو ما شكل ضربة لطموحات الرئيس رجب طيب أردوغان في الانتقال من النظام البرلماني إلى الرئاسي والذي كان يراهن عليه في التطلع إلى تحقيق تركيا جديدة بحلول العام 2023.

ولعل ما زاد من مرارة الموقف التركي، الانفتاح الغربي (الأميركي) على حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي الذي يعد الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، وبروز ما يشبه التحالف الأمني بين الجانبين انطلاقا من الحرب ضد داعش. وقد شكل هذا التحالف نقطة أساسية في انتصار الكرد في معركة عين العرب التي كانت لها تداعيات كبيرة على العلاقات التركية الكردية.

يضاف إلى ما سبق جملة من العوامل الإقليمية والدولية التي وضعت السياسة الخارجية التركية أمام تحديات كثيرة، من أهمها تداعيات الاتفاق النووي الإيراني واحتمال تصاعد النفوذ الإيراني في ساحات الشرق الأوسط ولاسيما في سوريا والعراق ولبنان.

ولعل المفارقة هنا، هي أن تركيا -الحليفة التاريخية للغرب والعضو في الحلف الأطلسي- بدأت ترى في التقارب الأميركي الإيراني تراجعا لدورها في المنظومة الأمنية للحلف لصالح تحالفات إقليمية جديدة في المنطقة. وعليه ربما وجدت تركيا في حرب جديدة ضد الكردستاني والمواجهة مع داعش رهانا لتحقيق جملة من الأهداف الداخلية والإقليمية، غير أن هذا التطلع التركي تقابله لهجة كردية غير مسبوقة لجهة الندية وطرح المطالب وإدارة الصراع بلغة القوة.

في الدوافع والرهانات

جاء التحرك العسكري التركي ضد كل من حزب العمال الكردستاني وتنظيم الدولة في لحظة اتفاق أميركي تركي على وضع قاعدة إنجرليك التركية في خدمة حرب التحالف الدولي ضد داعش مقابل تفهم أميركي ضمني لتحقيق مطلب تركي قديم، وهو إقامة منطقة أمنية عازلة على الحدود السورية وتحديدا في المنطقة الممتدة بين مارع وجرابلس. ومثل هذا الأمر يعبر عن مرحلة جديدة في السياسة التركية والسعي إلى تحقيق جملة من الأهداف، لعل أهمها:

1- وضع حد للخطر الكردي القادم من سوريا عبر منع التواصل الجغرافي بين المناطق الكردية وقطع الطريق أمام إقامة إقليم جغرافي، ولعل هذا ما يفسر التصريحات التركية التي تقول إن خطر الكردستاني أكبر من خطر داعش، إذ إنها ترى في الخطر الكردي خطرا إستراتيجيا ومصيريا، نظرا لأن الأمر يتعلق بمستقبل وبنية وجغرافية الدولة التركية حيث الطموح الكردي إلى إقامة دولة كردية مستقلة شكل هاجسا لتركيا على الدوام، بينما ترى في داعش خطرا مؤقتا.

2- إن تركيا بحصولها على إقرار أميركي ضمني بإقامة منطقة أمنية عازلة ترى أنها حققت أحد أهم شروطها في الانضمام إلى التحالف الدولي في الحرب على داعش، ولعل الأهم لها هنا هو أن تشكل هذه المنطقة منطلقا للمعارضة السورية المسلحة في معركتها لإسقاط النظام السوري والذي يشكل هدفا إستراتيجيا لتركيا.

3- إن معركة الانتخابات البرلمانية التركية حاضرة في مجمل التحرك التركي الجديد، فالرجل (أردوغان) الذي له طموحات كبيرة جامحة لن يقبل بالاستسلام والارتهان لنتائج الانتخابات البرلمانية التي جرت يوم 7 يونيو/حزيران الماضي، وهو يبحث عن ما يشد عصب الناخب التركي في الداخل نحو حزب العدالة والتنمية بغية استعادة الحزب بعض ما فقده من الأصوات، والتطلع إلى نيل أغلبية برلمانية في الانتخابات المبكرة تمكنه من تشكيل الحكومة وحده كي يبقى على أجندته بعيدا عن شروط الأحزاب التركية التي هي في خلافات سياسية كبيرة مع حزب العدالة والتنمية.

4- إن أنقرة في حربها على داعش تأمل إعادة الدفء إلى علاقاتها مع واشنطن بعد أن تراجعت في السنوات الأخيرة على خلفية اختلاف الأولويات بشأن الأزمة السورية والخلافات مع إسرائيل وغيرها من القضايا الإقليمية، ولعلها تراهن على هذه العلاقة في الحد من تداعيات الاتفاق النووي الإيراني إقليميا، خاصة أن تركيا تحس بالمرارة من تراجع وتيرة علاقاتها مع واشنطن مقابل التحسن في علاقات الأخيرة مع طهران التي كانت تصف أميركا بالشيطان الأكبر.

تداعيات مفتوحة

بغض النظر عن هذه الأسباب والدوافع والتطلعات، فإن الحرب التي أعلنتها تركيا ضد حزب العمال الكردستاني وداعش لن تكون دون تداعيات داخلية وإقليمية. دون شك، قد تحقق تركيا نجاحات عسكرية وأمنية ضد داعش وحزب العمال، إلا أنه من الصعوبة الحديث عن تحقيق مكاسب سياسية كبيرة من الحرب ضد الأكراد، بل قد يكون العكس هو المنتظر، خاصة أن التجارب السابقة من الحرب بين الجانبين تؤكد عقم الخيار العسكري.

ولعل أول هذه التداعيات انتهاء عملية السلام الهشة مع حزب العمال الكردستاني وخطر العودة إلى فصل دموي جديد بين الجانبين، لن يكون الداخل التركي بمنأى عنه أمنيا واقتصاديا وسياسيا، خاصة بعد القوة الانتخابية التي أظهرها الأكراد في الداخل والتطورات الدراماتيكية على الحدود مع سوريا والخلايا العسكرية الكثيرة لحزب العمال في الداخل، وهو ما قد يفجر في تركيا عنفا يقضي على الاستقرار ويمنح الجيش حجة للتحرك سياسيا ليصبح المشهد التركي برمته أمام خيارات مجهولة.

وفي التداعيات، قد تحمل التطورات الميدانية معها سيناريوهات خطرة لحزب الشعوب الديمقراطي الكردي تقضي على إنجازاته السياسية، لعل أهمها احتمال انجرار الحزب إلى التورط في العنف على خلفية المواجهة بين الجيش التركي وحزب العمال، وهو ما قد يضعه أمام احتمال الحظر القانوني بحجة دعم الإرهاب، خاصة في ظل الحديث عن وجود خلايا عسكرية وأمنية له بعد تصريح زعيمه صلاح الدين ديمرطاش عن ضرورة لجوء الأكراد إلى الدفاع الذاتي.

ولعل السيناريو الأقل سوءا هنا، هو إفقاده النصر الانتخابي الذي حققه عبر الحيلولة دون حصوله على نسبة 10% في الانتخابات المبكرة إن جرت، فتجير أصواته قانونيا لصالح حزب العدالة والتنمية الذي يطمح إلى مثل هذا السيناريو لاستعادة غالبيته البرلمانية.

في تداعيات هذه الحرب أيضا، أنها أخرجت الاصطفاف بين الأحزاب الكردستانية إلى العلن بما يكشف عن خلافات سياسية وأيدولوجية عميقة، فبقدر ما أظهرت العمليات العسكرية التركية ضد حزب العمال تفهما من رئيس إقليم كردستان العراق مسعود البارزاني وحزبه الديمقراطي الكردستاني، فضلا عن انتقاد واضح لسلوك حزب العمال، فإنها أظهرت رفضا وتنديدا من قبل حزب الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال الطالباني، وهذه معادلة تحمل معها اصطفافات وانقسامات إقليمية لها علاقة بتركيا وإيران، فالدور التركي المؤثر على أربيل يقابله النفوذ الإيراني في السليمانية معقل الطالباني.

وفي التداعيات أيضا، كان من اللافت دعوة واشنطن أنقرة إلى التمييز بين الحرب على حزب العمال والحرب على داعش، وهو ما قد ينبئ بتغير حصل في المفهوم الأميركي لتصنيف حزب العمال في قائمة الإرهاب، والأهم منع تحول حزب الشعوب الديمقراطي الكردي الذي حقق نصرا كبيرا في الانتخابات إلى لاعب في الساحة الداخلية التركية له القدرة على رسم الأبعاد الدستورية والسياسية لتركيا وبنيان نظامها السياسي.

لكن الذي ينبغي قوله هنا، أن الحسابات التركية هذه قد لا تكون دقيقة على صعيد نتائج العملية العسكرية سياسيا، فعلى الأقل لا أحد يستطيع أن يضمن أن لا تزيد الغارات التركية على مواقع حزب العمال من التفاف الأكراد -وخاصة في الداخل التركي- حول الحزب، وبما يساهم في زيادة شعبيته بوصفه حزبا يحارب نظاما يرفض الاعتراف بالحقوق القومية الكردية، وهو ما قد يضع البلاد أمام فصل دموي جديد بعدما استبشر الجميع بعملية سلام تحقق الهوية للأكراد والاستقرار لتركيا.

الجزيرة نت

 

 

 

 

واشنطن وأنقرة: توافق بعد خلاف!/ أكرم البني

ما الجديد الذي حصل وشجّع أنقرة على التحرّك جدياً لردم الخلافات مع إدارة أوباما وإظهار استعدادها للتقارب مع سياسة واشنطن في الحرب ضد «داعش»؟ وكي تبدأ بالمشاركة في توجيه ضربات جوية ضد مواقعه المتقدّمة شمال سورية؟! وكي تفتح قاعدتي أنجرليك وديار بكر أمام قوات التحالف الدولي، ثم تعتقل المئات من أنصار «داعش» وتشدّد رقابتها الحدودية لمنع التحاق الإسلامويين الغربيين بالجماعات الجهادية في سورية والعراق؟

لم يمنع عمق التحالف الاستراتيجي بين واشنطن وأنقرة، وانتماؤهما العريق إلى الحلف الأطلسي، واتساع علاقاتهما الاقتصادية والسياسية، من نشوء خلاف بينهما حول الوضع السوري، تنامى تدريجاً ووصل إلى العلن عبر تصريحات متبادلة كشفت تباعد الرؤى والحسابات، ما يتطلّب لمعالجته تقديم تنازلات متبادلة وإعادة بناء مواقف تعيد الى الأذهان روح التقارب والتوافق.

بدأ الخلاف من تصوُّر تركي يميل إلى تكرار النموذج الليبي في سورية، متوسلاً حظراً جوياً يمنح أنقرة فرصة لإقامة منطقة عازلة تأوي موجات اللاجئين الهاربين من أتون العنف، وهو ما اصطدم برفض أميركي له أسبابه المتعلّقة بسياسة أوباما التسووية، وبتحسّبه من الارتدادات الإقليمية لإطلاق يد تركيا عسكرياً، وتأثير ذلك في مسار المفاوضات مع إيران.

تلاه التباين حول محتوى التغيير المنشود في سورية، حيث تـطالب أنقرة بإزالة السلطة كاملة، بينما تسعى واشنـطن الى خلق توليفة بين بعض النظام والمعارضة يمكنها حماية الدولة والحفاظ على وحدة البلاد وتوجيه الحراب ضد الإرهاب، ما حدا بحكومة أردوغان الى دعم بعض الجماعات السورية القريبة من القاعدة، وتشديد اشتراطاتها المعرقلة لتنفيذ المشروع الأميركي بتدريب مسلّحين يُحسبون على الاعتدال!.

الأولوية لدى واشنطن هي محاربة داعش

وتلاه التعارض في الموقف من تنظيم «داعش»، حيث تحتلّ مواجهته الأولوية لدى واشنطن، بينما تجده أنقرة أداة لمحاصرة خصومها الإقليميين والكرد، ما يفسر إحجامها عن الانضمام إلى التحالف الدولي، ورفض استخدام قاعدة إنجرلك في الحرب عليه، بما في ذلك رد الكرة إلى ملعب الغرب ومطالبته بمنع مواطنيه المشكوك في تشدّدهم الإسلاموي، من السفر إلى تركيا، قبل اتهامها بتقديم تسهيلات لـ «داعش» وتأنيبها على عدم بذل جهود جادة لمنع مرور الجهاديين من أراضيها.

والأهم هو الخلاف حول الموقف من الكرد، بين حماسة أميركية لتسليحهم وتمكينهم، والرهان عليهم كقوات برية موثوقة في إطار الحرب على «داعش»، وبين رفض تركي لهذا الخيار خوفاً من أن يوفر فرصة لقيام كيان كردي ينعم ببعض الاستقلالية على حدود تركيا الجنوبية، ويغدو بؤرة لوجستية تدعم حزب العمال الكردستاني، بخاصة أن محادثات السلام مع زعيمه عبدالله أوجلان لا تزال تراوح في المكان.

لكن ما الجديد الذي حصل وشجّع أنقرة على التحرّك جدياً لردم الخلافات، وإظهار استعدادها للتقارب مع سياسة واشنطن في الحرب ضد «داعش»؟! وكي تبدأ بالمشاركة في توجيه ضربات جوية ضد مواقعه المتقدّمة شمال سورية؟! وكي تفتح قاعدتي أنجرليك وديار بكر أمام قوات التحالف الدولي، ثم تعتقل المئات من أنصار «داعش» وتشدّد رقابتها الحدودية لمنع التحاق الإسلامويين الغربيين بالجماعات الجهادية في سورية والعراق؟!.

أولاً، لا يخطئ من يربط هذا الجديد بالتفجير الذي جرى في منطقة سروج، وتبناه تنظيم «داعش» وذهب ضحيّته العشرات من المواطنين الأتراك، ليبدو الحدث كأنه جرس إنذار يحذّر حكومة أردوغان من خطر الرهان على تنظيمات متطرفة لا تلقي بالاً سوى لتنفيذ أجندتها، ويسهل عليها الانقلاب على رعاتها وداعميها، زاد الطين بلة تعرّض مهمة «داعش» في تحجيم التمدّد الكردي لنكسة كبيرة في معارك تل أبيض والحسكة.

ثانياً، يصيب من يربط التبدّل بنتائج الانتخابات التركية إن لجهة الضعف، الذي أصاب حزب العدالة والتنمية، أو لجهة الوزن اللافت الذي حصل عليه الكرد في البرلمان عبر ممثّلهم حزب الشعوب الديمقراطي، وهو أمر يقلق النخبة التركية عموماً، وربما يوحّد مواقفها في التصدّي لخطر تصاعد المشاعر الانفصالية بين كرد تركيا، تأثراً بارتفاع شعبيتهم وبالرضا الأميركي عنهم وبالانتصارات التي حقّقها أقرانهم في سورية.

ثالثاً، لا يخطئ من يربط تحوّل الموقف التركي بتوقيع الاتفاق النووي بين الدول الكبرى وإيران، حيث ستكون بعض نتائجه الاعتماد على وزن طهران في معالجة ملفات المنطقة ربطاً بنفوذها في سورية والعراق ولبنان واليمن، الأمر الذي يضعف الحاجة إلى أنقرة وربما يخرجها من المعمعة خاسرة، واللافت وعلى رغم الترحيب التركي بتوقيع الاتفاق النووي كبوابة لتدفّق التجارة بين البلدين، ثمة إشارات عدة تظهر تخوّف أنقرة مما يحمله تقارب واشنطن وطهران من احتمالات لتقاسم النفوذ على حسابها.

ماذا قدمت أميركا لقاء تبدّل الموقف التركي؟

لكن، ماذا قدمت أميركا لقاء تبدّل الموقف التركي؟ أيمكن أن نضع في هذه الكفة غضّ نظر واشنطن عن التعبئة الظالمة التي تقوم بها أنقرة ضد القوات الكردية على أنها و «داعش» من طينة إرهابية واحدة؟ أم صمتها عن اعتقالات واسعة طاولت المئات من أنصار حزب العمال الكردستاني في سياق اعتقالاتها لأنصار «داعش»؟! أم يتعلق الأمر بمنح أنقرة ضوءاً أخضر لعمليات عسكرية تطاول القوات الكردية في شمال العراق وربما في سورية؟! أم غضّ النظر عن إقامة جزر أمنية موقتة غرضها تشديد الحصار على «داعش» وقوات الحماية الشعبية على حد سواء، والحؤول دون قيام كيان كردي متّصل؟

ولا يغيّر حدود هذه الجزر ادعاء أنقرة أنها توصّلت مع واشنطن الى اتفاق بإقامة منطقة عازلة، فالأمر لا يتعدى عملياً توفير غطاء لتدخّل تركي محدود يهدف الى طرد «داعش» على امتداد الشريط الحدودي، بينما لا تزال المنطقة العازلة بالمعنى المتعارف عليه، موضع رفض شديد، إقليمياً وعالمياً، ومحفوفة بأخطار وتداعيات قد تؤجج النار وتهدّد استقرار المنطقة برمتها.

والحال، يبدو أن حكومة أردوغان أدركت بحسّها البراغماتي المرهف، أن مأزقها سيزداد حدة طالما تهادن «داعش»، وطالما ثمة روائح لا تزال تنتشر عن دورها الخفي في تمكين القوى الجهادية وتوظيفها لخدمة مآربها، والمخرج هو تعديل سياساتها نحو التعاون مع التحالف الدولي والاحتماء بمظلّته، لضبط التمدّد الكردي ومحاصرة قدراته على هزّ استقرارها، ولحفظ ما حصّلته من نفوذ إقليمي وتخفيف مثالب ما قد تفرزه التوافقات الجديدة، وربما لمنع صدام محتمل بينها وبين الجيش سيزيد من انحسار شعبيّتها بينما تتّجه البلاد نحو انتخابات عامة مبكرة.

الحياة

 

 

هل آن الأوان في قضية السوريين؟/ فايز سارة

يسود مستوى من التشوش حول قضية السوريين في اللحظة الراهنة، ومصدر التشوش ضعف في تحليل الوقائع الحالية على الأرض من جهة، وتفسير مجريات الحراك السياسي الإقليمي والدولي الحالي حول سوريا وقضيتها من جهة أخرى. وفي الحالتين، فإن قلة من المعلومات والمعطيات، يتم تداولها في المستويين السياسي والإعلامي لدى الأوساط المهتمة بالقضية السورية والمتصلة بها، مما يضفي على التشوش أبعادًا أخرى، ناجمة عن عدم المعرفة من جهة، وعدم القدرة على تفسير الوقائع من جهة ثانية.

إن الأبرز في التطورات الحالية في محيط القضية السورية وعلى أرضها، هو الدخول التركي الكثيف على الموضوع السوري الذي يمكن ملاحظته في ثلاث نقاط أساسية؛ أولاها، إعلان تركيا الحرب على التطرف والإرهاب في سوريا وامتداداته في تركيا، وهي حرب تشمل «داعش» وحزب العمال الكردستاني (pkk) وفرعه السوري حزب الاتحاد الديمقراطي (pyd) اللذين تصفهما تركيا بمنظمات إرهابية، وقد لجأت تركيا للذهاب إلى مواجهة سياسية وعسكرية معهم مباشرة عبر عمليات عسكرية ضد «داعش» في سوريا وضد (pkk) في العراق، وهو ما ترافق مع حملات أمنية واسعة ضد تنظيمات التطرف والإرهاب في تركيا، وتلك التي لها امتدادات في سوريا.

والنقطة الثانية، سعي تركيا إلى إقامة منطقة آمنة في الأراضي السورية تحت ثلاث فرضيات؛ أولاها طرد ميليشيات «داعش» من المنطقة والقضاء على وجودها هناك، وتأمين منطقة عازلة بين وجود قوات الحماية الشعبية الكردية وعمادها أنصار حزب الاتحاد الديمقراطي (pyd) في عين العرب – كوباني، وهدفها المرتقب مدينة عفرين لمنع سيطرة كردية ممتدة، تعتقد تركيا، أنها تجسد مشروعًا لكيان كردي معادٍ، مجاور لحدودها في سوريا، كما ستوفر المنطقة الآمنة من وجهة النظر التركية مكانًا يمكن نقل جزء أساسي، يصل إلى أكثر من مليون ونصف لاجئ سوري من المقيمين فيها، وهي بهذا تعيدهم إلى بلدهم من جهة، وتكون في حل من أعباء وجودهم في تركيا.

والنقطة الثالثة، يجسدها سعي تركي إلى إعادة ترتيب أوضاع التشكيلات العسكرية الإسلامية في منطقة شمال سوريا، وجعلها أقرب إلى القبول الدولي، خصوصًا أن بين هذه التشكيلات جبهة النصرة المصنفة في عداد المنظمات الإرهابية المتطرفة، ولأن الأخيرة عجزت عن القيام بتحولات تخرجها من القائمة، فإن تشكيلات أخرى بينها حركة أحرار الشام، قامت بخطوات سياسية وتنظيمية لإبعاد أي صفة تطرف وإرهاب عن نفسها، وهو ما يمكن أن تذهب إليه جماعات أخرى، وسوف يوفر هذا المسعى لتغييرات مهمة في توازنات القوى العسكرية في الشمال من الناحية السياسية بجعلها تشكيلات «معتدلة»؛ مما يعطيها دورًا مختلفًا في الصراع السوري ومستقبله.

ولا يمكن رؤية التطور التركي بصورة منعزلة عن الحراك السياسي الإقليمي والدولي، لأن لتركيا شركاء، لا يمكن لأنقرة التصرف بعيدًا عنهم، وهو ما يمكن رؤية تعبيراته في الاتفاق الأخير بين تركيا وواشنطن حول الحرب التركية على الإرهاب، وللنسق نفسه ينتمي اجتماع حلف الناتو في بروكسل الذي جمع تركيا مع حلفائها الغربيين، وقد أكد في ختام اجتماعه دعم الموقف التركي بقوة في الحرب على الإرهاب.

والخط الموازي للتطورات العملية الحالية في الشمال السوري وحوله، يبدو في حركة دبلوماسية إقليمية ودولية نشطة، بعضها يجري في الظاهر، وآخر في الخفاء، حيث زيارات ولقاءات واجتماعات، متواصلة للبحث في القضية السورية وفي القضايا المتصلة بها والقريبة منها، وكان في عداد تلك التحركات جولات المبعوث الدولي دي ميستورا الذي قدم تقريره للأمم المتحدة وفيه خلاصات رأيه حول القضية السورية وافق حلها، وزيارة وزير الخارجية الإيراني إلى بعض بلدان الخليج، ليشرح مواقف وسياسات طهران، وكذلك زيارات وزير الخارجية السعودي إلى بعض العواصم ومثله وزير الخارجية المصري.

وإذا كان من الصحيح، أن موضوعات مختلفة أغلبها يتعلق بشؤون المنطقة، يتم بحثها في المحادثات والاتصالات، فلا شك أن الموضوع السوري أبرزها، وتفاصيله ومسار علاجه هو الأهم، مع تركيز خاص على فكرة الحل السياسي، التي شغلت أوساطًا واسعة في المعارضة السورية في الأشهر القليلة الماضية، على نحو ما ظهر في مؤتمر القاهرة للحل السياسي وفي لقاء الائتلاف الوطني مع هيئة التنسيق في بروكسل، وكلاهما وجد اهتمامًا وتأييدًا واسعين في المجالين الإقليمي والدولي.

ومما لا شك فيه، أن ربط التطورات الميدانية الحالية في سوريا وحولها مع الحركة الدبلوماسية والسياسية الإقليمية والدولية، إنما تؤكد وجود إحساس واسع لدى القوى الفاعلة والمؤثرة والمهتمة، بأن القضية السورية آن أوانها، أو على الأقل، أنه بات من الضروري وضعها على سكة حل، تضع حدًا للكارثة السورية في كل أبعادها الداخلية والخارجية، لأن السوريين لم يتعبوا وحدهم، إنما كل من في جوارهم والأبعد منهم، وكلهم صاروا في وضع ينذر بعواقب خطيرة ناتجة عن تصاعد الإرهاب وتدهور متزايد للأوضاع الأمنية، وتوسع في مدى وأعماق الكارثة الإنسانية على كل المستويات.

الشرق الأوسط

 

 

 

لمحة تاريخية موجزة عن التهديدات التركية لغزو سوريا

يبدو أنه لا أحد، بما في ذلك الحكومة في أنقرة، واضحًا تمامًا في موقفه بشأن ما هي نهاية اللعبة التركية في سوريا. وسرعان ما حدث تناقض في التقارير الأخيرة حول الاتفاق بين الولايات المتحدة وتركيا بشأن إقامة “منطقة آمنة” على طول الحدود التركية، في حين أن مصطلحات مثل “المنطقة العازلة” و”المنطقة الأمنية” بدأت تظهر الآن. ومع حرص أنقرة على إقامة منطقة خاصة في سوريا؛ فقد تكون هذه لحظة جيدة لمراجعة تاريخ تركيا في التهديد بضرب جارتها الجنوبية، والنظر إلى أي مدى عملت تلك التهديدات في صالح تركيا.

في مناسبات عدة، أبرزها في عام 1937 وعام 1998، اكتشفت الحكومة التركية مدى فعّاليتها لاستعراض قوتها العسكرية على طول حدودها الجنوبية دون غزو كامل. في الواقع، فإنّ نجاح الحملات التركية السابقة قد جعل نهجًا مماثلًا يبدو جذابًا لصنّاع القرار في أنقرة الذين يحاولون تقرير ما يجب القيام به اليوم. ولكنّ مراجعة هذا التاريخ تشير إلى أنّه في غياب استراتيجية سياسية أو دبلوماسية متماسكة للمنطقة؛ تفشل تهديدات شنّ الحرب على سوريا في تحقيق الأمن الدائم والاستقرار داخل تركيا.

تمتد جذور علاقات تركيا الكارثية مع سوريا في مقاطعة هاتاي، وهي منطقة جميلة تشتهر بتاريخها المسيحي والمأكولات الرائعة قبل الحرب الأهلية السورية. بعد هزيمة الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى، كانت تلك المقاطعة، المعروفة آنذاك باسم سنجق الإسكندرون، خاضعة للسيطرة الفرنسية كجزء من الوصاية السورية. وبعد تأسيس أتاتورك الجمهورية التركية الحديثة في عام 1923، أصبحت هاتاي “المحررة” مصدر فخر واعتزاز وطني وشخصي. وعندما توقفت المفاوضات الثنائية في باريس بشأن مصير الإقليم في عام 1936، انطلق أتاتورك على متن القطار متجهًا نحو الحدود السورية، مهددًا بـ”التنازل عن منصبه وقيادة الجيش في السنجق بنفسه إذا لم يتم تقرير مصيره بطريقة تتفق مع شرف تركيا. كما قدّمت حكومة أتاتورك دعمًا سريًا لعصابات الحرب القومية التركية التي تخطط التمرد ضد الفرنسيين. ثم في عام 1937، وعلى النحو المفصل في كتاب سارة شيلد الرائع (طرابيش في نهر)، وسلك الطريق مرة أخرى لإثبات الحاجة الملحة لمطالب تركيا“. وفي المدن والقواعد العسكرية على طول الحدود، استعرض الرئيس جنوده؛ على أمل أن يترك الفرنسيين مع عدم وجود شك بداخلهم على استعداده لتسوية تلك القضية بالقوة.

المعركة ضد ولاية فرنسا على سوريا انتهت عشية الحرب العالمية الثانية، عندما وافقت فرنسا، وسط ضعف موقفها الاستراتيجي في أوروبا، على مطالب تركيا وأعادت هاتاي إلى السيطرة التركية. لقد ضمنت دبلوماسية الصبر واستعراض القوة في الوقت المناسب لتركيا مقاطعة جديدة ذات قيمة كبيرة، ثم حظيت الحكومة بولاء شعبها بعد عقود قليلة. في الواقع، كان الثمن الوحيد الذي دفعته أنقرة مقابل مكسبها الجديد هو عداء سوري استمر لنصف قرن.

واصل السوريون المطالبة بأحقيتهم في السيطرة على هاتاي؛ مما أدى إلى العديد من مشاكل خلال الحرب الباردة. لم يساعد القوميون الأتراك في إصلاح الأمور في خمسينيات القرن المنصرم عندما ردوا على الوحدويّة السورية من خلال الإشارة إلى أنهم لا يمانعون الحصول على مدينة حلب السورية، أيضًا. لقد ساعدت التوترات التركية السورية أثناء هذه الفترة على دفع دمشق نحو الاتحاد السوفيتي؛ مما مهد الطريق لتهديد آخر بالغزو التركي. وعندما بدا أنّ دمشق تنحرف بعيدًا في المدار السوفياتي في عام 1957، اقترحت الحكومة التركية بأنّ العملية العسكرية قد تضمن نظامًا سوريًا أكثر وديّة. اعترض دبلوماسيون أمريكيون على تلك الخطة، وأوضحوا أنّه رغم إعجابهم بحماسة مناهضة الشيوعية في تركيا، لكن ليست هناك حاجة لإقصاء العالم العربي من خلال غزو صريح في حين أنه يمكنهم الاستمرار بالتآمر وتخطيط الانقلابات بشكل سري بدلًا من ذلك.

لكنّ السياسة التركية نجحت في استعداء الدول العربية على أية حال. في ثمانينيات القرن الماضي، قاد الاحتكاك المستمر مع سوريا -الذي توسع ليشمل النزاع بشأن تخصيص مياه نهر الفرات- الرئيس السوري آنذاك، حافظ الأسد، لبدء دعمه لحزب العمال الكردستاني، والقوميين الأكراد الذين يشنّون الحرب ضد الدولة التركية. كما زوّد حافظ الأسد حزب العمال الكردستاني بالتدريب والسلاح كوسيلة ضغط ضد الجيش التركي الأكثر قوة، وسمح لزعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان بإقامة منزل له في دمشق. في النهاية، أظهر حافظ الأسد عدم قدرته على انتزاع أيّة تنازلات من تركيا، لكنه اقترب في النهاية أكثر من أسلافه من إثارة غزو تركي حقيقي. في عام 1998، احتشد الجيش التركي مرة أخرى على الحدود السورية، وطالب دمشق بوقف دعمها لحزب العمال الكردستاني. ومع الاعتراف بخطورة التهديد، امتثل الأسد وأخرج الأكراد من البلاد. (بعد وقت قصير من طرده من دمشق، تم اعتقال أوجلان من قِبل القوات الخاصة التركية في كينيا بمساعدة الاستخبارات الأمريكية).

ومع استغلال تركيا لنجاحها من خلال انتهاج حل سلمي للمسألة الكردية، كان من الممكن أن يصبح اعتقال أوجلان عملية تحويلية في العلاقات بين الطرفين. وبدلًا من ذلك، ضاعت فرصة التوصل إلى تسوية عن طريق التفاوض. وفي السجن، أظهر أوجلان استعداده للتعاون؛ حتى إنّ العديد في الجيش التركي أدرك أنّه لا يمكن تدمير حزب العمال الكردستاني بالقوة وحدها. وعلى مدى العقد الماضي، بذل حزب العدالة والتنمية، الحزب الحاكم في تركيا، جهودًا غير مسبوقة لتحقيق السلام مع حزب العمال الكردستاني ولكن لم يكن ملتزمًا تمامًا أو شجاعًا بدرجة كافية لتحقيق النجاح. الحركات الجريئة، مثل تقديم الحقوق الثقافية للأكراد، تغيّرت مع (وبموافقة الولايات المتحدة) هجمات جوية وبرية ضد قواعد حزب العمال الكردستاني في العراق مثل تلك التي حدثت في الأسبوع الماضي.

ولا يزال من غير المؤكد ما هي التدابير التي ستتخذها تركيا للحفاظ على اقتراح إنشاء “منطقة آمنة” في سوريا. حتى الآن، أظهر الجيش التركي نفسه بأنه صوت الاعتدال، في حين يبدو أن الحكومة التركية تفكر في اتخاذ تدابير توسّعية، إن لم يكن غزوًا واسع النطاق. يقدّم التاريخ لتركيا كل الأسباب التي تجعلها قلقة بشأن إنشاء ملاذ آمن لحزب العمال الكردستاني في سوريا، في حين تقدّم التطورات الأخيرة سببًا كافيًا للخوف من تنظيم الدولة الإسلامية. (وفي الوقت نفسه، فإنّ إعادة الوحدة بين نظام الأسد العدائي تبدو أكثر احتمالًا في هذه المرحلة أكثر من عودة الانتداب الفرنسي).

في ثلاثينيات القرن المنصرم، فازت تركيا بمقاطعة هاتاي وخسرت سوريا. في عام 1998، تمكّنت من تخفيف وطأة الحرب الأهلية التي تخاطر الآن باندلاعها مرة أخرى مع تجدد الغضب. إذا كانت أنقرة تأمل اليوم بأن مجموعة من التهديدات والتدخل المحدود من شأنها أن تحل المشاكل الأكثر إلحاحًا في سوريا، فربما تكون محقة. ولكن إذا أثبتت القوة العسكرية فعّاليتها في إحباط المكاسب الكردية أو الجهادية؛ فإنها أثبتت تاريخيًا عدم قدرتها على تحقيق ما استعصى على تركيا تحقيقه منذ فترة طويلة، وهو حدود جنوبية مستقرة وآمنة.

فورين بوليسي

ترجمة: صحيفة التقرير

 

 

هل تخلت الولايات المتحدة عن الأكراد؟

أرسلت تركيا طائرات مقاتلة إلى شمال العراق الأسبوع الماضي لمهاجمة عدو تعتبره تهديدًا خطيرًا على أمنها القومي. ولكنّ الهدف لم يكن تنظيم الدولة الإسلامية. وبدلًا من ذلك، قصفت الطائرات الحربية التركية الميليشيات الكردية في العراق التي حاربت أنقرة لسنوات في محاولة للحصول على حكم ذاتي.

كما قصفت تركيا ميليشيات تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا الأسبوع الماضي. ولكنّ الضربات ضد عصابات حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل في العراق أكّدت معضلة واشنطن في سعيها لجعل تركيا تقاتل ضد الدولة الإسلامية على الرغم من صراع أنقرة الطويل مع الانفصاليين الأكراد.

لقد كانت الولايات المتحدة تدفع تركيا لمدة عام تقريبًا للانضمام إلى الحرب ضد الدولة الإسلامية، ومنذ شهور تم رفض السماح للولايات المتحدة بإطلاق ضربات جوية من قاعدة انجرليك الجوية، بالقرب من الحدود مع سوريا. ولكن الآن، ونتيجة للحصول على تصريح من تركيا لاستخدام القاعدة لشنّ غارات جوية، قد تسمح واشنطن لأنقرة بسحق القوات الوحيدة المتبقية على الأرض والتي أثبتت فعّاليتها ضد تنظيم الدولة الإسلامية.

في حين ترى واشنطن الدولة الإسلامية باعتبارها تهديدًا خطيرًا، من الواضح أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يركز على ملاحقة حزب العمال الكردستاني، الذي أعلن مسؤوليته عن قتل اثنين من ضباط الشرطة التركية في 22 من يوليو الماضي. أدى هذا الهجوم إلى إطلاق الغارات الجوية التركية ضد الحزب في شمال العراق، وأشار إلى أن عملية وقف إطلاق النار التي استمرت لعامين قد انتهت بالفعل.

القادة الأتراك غالبًا ما يتحدثون عن تنظيم الدولة الإسلامية وحزب العمال الكردستاني بعبارات متساوية، وينظرون إلى مكاسب المعركة التي حققها الأكراد السوريون والعراقيون باعتبارها خطرًا محتملًا يمكن أن يشعل مشاعر الانفصاليين بين الأقلية الكردية المضطربة في البلاد. أطلق حزب العمال الكردستاني حملة تمرد منذ 30 عامًا ضد تركيا أسفرت عن مقتل عشرات الآلاف، وحينها وصفت الولايات المتحدة الحزب بأنه منظمة إرهابية.

انكشفت الفجوة بين تركيا والولايات المتحدة في الأيام الأخيرة؛ حيث استخدم المسؤولون لغة مختلفة لوصف الاتفاق الجديد. وقال القادة الأتراك إنّ خطة البلدين هي تشكيل “منطقة آمنة” على طول الشريط البري في شمال سوريا على الحدود مع تركيا.

كما أشار بعض المسؤولين إلى أنّ المنطقة سوف تشبه منطقة حظر جوي. وعلى الرغم من أن تنظيم الدولة الإسلامية لا توجد لديه قوات جوية؛ إلّا أنّ نظام بشار الأسد لديه دفاعات جوية وطائرات حربية يمكن أن تهدد أي منطقة آمنة. في السابق، عارض بعض المسؤولين الأمريكان فكرة إقامة منطقة حظر جوي؛ لأنّ ذلك يعني التزامًا عسكريًا أمريكيًا على نطاق أوسع، وربما يتطلب فتح جبهة ثانية ضد نظام الأسد حتى مع استمرار المعركة ضد تنظيم الدولة الإسلامية.

وكان مسؤولون أمريكيون قد حذّروا من إنشاء المنطقة الآمنة المقترحة التي تصل مساحتها إلى 68 ميلًا، وقالوا إنّ الحكومتين لا زالتا تناقشان كيفية إدارة “المنطقة الحرة” في شمال سوريا وكيف سيتم تأمينها.

كما اعترف مسؤولون أمريكيون أنّ الترتيب المبدئي مع تركيا تميز بالحساسية والتعقيد، وقالوا إنهم يحثون أنقرة على ضبط النفس والمشاركة في السعي إلى التواصل مع حزب العمال الكردستاني لتجنب تقويض هدف أوسع؛ وهو هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية.

وقال مسؤولون آخرون إنّ إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما تدرك قيمة الميليشيات الكردية في سوريا والعراق وتتعهد بعدم التخلي عنها.

إنّ الأكراد السوريين هم شركاء مهمون “حققوا نجاحًا كبيرًا”، وذلك وفقًا لما ذكره مسؤول في الإدارة الأمريكية يوم الثلاثاء الماضي. وأضاف: “نحن لن نتخلى عنهم، ولا نريد أن نرى أي تعقيد في هذا الأمر بأي شكل من الأشكال“.

كما تلقت تركيا عبارات التأييد السياسي من حلفاء الناتو في اجتماع استثنائي عُقد اليوم الثلاثاء، مع ترحيب الدول الأعضاء بقرار البلاد للتحرك بقوة أكبر ضد تنظيم الدولة الإسلامية. لكنّ المسؤولين الأوروبيين يشعرون بالقلق أيضًا من أن أنقرة قد تقلص من حجم القوات الكردية في العراق وسوريا إذا أطلقت العنان لحملة واسعة النطاق ضد حزب العمال الكردستاني.

وبالإضافة إلى ذلك، سعى بريت ماكجورك، نائب المبعوث الرئيس الأمريكي لشؤون التحالف الدولي لمكافحة داعش، إلى التهوين من أثر الضربات الجوية التركية ضد حزب العمال الكردستاني.

وكتب ماكجورك في تغريدة يوم السبت الماضي: “نحن نتطلع إلى تكثيف التعاون مع تركيا وجميع شركائنا في الكفاح العالمي ضد داعش“.

كما جاء في تغريدة أخرى: “لا توجد أي علاقة بين الضربات الجوية ضد حزب العمال الكردستاني والتفاهمات الأخيرة بشأن تكثيف التعاون بين الولايات المتحدة وتركيا ضد داعش”.

أيّد السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام، وهو من أشد منتقدي استراتيجية أوباما لشؤون الحرب، فكرة إنشاء المنطقة الآمنة المقترحة ولكنه أعرب عن قلقه إزاء التقارير التي زعمت بأنّ القوات التركية هاجمت الأكراد السوريين.

وقال غراهام في بيان له: “أحد أكبر مخاوفي هو أن سوء تعامل أوباما مع الوضع السوري سيشعل التوترات الإقليمية ويزيد من نطاق الصراع. كما أنّ الصراع بين تركيا والأكراد يصب في مصلحة داعش والأسد ويغرق المنطقة في حالة من الفوضى. وهذا الأمر يضعف أمننا القومي“.

في كثير من الأحيان يستشهد بعض المسؤولين في الجيش الأمريكي بالقوات الكردية باعتبارها نموذجًا للنجاح في الحملة المتعثرة ضد تنظيم الدولة الإسلامية.

لقد فقد الجيش العراقي بعض الأراضي في الغرب وكافح من أجل إبعاد تنظيم الدولة الإسلامية عن مصفاة النفط بيجي شمال غرب بغداد. لكن قوات البشمركة الكردية في شمال العراق والميليشيات الكردية في سوريا تقدمت باطراد، وكانت قادرة على الاستفادة من القوة الجوية بقيادة الولايات المتحدة للمناورة والاستيلاء على الأراضي.

وقال وزير الدفاع الأمريكي أشتون كارتر، في 24 مايو الماضي، إنّ قوات الجيش العراقي التي انسحبت من مدينة الرمادي الغربية في وقت سابق من هذا العام كانت تفتقر إلى “إرادة القتال”. وبعد الانتصارات الأخيرة التي حققتها القوات الكردية في شمال شرق سوريا، قال المتحدث باسم وزارة الدفاع الكولونيل ستيف وارن، في يونيو الماضي، إنّ النتيجة أظهرت ما يمكن تحقيقه عن طريق القوة الجوية لقوات التحالف إلى جانب “القوات البرية القادرة والراغبة في القتال”.

ويأمل المسؤولون الأمريكان في أنّ المنطقة العازلة المقترحة على طول الحدود الشمالية لسوريا قد تخنق خطوط الإمداد المتبقية لتنظيم الدولة الإسلامية التي تمر عبر المدن السورية، من دابق وجرابلس.

وقال مسؤول كبير في الإدارة الأمريكية للصحفيين يوم الثلاثاء: “لقد ناقشنا مع تركيا إمكانية العمل بطريقة منسقة ومع جماعات المعارضة المعتدلة للبدء في إجلاء المساحة المتبقية من الحدود الدولية مع تركيا التي تسيطر عليها داعش“.

وأضاف أنّ: “المنطقة لا تتطلب فرض حظر جوي، ولكن سيتم هذا المشروع بطريقة تهدف إلى إخراج داعش من هذه المنطقة ومن ثم عودة الحياة مرة أخرى“.

وقال مسؤولون آخرون إنّ تمكين الطائرات الأمريكية بدون طيار والطائرات المأهولة للتحليق من قاعدة انجرليك بدلًا من قواعد بعيدة في الخليج سيدعم الحرب الجوية التي تقودها الولايات المتحدة ضد المتشددين، كما تضع الطائرات الحربية بالقرب من الأهداف المحتملة وتسمح لها بالبقاء لفترة أطول فوق الهدف.

ولكنّ وزارة الدفاع الأمريكية ذكرت أنّ الأمر سيستغرق “أسابيع” قبل أن يتم إطلاق الضربات الجوية الأمريكية من الأراضي التركية، ومازال يعمل المسؤولون على التوصل إلى الترتيبات النهائية. وقال المتحدث باسم البنتاغون الكابتن البحري جيف ديفيس للصحافيين يوم الاثنين الماضي إنّ هناك قواعد عديدة تستقبل الطائرات الأمريكية لإطلاق حملات جوية ضد تنظيم الدولة الإسلامية.

وأوضح ديفيس أنّ الولايات المتحدة لم تقدم أي دعم لوجستي أو استخباراتي للضربات التركية على حزب العمال الكردستاني؛ بل تبادلت بعض المعلومات فقط لضمان تنسيق الرحلات الجوية للتحالف على المجال الجوي السوري والعراقي.

وقال بعض الخبراء إنّه على الرغم من أن التهديد المتزايد من تنظيم الدولة الإسلامية قد أثار القلق في أنقرة، لكنّ السياسة الداخلية التركية كانت عاملًا رئيسًا في تحول موقف الحكومة، في ظل حرص أردوغان على تقديم نفسه كرجل يحب العمل من أجل حشد الدعم السياسي.

وقال سوات كينكليوغلو، النائب التركي السابق في حزب العدالة والتنمية، إنّه وسط مخاوف تركيا من قيام دولة كردية مستقلة على حدودها، سوف يُنظر إلى المنطقة العازلة المخطط لها كإجراء وقائي لحماية حدود البلاد.

وأضاف كينكليوغلو، المدير التنفيذي لمركز الاتصالات الاستراتيجية في أنقرة: “الرأي العام التركي حساس تجاه وجود كيان كردي في قيادة الحدود الجنوبية لتركيا. وإذا تم إنشاء المنطقة الآمنة بنجاح، فإنّها ستنهي استمرارية الوضع الراهن بوجود كيان كردي في المستقبل“.

وقال مسؤول سابق في إدارة أوباما إنّ المناقشات حول استخدام قاعدة انجرليك كانت جارية منذ عام 2014. وفي مقابل السماح بشنّ غارات جوية أمريكية من القاعدة، طلبت تركيا إنشاء منطقة آمنة في شمال سوريا.

كما أوضح هذا المسؤول أنّ المناقشات كانت تدور حول القانون الدولي، ودور تركيا في المنطقة الآمنة، وكيف سيتم المحافظة على المنطقة – وهو ما يُطلق عليه المخططون العسكريون “الاستدامة”.

وفي النهاية قال المسؤول: “واحدة من أكبر القضايا هي الاستدامة؛ لأنه بمجرد أن تبدأ لا يمكنك التوقف“.

فورين بوليسي

ترجمة: صحيفة التقرير

 

 

 

 

غموض الاتفاق الأمريكي التركي/ فواز حداد

بعد أيام من المحادثات، وافقت الإدارة الأمريكية على المطالب التركية بإقامة “منطقة آمنة” محمية في شمال سوريا من قبل قوات التحالف، مقابل السماح للطائرات الأمريكية باستخدام قواعدها العسكرية في تركيا لمهاجمة تنظيم “داعش”. وستمتد المنطقة الآمنة 90 كيلومتراً على طول الحدود بين تركيا وسوريا، من بلدة جرابلس لمارع، وبعمق حوالي 50 كيلومتراً، لتصل إلى مشارف حلب.

بدا كأن ما كان أردوغان يطالب به منذ فترة طويلة قد تحقق بخصوص إنشاء “منطقة عازلة”، أو “منطقة حظر جوي”، وإن جرى تمييع التعبير عنهما إلى “منطقة آمنة” الهدف إنشاء ملاذ آمن للنازحين السوريين. التعبير على الرغم من غموضه، بولغ به كثيراً للوهلة الأولى سواء بتأكيده من الجانب التركي، أو بالصمت عنه من الجانب الأمريكي، غير أن الأمريكان سيحاولون توضيحه في تصريحاتهم التالية، ويحيلون المنطقة إلى جزء من خطة لا تزال في مرحلة تطور، لتخدم القوات المعتدلة التي دربوها، إضافة إلى وحدات من الجيش السوري الحر في مناطق خارجة عن سيطرة النظام، للتقليل من خطر دفاعاته الجوية. ثم جرى التراجع عن المفهوم الغامض للمنطقة الآمنة التي ما زالت حبراً على ورق لئلا تغضب الروس والإيرانيين، وخشية أن تؤدي إلى اشتباكات مع الجيش السوري النظامي، على أن يتمّ إخباره بالابتعاد عن المنطقة.

كما أظهر الحلفاء الغربيون قلقهم من الطيران الحربي التركي الذي سرعان ما شن غاراته على حزب العمال الكردستاني المتمركز في شمال العراق و”حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي” السوري المتحالف معه. بحيث بدا أن الأتراك استغلوا الفرصة وهاجموا الأكراد بدلاً من “داعش”، مع أن الأمريكان وافقوا على هجوم الأتراك على الأكراد، مقابل تعاون أردوغان ضد “داعش”، كما أن أردوغان لم يفتح القواعد الجوية أنجرليك وديار بكر أمام الأمريكان لقاء قتال “داعش ” فقط، فالصفقة تتضمن حزب العمال الكردستاني ايضاً.

هذا الادعاء والادعاء المقابل، من المستحيل إثباتهما في ظل اتفاق معتم عليه، خاضع للتكهنات، لكن الوقائع تؤيدهما، الأمريكان قالوا بأنهم سيكونون أكثر تعاطفًا مع مخاوف أنقرة بخصوص الميليشيات الكردية السورية التي تتحرك غربًا وتسيطر على أجزاء كبيرة من الحدود المتاخمة لتركيا. وإذا كان رئيس الوزراء التركي طمأن حلفاءه الغربيين بأن تركيا لن ترسل قوات برية إلى سوريا، فلأنه كان مدركاً أن الاشتباك مع الأكراد و”داعش” معاً يحمل خطراً أكيداً على تركيا بالانهماك في حرب عبر الحدود تجعل السعي لإنشاء منطقة آمنة مستحيلاً، خاصة وأنها تحتاج إلى حماية لا تستطيع تركيا توفيرها لها. كذلك الأمريكان كانوا حازمين لجهة عدم وجود أي خطط لنقل النازحين للمنطقة الآمنة حتى لو وجدت، وتأمين الحماية البرية أو الجوية لهم، إذ لا خطط لنشر قوات برية تركية او أميركية في أي منطقة يقتلع منها تنظيم “داعش”.

هل عاد الاتفاق على تركيا بالفائدة بالنسبة لخلافها مع النظام السوري؟ حسب رئيس الوزراء التركي: “الصفقة مع الولايات المتحدة قد غيّرت اللعبة الإقليمية”. تفكير القيادة التركية الحالية ما زال إسقاط النظام، ولقد تهيأت لها من خلال الصفقة اسقاطه بشكل غير مباشر، من خلال إلغاء مبرر بقائه، بغطاء دولي ــ إقليمي. وذلك بأن تسحب منه ورقة “داعش”، فلا تبقى بيد النظام سوى ورقة الإرهاب الفضفاضة التي يعتبر فيها ارهابياً كل من حمل السلاح ضده أو نشط إغاثيا أو تظاهر أو ساعد، هذا الإرهاب الذي لا يتناول سوى المعارضين المسلحين والناشطين الاغاثيين والسلميين، لن يكون له مصداقية أمام المجتمع الدولي.

بالدرجة الأولى، ما يهم الأتراك من اتفاقهم مع الأمريكان عدم السماح بإقامة دولة كردية على حدودهم الجنوبية في شمال سورية. ثانياً المشاركة في القضاء على “داعش” التي باتت تهدد تركيا. بينما على المدى البعيد، إسقاط النظام.

لذلك كل شيء على حاله بالنسبة للأزمة السورية، بالتالي تقدمت مخاطر التقسيم، وأصبحت قوى الأطراف المقاتلة على عتبة وضع خرائطها وتعيين حدود كل دويلة.

المدن

 

 

 

 

في أبعاد التصعيد التركي ضد الكردستاني و”داعش”/ خورشيد دلي

بعد سنوات من عملية السلام بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني تعود تركيا إلى الفصل الدموي القديم الذي راح ضحيته عشرات الآلاف من الجانبين فضلاً عن تدمير لمئات آلاف القرى والبلدات الكردية.

إطلاق تركيا العنان لغاراتها جاء في ظل متغيرات داخلية وإقليمية، تمثلت في الاتفاق الأميركي– التركي على وضع قاعدة أنجرليك التركية في خدمة التحالف الدولي في حربه ضد داعش في سورية والعراق، مقابل الإقرار الأميركي بإقامة تركيا منطقة أمنية عازلة على الحدود السورية، وهذا الاتفاق الملتبس لم يكن وليد اللحظة بقدر ما كان نتيجة مفاوضات طويلة مارست خلالها واشنطن المزيد من الضغط على أنقرة. وفي التوقيت أيضاً، ينبغي التوقّف عند الاتفاق النووي الإيراني مع الدول الكبرى وتداعيات هذا الاتفاق على القضايا المتفجّرة في المنطقة ولا سيما الأزمة السورية حيث تحس تركيا بأن التقارب الأميركي– الإيراني الحاصل من بوابة النووي سيكون على حساب دورها الإقليمي وتحالفها التاريخي مع واشنطن.

الداوفع أو الأسباب التركية المعلنة لتصعيدها، هي محاربة خطر داعش والصعود الكردي والنظام السوري، فتركيا المتهمة بدعم داعش وجدت نفسها أمام انتقال خطر التنظيم إلى الداخل التركي، خصوصاً بعد سلسلة التفجيرات التي شهدتها المناطق الحدودية، والتي كان أهمها التفجير الذي وقع في مدينة سوروج وأودى بحياة العشرات من الضحايا المدنيين، فضلاً عن هجمات ضد جنود أتراك قام بها التنظيم للمرة الأولى. فيما على الصعيد الكردي باتت تركيا ترى نفسها بعد سيطرة وحدات حماية الشعب الكردية على مدينة تل أبيض أمام إقليم كردي على حدودها الجنوبية، يطمح إلى ربط المناطق الكردية بمنطقة عفرين، ليصبح إقليماً مكتملاً جغرافياً، يمتد من جبال قنديل على الحدود العراقية الإيرانية التركية إلى البحر المتوسط، ولعل ما زاد المخاوف التركية إحساس تركيا بأن من يقف وراء هذا الصعود الكردي في سورية هو عدوها اللدود حزب العمال الكردستاني الذي يتّخذ من جبال قنديل مقراً ومن هناك يدير التنظيمات التابعة له في سورية والعراق وتركيا وإيران وأوروبا. وحقيقة، فإن تركيا باتت تخشى من تحالف أميركي- كردي يتأسس على وقع الحرب ضد داعش، وهو تحالف ترى فيه تركيا تهديداً لها على المدى الاستراتيجي.

أبعد من خطر داعش والأكراد، وجدت تركيا نفسها بعد الاتفاق النووي الإيراني أمام احتمال تصاعد النفوذ الإيراني في ساحات الشرق الأوسط ولاسيما في سورية والعراق واليمن ولبنان، ومثل هذا النفوذ سيكون على حسابها ودورها الإقليمي بشكل أو آخر، ولعل المفارقة هنا، هي أن تركيا الحليفة التاريخية للغرب والعضو في الحلف الأطلسي بدأت ترى في التقارب الأميركي – الإيراني خروج لتركيا من سياق المنظومة الأمنية للحلف الأطلسي لصالح تحالفات إقليمية جديدة في المنطقة. وعليه ربما وجدت تركيا في اتفاقها مع أميركا مدخلاً لتحقيق مجموعة من الأهداف:

1- أهمية استعادة التحالف للعلاقات التركية– الأميركية، وما لهذا للتحالف من أهمية استراتيجية لتركيا تجاه قضايا الشرق الأوسط ولاسيما الأزمة السورية.

2– الحد من خطر داعش والأكراد على الداخل التركي والأمن القومي التركي، وإذا كانت تركيا ترى في داعش خطراً موقتاً، فإنها ترى في الخطر الكردي خطراً استراتيجياً ومصيرياً، نظراً إلى أن الأمر يتعلق بمستقبل الدولة التركية وبنيتها وجغرافيتها، حيث شكل الطموح الكردي إلى إقامة دولة كردية مستقلة هاجساً لتركيا على الدوام.

3- أن تركيا بحصولها على إقرار أميركي بإقامة منطقة أمنية عازلة ترى أنها حققت أحد أهم شروطها في الانضمام إلى التحالف الدولي في الحرب ضد داعش، ولعل الأهم لها هنا، هو أن تشكّل هذه المنطقة منطلقاً للمعارضة السورية المسلّحة في معركتها لإسقاط النظام السوري الذي يشكل هدفاً استراتيجياً لتركيا.

4- ثمة من يرى أن مجمل ما سبق ليس ببعيد من العامل الداخلي التركي المتمثل بالتوجه إلى الانتخابات المبكرة، إذ يرى هؤلاء أن من شأن هذا التصعيد الأمني والعسكري شد عصب الناخب التركي في الداخل نحو حزب العدالة والتنمية الذي يطمح إلى استعادة ما فقده من الأصوات في الانتخابات البرلمانية الأخيرة والتطلع إلى نيل أغلبية برلمانية في الانتخابات المبكرة تمكّنه من تشكيل الحكومة وحده بعد أن تبيّنت صعوبة تشكيل حكومة ائتلافية بسبب تناقض أجندته مع أجندة أحزاب المعارضة.

في الواقع، وبغض النظر عن هذه الأسباب والدوافع، فإن الحرب التي أعلنتها تركيا ضد حزب العمال الكردستاني وداعش لن تكون من دون تداعيات، ولعل أولى هذه التداعيات انتهاء عملية السلام الهشّة مع الأكراد وخطر العودة إلى فصل دموي جديد بين الجانبين لن يكون الداخل التركي بمنأى منه، خاصة في ظل الصعود الكردي، ولعل الحكومة التركية ترى أنها مستعدة لتحمل مرحلة من عدم الاستقرار والتبعات الأمنية والاقتصادية والسياسية لصالح استراتيجية طويلة الأمد، تقوم على منع إقامة تحالف أميركي – كردي بهدف الإبقاء على حزب العمال الكردستاني والتنظيمات التابعة له في دائرة الإرهاب، والأهم منع تحول حزب الشعوب الديموقراطي الكردي، الذي حقق نـصراً كبـيراً في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، لاعباً في الساحة الداخلية التركية له القدرة على رسم الأبعاد الدستورية والسياسية لتركيا وبنيان نظامها السياسي.

لكن الثابت هنا، هو أن الحسابات التُّركية قد لا تكون دقيقة على صعيد نتائج العملية العسكرية سياسياً، فعلى الأقل لا أحد يستطيع أن يضمن ألاّ تزيد الغارات التركية على مواقع «الكردستاني» من التفاف الأكراد في عموم المنطقة حوله، بما يساهم في زيادة شعبيته بوصفه يحارب نظاماً يرفض الاعتراف بالحقوق القومية الكردية.

* كاتب سوري

الحياة

 

 

الحرب التركية على «الكردستاني» هي «استمرار شفاف للسياسة بوسائل أخرى/ بكر صدقي

أخيراً طفح كيل الصبر لدى قيادة اقليم كردستان على حليفها التركي بعد مقتل نحو خمسة مدنيين، في قرية زنكنة، بسبب غارات الطيران التركي على جبال قنديل. مسعود بارزاني الذي كان سارع إلى إدانة اغتيال حزب العمال الكردستاني لشرطيين تركيين «ثأراً لمجزرة سروج»، حمّل الطرفين، الحكومة التركية والعمال الكردستاني، لاحقاً، مسؤولية انهاء وقف إطلاق النار المستمر منذ عامين والعودة إلى التصعيد العسكري، ليصل أخيراً إلى إدانة قتل المدنيين بقنابل الطائرات التركية.

لنلاحظ أن قيادة الاقليم الكردستاني هي الصديق الوحيد المتبقي لتركيا في جوارها الاقليمي، بعدما انتهت سياسة «تصفير المشكلات مع دول الجوار» المسجلة باسم رئيس الوزراء التركي المستقيل أحمد داوود أوغلو، إلى الانهيار التام منذ اندلاع ثورات الربيع العربي. أما الحليف الأمريكي فقد بدأ بتأييد الضربات الجوية التركية ضد مواقع الكردستاني في شمال العراق، لينتقل بعد ذلك إلى دعوة متزامنة للكردستاني إلى وقف العنف، وللحكومة التركية إلى الاكتفاء باستخدام «متكافئ» للقوة. بالمقابل كان الأمريكيون واضحين في مواصلة دعمهم للفرع السوري للكردستاني (PYD) وذراعه المسلحة المعروفة بوحدات حماية الشعب، في صراعهما ضد داعش، انطلاقاً من قاعدة انجرليك التركية بالذات، مكذبين ما قاله وزير الخارجية التركي مولود شاويش أوغلو بهذا الخصوص.

الخلاصة أن التأييد الذي حظيت به الحكومة التركية من حلفائها في بداية «حربها على الإرهاب» أخذ يتآكل بسرعة بعدما اتضح أن هدف هذه الحرب هو العمال الكردستاني وليس تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وأنها تجاوزت الرد المحدود على اغتيال الشرطيين إلى حرب شاملة على الكرد والسياسة الكردية بصورة عامة.

فالحرب الجوية التي يشنها الطيران التركي على مواقع الحزب الكردستاني في شمال العراق، تكملها حملة سياسية ـ أمنية – إعلامية ضد الممثل السياسي للكرد في البرلمان التركي المعروف باسم حزب الشعوب الديمقراطي (HDP). حملة الاعتقالات الكبيرة التي يشنها جهاز مكافحة الإرهاب في الشرطة التركية، وقالت الحكومة إنها موجهة ضد كل من داعش وpkk ومنظمة يسارية متطرفة معاً، شملت أكثر من 1300 شخص، منهم 143 فقط متهمين بعلاقتهم بداعش مقابل غالبية ساحقة من أنصار «الشعوب الديمقراطي». ويشن الإعلام الموالي لرئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان حملةً كبيرة على الحزب السياسي الكردي ورئيسه صلاح الدين دمرتاش بدعوى «تأييدهما للإرهاب»، في حين يتم العمل على مشروع لنزع الحصانة البرلمانية عن دمرتاش ونواب آخرين للحزب تمهيداً لتجريمهم وتجريم الحزب من خلالهم، وصولاً، ربما، إلى حل الحزب بقرار قضائي إذا أمكن.

بالمقابل، لا يمر يوم إلا ويسجل فيه تنفيذ عمل عسكري أو أكثر للعمال الكردستاني ضد أهداف عسكرية وأمنية، في مناطق الجنوب والجنوب الشرقي من الأناضول بصورة خاصة حيث الغالبية السكانية الكردية، بما في ذلك عمليات انتحارية. لماذا عادت تركيا إلى أجواء الحرب الداخلية كما في تسعينات القرن الماضي، بعد سنوات من الهدوء النسبي، وسنتين كاملتين من وقف إطلاق النار في إطار ما سمي بمسار الحل السلمي؟

من جهة الرئيس أردوغان والحكومة التركية، يمكن الحديث عن سببين، داخلي وخارجي. أما السبب الداخلي فهو نتائج الانتخابات العامة التي أجريت في السابع من شهر حزيران / يونيو الماضي وفقد فيها حزب العدالة والتنمية الحاكم الغالبية المطلقة التي تخوله تشكيل حكومة بمفرده. وكان السبب الرئيسي لفقدان الحزب الغالبية هو نجاح حزب الشعوب الديمقراطي في تجاوز حاجز العشرة في المئة ودخوله البرلمان بثمانين نائباً. خاصةً وأن الشعار ـ الوعيد الذي أطلقه دمرتاش، أثناء الحملة الانتخابية، كان بصدد عدم تمكين أردوغان من تغيير النظام السياسي إلى نظام رئاسي، وقد أكسبه ذلك الكثير من أصوات الناخبين الأتراك، من ديمقراطيين وليبراليين وعلمانيين، ممن يريدون التخلص من الحكم المديد لأردوغان وحزبه الإسلامي بأي ثمن. وهو ما لن يغفره له أردوغان، وسيؤدي إلى هذه الحملة الكبيرة ضده بالذات في إطار الحملة الشاملة على الحزب الكردي.

غير أن الأمر لا يتعلق فقط بمجرد الانتقام، بل يتعداه إلى خطة عملية متكاملة للذهاب إلى انتخابات مبكرة يأمل فيها أردوغان فوز «العدالة والتنمية» بنسبة أعلى من الأصوات تمكنه من تشكيل الحكومة على الأقل، إن لم تمكنه أيضاً من تغيير النظام السياسي. ولهذا السبب، كان الغزل يدور بحرارة بين الحزب الحاكم والحزب القومي المتطرف بقيادة دولت بهتشلي، في الوقت الذي تستمر فيه المفاوضات مع حزب الشعب الجمهوري على تشكيل حكومة ائتلافية. إن تخلي السلطة عن الحل السلمي وإطلاق حرب على «الكردستاني» وحملة أمنية وسياسية على «الشعوب الديمقراطي» هي مما يسر الحزب القومي المتشدد ويرضي حماسته الشوفينية ضد الكرد.

كذلك هي حال الشائعات الافتراضية الدائرة حول «المنطقة الآمنة» التي من المفترض أن تقطع الشريط الحدودي الكردي في سوريا بين منطقتي كوباني وعفرين، في إطار صفقة إنجرليك مع الأمريكيين. كل هذه المستجدات في موقف الحكومة التركية مما يرضي التيار القومي المتشدد من جهة والمؤسسة العسكرية، بعد تغييبها مطولاً، من جهة ثانية. ينطبق على الحكومة التركية هنا ذلك المثل القائل «يشير إلى اليمين، وينعطف يساراً». فهي تتفاوض مع الحزب العلماني وتغازل الحزب القومي الذي بات يصوت في البرلمان دائماً مع نواب الحزب الحاكم في الاتجاه نفسه. والغاية المزدوجة من ذلك هي كسب أصوات من ناخبي الحزب القومي لمصلحة الحزب الحاكم، من جهة أولى، وعدم تمكين إنشاء حكومة ائتلافية مع الشعب الجمهوري، من جهة ثانية.

أما السبب الخارجي الذي دفع الحكومة إلى شن هذه الحرب، فهو يتعلق بمواجهة التحالف غير الرسمي بين الولايات المتحدة وحزب الاتحاد الديمقراطي الذي قام بمناسبة معركة كوباني. وهي نفسها المناسبة التي بلغت فيها العلاقات الأمريكية ـ التركية مستوى الحضيض. من هذا المنظور يبدو حزب العمال الكردستاني، باغتياله للشرطيين، وكأنه أعطى الذريعة المناسبة لشن الحرب التركية عليه. فلماذا فعل ذلك وهو الحزب المعروف ببراغماتيته ومرونته الشديدة؟

تتحدث تحليلات مراقبين متعاطفين مع القضية الكردية في تركيا عن وجود جناح «صقور» داخل قيادة الكردستاني رأى في الصعود اللافت لحزب الشعوب الديمقراطي في الانتخابات العامة، كما في الرأي العام التركي، خطراً يتهدد مصالحه، فأراد أن يضعف من نفوذه الإيجابي بحشره بين خيارات مرة ليس بينها خيار إيجابي: فإما أن يدين إرهاب «الكردستاني» كما تطالبه الحكومة كل يوم، فيصطدم بالحزب المسلح ويخسر قسماً من التأييد الشعبي الكردي، أو يبرر هذا الإرهاب فيخسر الكثير من جمهوره الجديد التواق إلى السلام من أتراك وكرد. ولا يخلو الأمر من تحليلات، في الإعلام، تلمّح إلى اختراق أمني محتمل لـ»الدولة العميقة» في جسم الحزب الكردستاني، هو المسؤول عن عملية اغتيال الشرطيين التي قلبت كل شيء رأساً على عقب في المشهد السياسي المضطرب في تركيا.

 

٭ كاتب سوري

القدس العربي

 

 

 

الاتفاق الأمريكي ـ التركي وانتصار استراتيجية أوباما… تأطير القوى الإقليمية وحصار الحرب السورية/ صادق أبو حامد

لم تدم الفرحة التي قابل بها الكثير من السوريين الإعلان عن اتفاق تركي ـ أمريكي، إذ سرعان ما انكشفت محدوديته، وخلوه من أي التزامات أمريكية، روّج لها الأتراك، تخص المأساة السورية.

إلا أن المعاني التي يحملها الاتفاق ضمن المشهد الإقليمي تتجاوز الشمال السوري، وربما تحدد مصير الإقليم في السنوات المقبلة، فما تم التوافق عليه يؤكد من جهة أن ما يعني واشنطن في سوريا هو فقط محاربة «داعش»، ويشير من جهة أخرى إلى أن الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة عموماً، وفي سوريا على وجه الخصوص، تشارف على الاكتمال لجهة تحييد الأزمة السورية، وإعادة ترتيب المنطقة لمرحلة ما بعد «الربيع العربي».

لكلٍّ حصته من الحرب

ولأمريكا ضبط النيران

عندما وقع الانفجار المباغت لثورات «الربيع العربي»، لم تكن لدى الإدارة الأمريكية أي استراتيجيات واضحة للتعامل مع هذا المنعطف التاريخي المفاجئ، لذلك اقتصرت في متابعتها على بعض الدعوات الشعاراتية العامة للديمقراطية وحرية التعبير، ولم تكن لدى باراك أوباما، الذي فاز في الانتخابات بخطابات معادية للحرب، ومهتمة بتضميد الجراح التي خلفتها الغوغائية العسكرية لسلفه جورج بوش الابن، ومعنية بالتوجه إلى الداخل لدعم وتنشيط الاقتصاد الأمريكي، لم تكن لدى هذا الرئيس رغبة باعتماد أسلوب سلفه العسكري، وكانت ليبيا الاستثناء الوحيد الذي وقع بتوافق، وربما إلحاح، أوروبي ـ عربي، لكن ما أن تم إسقاط القذافي، حتى سارعت واشنطن إلى الانسحاب من المشهد العسكري، في إطار اختيار استراتيجي بالابتعاد عن الانفجارات، ومن ثم الفوضى، التي خلقها الصراع المرير بين زخم ثوري خارج الأطر الحزبية والتنظيرية، وبين استبداد متجذر عسكرياً وأمنياً واقتصادياً. التراجع الكبير للحضور الأمريكي، وسعي إدارة أوباما الحثيث لتجنب أي انخراط عسكري جديد، خلّف فراغاً قلقاً في الإقليم. قلق استطاعت الإدارة الأمريكية تنظيمه، بدون أن تعالجه، من خلال سلسلة من التفاهمات المنفصلة مع القوى الإقليمية، وهو ما ضمن لواشنطن أن تحول دون انفجار صراعات مباشرة بين هذه القوى، جاعلة همها ضبط شرر الحرائق بدون إطفائها، فتركت للقوى الإقليمية أن تحمي نفسها من دومينو الفوضى من خلال حروب تشغلها بدون أن تكسر استقرارها.

في هذا السياق يمكن إدراج الاتفاق الأمريكي ـ التركي، وقبله الاتفاق الأمريكي ـ الإيراني، وكذلك التفاهمات الأمريكية السعودية، إضافة إلى التفاهم مع مصر، الذي بدأت بموجبه واشنطن استعادة علاقاتها السابقة مع القاهرة، بدون أن نغفل بالطبع التنسيق والتفاهم المستمر بين واشنطن وتل أبيب. ويبدو أن أوباما استطاع أن يفرز المشهد المعقد والمتشابك للصراعات في الإقليم، موزعاً حصة من الحرب والاستنزاف على كل طرف، بما يضمن إشغاله في المدى القريب والمتوسط.

وفق هذه الرؤية، يبدو الاتفاق الأمريكي ـ التركي بمثابة ختام لسلسلة التفاهمات تلك. اتفاق يرضى بموجبه أردوغان، الذي يسعى إلى الانتصار الانتخابي، وجمع أكبر قدر من السلطات في يده، بأن يصطف خلف الولايات المتحدة في حربها الهادئة ضد «داعش»، فيما تُمنح أنقرة حصتها من الحرب ضد مسلحي وناشطي حزب العمال الكردستاني في تركيا وسوريا والعراق معاً. وعلى المنوال ذاته نجد إيران الباحثة عن استعادة قوامها الاقتصادي بعد الاتفاق النووي، مشغولة بالعراق حصتها الأثمن والأخطر، الذي يعيش حرباً مستمرة، بينما تكمل دعمها الاقتصادي والعسكري والسياسي لنظام الأسد، للحيلولة دون انقلاب سوريا عليها، بعد أن أدركت استحالة استعادتها إلى الموقع القديم. فيما تغرق السعودية، وبعض دول الخليج من ورائها، في مستنقع الحرب اليمنية. الحرب التي ثبت منذ يومها الأول أنها صعبة ومعقدة، لكنها أظهرت أيضاً وجود اعتراف أمريكي، بل إيراني أيضاً، بأن اليمن منطقة نفوذ سعودية، ولعل الأصح أن نقول إنها حصة السعودية من حروب المنطقة. وهي حصة مكلفة ومنهِكة يصعب معها توقع تحرك سعودي «حازم» في الملف السوري. أما مصر المنهكة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، فهي مشغولة بحربين، واحدة في شرقها (سيناء)، وأخرى في غربها (ليبيا)، وتبدو عاجزة عن لعب أي دور محوري في الإقليم.

إسرائيل أيضاً لا تبدو خارج المعادلة الأمريكية الجديدة، صحيح أن الضمانات الأمريكية لأمن وسلامة إسرائيل ثابتة، إلا أن التغييرات العنيفة التي تحدث حولها، والمخاطر التي تعيشها حدودها، أمام فوضى السلاح التي تحيط بها، تتركها في حالة مستمرة من التأهب، وتحول دون قدرتها على التحرك بأي اتجاه سوى المراوحة في المكان، واجترار الخطابات القديمة. فيما يمثل الاتفاق النووي مع إيران المزيد من التقييد لحضورها في المنطقة، خاصة أن خطر أذرع إيران لم ينته بعد، رغم غرق حزب الله في دماء السوريين، في الوقت الذي سُحبت منها الورقة، التي طالما هددت بها، بضرب الصناعة النووية الإيرانية، فالاتفاق العالمي، بزخمه ورعايته من قبل الدول الست الكبرى، بل تسابق هذه الدول على نيل نصيبها من الكعكة، أغلق هذا الاحتمال، في المدى المنظور على الأقل.

سوريا حلبة حرب مسوّرة بالمصدّات

منذ ما قبل الاتفاق النووي مع إيران، ظهرت تصريحات أمريكية واضحة تتحدث عن الخشية من الانهيار المفاجئ لنظام الأسد، وعدم الرغبة بسيناريو كهذا، أو الاستعداد له، فهو يهدد بإدخال المنطقة في المزيد من الفوضى المدمرة، وقد يفسح المجال لامتداد سيطرة «داعش» أو «جبهة النصرة» على مقاليد الحكم في سوريا. لم يُعر الأمريكيون أهمية طبعاً لدورهم في وصول سوريا إلى هذا المأزق، إذ جلّ ما يعني واشنطن أن سياستها الثابتة في حصر الأزمة السورية وتحييدها عن بقية الملفات، توشك أن تكمل فصولها. فبعد أن ركزت جهودها في منع أي جهة مسلحة داخل سورية من امتلاك التفوق النوعي، ما يعني منع إمكانية الحسم لصالح أي طرف، تكاد تنجح اليوم في حصر الأزمة في حدود داخل الحدود السورية، من خلال بناء أشرطة حدودية عسكرية، وربما مدنية لاستيعاب أزمة اللاجئين التي باتت تقلق دول الجوار وأوروبا، ما يقي هذه الدول من الانفجار السوري، ويمنع «داعش» من التمدد خارج عمق الجغرافيا السورية ـ العراقية.

تركت الولايات المتحدة إذن لتركيا أن تجهز مناطق «آمنة» في الشمال السوري، تطرد منها «داعش»، وتحد من طموحات حزب العمال الكردستان، بالاستناد إلى الفصائل السورية المسلحة الموالية لتركيا. وتركت للأردن وإسرائيل أن ينظما الجنوب السوري بهدوء، وليس من المستبعد أن يتم التوافق على منطقة «آمنة» تتحكم بها الأردن، بتنسيق مباشر مع إسرائيل والولايات المتحدة، منطقة هي بالأحرى شريط حدودي لدرء الخطر، وكما في الجبهات الأخرى سيكون العبء الأثقل عسكرياً على المعارضة السورية المرتبطة والمرهونة بالدعم الأردني. فيما تُرك لحزب الله أن يمهد بدوره شريطه الحدودي مع سوريا، لكنه مازال عاجزاً عن احتلال هذا الشريط داخل الأراضي السورية، ومازالت خساراته كبيرة ومباشرة، نظراً لانشغال بقايا جيش النظام بمناطق أشد حساسية بالنسبة إليه في دمشق والساحل، وليس من المتوقع أن يستتب للحزب الأمر في «الشريط الحدودي»، لكن انشغاله المستمر في هذه الحرب المفتوحة، يجعل منه طرفاً مفيداً في المعادلة الأمريكية، ويسبب له المزيد من الضعف والتآكل، وهو ما يرضي إسرائيل بدون شك.

بهذا الشكل يمكن القول إن إدارة باراك أوباما تمكنت من توظيف جميع القوى الإقليمية في حربها ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» وأشباهه، بأقل التكاليف، وبدون أن تترك لأي جهة إمكانية استثمار هذه الحرب لصالح صعودها النوعي على حساب القوى الأخرى. ولعل النظر إلى خريطة المنطقة كفيل بشرح المشهد، حيث سُحب من العراق وسوريا أي صفات سيادية، أو قدرات فاعلة، وتحولا إلى ساحة صراع مع تنظيم «الدولة الإسلامية» بأدوات إيرانية في الشرق والغرب، وأدوات تركية في الشمال، وأدوات أردنية خليجية في الجنوب، بينما تحولت جميع الفصائل المسلحة داخل هذه الجغرافيا إلى توابع، بما في ذلك البيشمركة المدعومة غربياً، ووحدات حماية الشعب الكردية، التي تبحث اليوم عن ظهر تستند إليه بعد تخلي واشنطن عنها.

هذه المعمعة السورية تجد فيها الولايات المتحدة فرصة لتطبيق «حل سياسي» يعتمد مبدأ المحاصصة بين النظام والمعارضات السورية. فالدمار الرهيب الذي سحق سوريا، وتوازنات القوى المسلحة داخلها التي تقارب الدرجة صفر، جعل عودة هذا البلد إلى استقراره، تحت نفوذ قوة إقليمية واحدة، أمراً مستحيلاً في المدى القريب والمتوسط. وبالتالي لم يعد هناك خطر، بالنسبة إلى أمريكا وإسرائيل أولاً، وبالنسبة إلى بقية القوى الإقليمية ثانياً، بأن تصحو دمشق على نظام حكم جديد قوي ومتماسك وحليف لأحد الأطراف الفاعلة، بقول آخر: لم يعد هناك خطر من دولة سورية جديدة تقلب التوازنات بين الخصوم الإقليميين، وهو ما يرضي بلا شك هؤلاء الخصوم، بعد اقتناعهم أن أياً منهم لن يستطيع الانتصار بمفرده.

المحاصصة التي قد تتوافق عليها القوى الإقليمية بضغط ومواكبة من قبل القوى الدولية، التي قد تبلغ نمطاً من أنماط التقسيم، لن تنهي بأي حال الحرب السورية، ناهيك عن افتقادها لأبسط مفردات العدالة، بيد أن حلاً يضمن رحيل الأسد على ما يحمله من رمزية، ويتوقف فيه القصف بالبراميل والصواريخ، سيحدّ من عمليات اللجوء، وربما يدفع بالكثير من اللاجئين في «المناطق الآمنة» ودول الجوار إلى العودة، وهو ما قد يسمح لسوريا باستعادة شعبها، واستعادة هذا الشعب لدوره، بعد أن أجبره صراع البقاء على الرحيل أو الاحتماء بالحراب الشاردة.

٭ كاتب فلسطيني

 

 

 

“داعش” في المنظور التركي/ نبيل البكيري

كانت تركيا مبكراً، ومنذ البداية، تعلم أي مصير قاتم سيخيم على المنطقة كلها، جراء السياسات الدولية المخاتلة، وغير البريئة، في التعاطي مع قضايا المنطقة من منظور براغماتي بحت. ولهذا، كانت تركيا واضحة منذ البداية في رؤيتها، لأسّ الأشكال وجذر المشكلة، ممثلة بالاستبداد الجاثم على شعوب المنطقة، فكانت رؤيتها، منذ البداية، للحل في سورية رحيل بشار الأسد.

ومن هذا المنظور، كانت كل السياسات التركية تجاه المنطقة واضحة، من حيث المبدأ، في سورية ومصر واليمن وليبيا وكل المنطقة، رحيل الاستبداد، فيما وقفت هنا شبه متفردة ووحيدة في موقفها تجاه الربيع العربي وثوراته التي كان ينظر لها الجميع، من دون استثناء، بريبة وتحيّن وترقّب، ما تجلى تالياً في كل من مصر واليمن وليبيا وسورية، وغيرها.

كانت تركيا مضطرة أن تظهر بهذا الموقف غير المحسود عليه وحيدة تجاه ملفات عديدة، وخصوصاً الملف السوري الذي يمثل عمقها الاستراتيجي. ولذا، انبرى هنا من يتهم تركيا بالوقوف وراء المنتج الأول للاستبداد والمخاتلة الدولية تجاه ثورات الربيع العربي، وهو داعش، وهذا نتاج طبيعي للسياسات الدولية أولاً، والنظم الاستبدادية ثانياً، والتعقيدات السياسية والثقافية في مجتمعاتنا العربية ثالثاً، وكل هذا كان في حسبان سياسة تركيا تجاه المنطقة العربية، منذ البداية، فكانت واضحة أن الحل في رحيل أنظمة الاستبداد ودعم تطلعات شعوب المنطقة نحو الديمقراطية، وكان هذا شعار تركيا الدائم وديدنها في كل المحافل الدولية.

لكن في الجانب الآخر، لكي نكون موضوعيين، لا ينبغي إغفال البعد الجيوسياسي من منظوره البراغماتي بالنسبة لتركيا، حيث أدركت أن ثمة أفخاخاً وعوائق كبيرة في طريق سياساتها المبدئية، عليها أن تتخطاها بذكاء وحذر، وهي العوائق والأفخاخ المنصوبة أمامها، وهي أيضاً جزء من تكوينات المشهد التركي الداخلي، تاريخياً وإثنياً وجغرافياً.

فكانت تدرك تركيا أن أهم التحديات أمامها هو الملف الكردي، والذي يمثل تحدياً كبيراً أمام الحكومات التركية المتعاقبة منذ أتاتورك، ولم يحصل فيه أي تقدم أو اختراق، باستثناء الاختراق الأخير الذي تمثل بعملية السلام الذي قادها حزب العدالة والتنمية الحاكم، والذي دفع ثمنها غالياً في العملية الانتخابية، أخيراً، التي أدت إلى تراجع مكانته الانتخابية المعتادة على مدى العشر سنوات الماضية.

ومن هذا المنطلق، كان الإدراك التركي لحلول الملف السوري، وكل ملفات المنطقة يكمن في دعم تطلعات هذه الشعوب نحو الديمقراطية، لأن الاستبداد ستكون نتائجه كارثية على المنطقة كلها، وما داعش وقبلها القاعدة إلا بعض تجليات وانعكاسات السياسات الغربية الداعمة للاستبداد وتسلط الأنظمة الحاكمة في المنطقة.

“كان صانع القرار التركي ينظر إلى قضية داعش على أنها نتيجة، وليست سبباً، وبالتالي ينبغي لحل هذه الظاهرة الإشكالية أن يبدأ بمعالجة الأسباب، وليس النتائج، وهي القضاء على الأنظمة المستبدة”

ولهذا، كان صانع القرار التركي ينظر إلى قضية داعش على أنها نتيجة، وليست سبباً، وبالتالي ينبغي لحل هذه الظاهرة الإشكالية أن يبدأ بمعالجة الأسباب، وليس النتائج، وهي القضاء على الأنظمة المستبدة التي أدت إلى وجود داعش وغيرها، لا الذهاب نحو النتائج، والانهماك في معاركها التي لن تجدي نفعاً، ما لم تعالج الأسباب الحقيقة للظاهرة، كالظلم والاستبداد. ولهذا رفضت تركيا، منذ البداية، الانضمام إلى التحالف الدولي لقتال داعش من هذا المنطلق، وليس من منطلق التفسيرات الغربية أن تركيا داعمة لداعش.

أعاد الهجوم على سروج التركية، أخيراً، أعلن تنظيم الدولة عن مسؤوليته عن تنفيذه، الكرة إلى المعلب التركي مجدداً. ولكن، من زاوية أخرى، كانت تركيا تأخذها في الحسبان، هي ملف حزب العمال الكردستاني الذي يعد من أخطر ملفات السياسة الداخلية التركية، وتعقيدات هذه الملف الذي بدأ خطره يظهر من جديد، بعد جهود كبيرة، بذلها حزب العدالة والتنمية، لإنجاح عملية السلام مع الأكراد.

حينما نجح حزب العدالة والتنمية في عملية السلام مع الأكراد، مثل هذا ضربة للقوى الدولية التي ترى أنه ليس من مصلحتها دخول تركيا مرحلة الاستقرار السياسي، وليس من مصلحة المنطقة كلها أيضاً، وهو البعد الذي ينظرون من خلاله إلى المنطقة كلها، أنها يجب أن تظل في مرحلة اللا استقرار. وهذا ما كانت تدركه تركيا منذ البداية. ولهذا احتفظت بأوراقها جيداً، فيما يتعلق بملف داعش الذي كانت تدرك أنه ملف خطير، لكن الأخطر منه غض الطرف عن أسبابه و تداعياته، وكان من تداعياته دخول المنطقة مرحلة جديدة من اللايقين، والفراغ الكبير الذي يدفع المنطقة نحو ما هو أكثر ضبابية وكارثية في آن.

من هذا المنطلق، كان الموقف التركي أكثر وضوحاً في التعبير عن قلقه من السياسات الدولية المريبة تجاه المنطقة وقضاياها، وأنه يجب أن تكون هناك رؤية واحدة ومبدئية لكل قضايا المنطقة، أي أن إرهاب داعش لا يختلف عن إرهاب نظام الأسد، و لا عن إرهاب البي كي كي، ولا عن إرهاب نوري المالكي، والجميع سواء في إرهابهم لا فرق.

هذا هو السر الذي دفع الأميركان إلى الخضوع للرؤية التركية فيما يتعلق بتصنيف “بي كي كي” منظمة إرهابية، وهو نفسه الموقف الأطلسي فيما يتعلق بهذا الحزب أيضاً، باستثناء موقف ألمانياً الأكثر مخاتلة تجاه ملفه وبعض الدول الأوروبية التي تريد التفريق بين داعش و”بي كي كي” من منظورها الخاص، لا من منظور موضوعي.

تجلى هذا الانكشاف لسياسات القوى الدولية، بشكل كبير فيما يتعلق بملف اللاجئين السوريين الذين تتحمل تركيا وحيدةً تبعاته، فيما يتفرج الجميع من بعيد بتقديم نصائح لا تسمن ولا تغني من جوع. ومن هذا المنطلق، كان الدافع التركي فيما يتعلق بالمطالبة بفرض منطقة عازلة داخل الأراضي السورية للاجئين السوريين للتخفيف من كلفة هذا الملف أمنياً عليها، وأعتقد أن هذه الفكرة التي واجهها الغرب، بنوع من المماطلة والكذب أحياناً، أصبحت، الآن، أكثر جدوى في ظل الانهيارات الأمنية للمنطقة، والتي قطعاً لن تكون مصالح الغرب بمنأى عن تداعياتها

العربي الجديد

 

 

 

تركيا وداعش.. هل بدأت الحرب حقا؟/ بشير عبد الفتاح

بينما ظل دور تركيا في الحرب على تنظيم الدولة مقتصرا على إسناد لوجستي ومنع لتسلل المقاتلين إليها وإلى جبهة النصرة عبر الأراضي التركية، يبدو أن التصعيد التركي الأخير مؤشر لرفع أنقرة مستوى انخراطها في الحرب.

فما كادت تمضي أيام قلائل على العملية حتى شنت المقاتلات التركية غارات على بعض الأهداف التابعة للتنظيم في سوريا، في تتويج لافت لتحركات تركية حذرة كانت قد لاحت قبل فترة للتجاوب مع ضغوط التحالف الدولي لحمل أنقرة على المشاركة بشكل أعمق في الحرب ضد “داعش”، إذ قبلت بتدريب عناصر من المعارضة السورية المعتدلة على أراضيها توطئة لضمهم إلى صفوف القوى المحاربة للتنظيم الإرهابي، كما بدأت في مداهمة معاقل تابعة للتنظيم داخل تركيا ومنعت متطوعين كثرا من عبور أراضيها بغية الوصول إلى قواعده في سوريا.

غير أن معطيات أخرى عديدة بدت لتدحض هذا التصور.

أولها، أن التحرك العسكري التركي لم يأت عقب عملية “سروج” مباشرة وإنما بعد مقتل رجال شرطة أتراك على أيدي مقاتلي حزب العمال الكردستاني بعدها بثلاثة أيام ردا على سقوط عشرات الأكراد في العملية، ما يعني أن أنقرة ما زالت تعتبر أن الخطر الأكبر الذي يتهدد تركيا هو الخطر الكردي وليس “الداعشي”، خصوصا بعدما سيطر حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري، على مدينة تل أبيض بالتزامن مع تجدد العمليات الإرهابية لحزب العمال داخل تركيا بعد تعليق هدنته التي أبرمها مع أنقرة بموجب محادثات سلام كان أردوغان قد دشنها مع الحزب في عام 2012، بعد الهجوم التركي على معاقل للحزب شمالي العراق.

وقد اكتسبت عمليات الحزب الكردستاني هذه المرة زخما مهما بعدما أضحى له ظهير سياسي يتمثل في حزب الشعوب الديمقراطي الكردي الذي بات ممثلا في البرلمان بحوالي ثمانين مقعدا، حيث دعا الحكومة إلى استئناف عملية السلام مع الكردستاني، كما أدان التصعيد التركي الأخير ضد الحزب الكردستاني، محذرا من أن يكون مجرد غطاء أو مبرر لنسف عملية السلام مع أكراد تركيا.

وفي ذات السياق، أكد كل من أردوغان وداود أوغلو أن بلادهما لا تفرق بين “داعش” و”الكردستاني” وتعتبرهما سويا منظمتين إرهابيتين ستتعامل معهما بنفس النهج، كما شددا على أن الضربات العسكرية الحالية لا تستهدف “داعش” فقط وإنما ستتواصل لتشمل تنظيمات تهدد الأمن القومي التركي كأحزاب التحرير، الجبهة الشعبية الثورية، متمردي حزب العمال الكردستاني شمالي العراق وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي الذي أعلن في يناير/كانون الثاني من عام 2013 ما يشبه الحكم الذاتي على الحدود السورية التركية بإيعاز من الأسد، والذي تعتبره أنقرة الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني المصنف تركيا وأوروبيا وأميركيا منظمة إرهابية.

ثانيها: افتقار مساعي واشنطن والتحالف الدولي لمحاربة “داعش” وتقويضه إلى الجدية والحزم، فبعد تقاعس وتراخ في محاربته ثم إنزال أسلحة ومعدات غير ما مرة جوا لمقاتليه لم يتورع الجنرال راي أوديرنو، رئيس هيئة الأركان في الجيش الأميركي، عن الإعلان قبل أسبوعين أن هزيمة “داعش” تحتاج إلى مدة تتراوح ما بين عشرة وعشرين عاما.

ثالثها: افتقاد أية عمليات عسكرية تركية في سوريا -بما فيها محاربة “داعش”- لتأييد عريض داخل تركيا. كما أن الحكومة لا تعتبر عملياتها الحالية في سوريا انخراطا كاملا في الحرب على “داعش” بقدر ما هي رد فعل اضطراري على عملية “سروج ” التي نفذها “داعش” في تركيا.

وعلى المستوى غير الرسمي، ما برحت قطاعات تركية واسعة تطالب بعدم التورط العسكري في سوريا أو سواها، كما يحمل أتراك كثر سياسات أردوغان وحكومة داود أوغلو مسؤولية الإرهاب الذي داهم بلادهم.

وبينما رأت المعارضة التركية أن الانتفاضة العسكرية والأمنية ضد “داعش” داخل تركيا وعلى الحدود السورية جاءت متأخرة جدا رغم أهميتها، هرعت تباشر ضغوطها لحمل الحكومة على مراجعة سياستها الخارجية التي تعتبرها سببا لوقوع تركيا في براثن الإرهاب، محذرة الحكومة من الانجرار نحو حرب استنزاف طويلة الأمد، ومن إمكانية استغلال الرئيس وحكومة العدالة الأوضاع الأمنية المتدهورة ضمن حملة الانتخابات المبكرة التي باتت شبه أكيدة مع تراجع احتمالات تشكيل حكومة ائتلافية.

رابعها: تمسك تركيا بسياسة رفض الدخول في مواجهة مع “داعش” طالما أن شروطها بهذا الصدد لم تنفذ، مع إبدائها شيئا من المرونة تجلت في إمكانية اتخاذ بعض الإجراءات بهذا الخصوص إذا ما تقاضت مقابلا مجزيا، أو اضطرت لذلك تحت وطأة ضغوط لا تحتمل، وذلك على غرار ما جرى في معركة عين العرب (كوباني) التي كانت بمثابة أول اختبار عملي لحقيقة الموقف التركي من “داعش”.

فمنذ الساعات الأولى لتغلغل “داعش” في عين العرب (كوباني) التي لا تبعد سوى مئات الأمتار عن الحدود التركية السورية، نقل عن أردوغان مقولة أن تسليم عين العرب (كوباني) لـ”داعش” أفضل كثيرا لتركيا من بقائها غنيمة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري.

وبناء عليه، ظلت تركيا تراقب المعركة عن بعد رافضة السماح للبشمركة العراقية وأعضاء حزب العمال الكردستاني بالعبور إلى سوريا لمنع سقوط كوباني، متوخية دفع الأكراد لطلب المساعدة الأمنية من تركيا وفقا لشروطها المتمثلة في تخلي حزب العمال الكردستاني وحزب الاتحاد الديمقراطي عن خطط الحكم الذاتي في سوريا وانضمامهما إلى التحالف المناهض للأسد خاصة بعدما سيطر حزب العمال الكردستاني وحزب الاتحاد الديمقراطي على مناطق كردية في عفرين وكوباني والجزيرة في شمال سوريا، وأعلنوها مقاطعات كردية في يوليو/تموز 2012.

وبمرور الوقت، اضطرت أنقرة لتغيير موقفها من معركة عين العرب (كوباني) مخافة أن يفضي سقوط كوباني إلى تهديد استقرار تركيا جراء نزوح حوالي ثلاثمئة لاجئ كردي إضافي إلى أراضيها، ما قد يؤلب أكراد تركيا ضد أنقرة، كما جاء ذلك بعدما التقى الموفد الأميركي الخاص إلى سوريا دانيال روبنشتاين في باريس صالح مسلم، رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري، وتباحثا بشأن محاربة “داعش”، الأمر الذي أجج مخاوف أنقرة من احتمالات دعم واشنطن للتطلعات الانفصالية والاستقلالية للحزب الكردي السوري.

وبينما أدان أردوغان تقديم التحالف الغربي دعما تسليحيا للحزب، مؤكدا للرئيس الأميركي أن أنقرة تعتبره تنظيما إرهابيا كحزب العمال الكردستاني، خرجت الناطقة باسم الخارجية الأميركية في حينها لتقول إن أميركا لا تعتبر الحزب الكردي السوري إرهابيا، كما انهالت بالتزامن الضغوط الغربية على أنقرة لحملها على السماح للأكراد السوريين وقوات البشمركة بالدخول إلى كوباني لطرد “داعش” فضلا عن تدريب ألفي عنصر من المعارضة السورية على أراضيها لذات الغرض بالتنسيق مع الأميركيين.

واليوم اضطرت تركيا لتوجيه ضربات ضد “داعش” بعد حادث سروج، لكن تحركها بهذا المضمار جاء محسوبا ومحدودا وغير مؤثر، مقارنة بذلك الذي يتم بشكل متواصل ومكثف ضد معاقل وأتباع حزب العمال الكردستاني داخل تركيا وخارجها، وليس أدل على ذلك من أنه لم يقابل برد -حتى الآن على الأقل- من جانب “داعش”.

ولعل العمليات الأمنية والعسكرية المحدودة التي تبنتها أنقرة ضد “داعش” قد استهدفت تحقيق حزمة من الأهداف، أبرزها: امتصاص غضب التحالف الدولي وإيران وأكراد تركيا بعدما مارس الأول ضغوطا عليها، وهددت الثانية بتحويل سوريا إلى مقبرة للجيش التركي إذا ما تدخل فيها، وبعدما كال الطرف الأخير الاتهامات لحكومة أنقرة بدعم “داعش” وغض الطرف عن إرهابها لتقويض الطموحات الاستقلالية لأكراد سوريا وتركيا.

هذا علاوة على وقف أنشطة تهريب السلاح والمخدرات والأموال والأفراد على الحدود المشتركة بين سوريا وتركيا والبالغ طولها 911 كيلومترا، وهو ما يفسر مواصلة إغلاق الحكومة التركية لمعبري باب السلامة وباب الهوى اللذين يصلان مناطق سيطرة المعارضة السورية شمال سوريا بالأراضي التركية، للشهر الرابع على التوالي.

أما الهدف الأهم، فيتجلى في إقامة منطقة حظر طيران وأخرى آمنة في شمال سوريا، وهو المطلب الذي طالما ألحت من أجل بلوغه حكومة أنقرة منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، فقد أعلن وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو يوم 25 يوليو/تموز أن الأراضي التي تم تطهيرها من مسلحي تنظيم “داعش” في شمال سوريا جراء قصف المقاتلات التركية، ستصبح “منطقة آمنة” يتموضع فيها الجيش السوري الحر ويلجأ إليها السوريون الفارون من القتل والدمار بما سيساعد على منع تسلل المسلحين، والتخفيف من تدفق المزيد من اللاجئين إلى تركيا.

” وحسب صحيفة “حرييت “التركية، كلل الرئيسان الأميركي أوباما ونظيره التركي أردوغان أشهرا من المفاوضات باتفاق خلال اتصال هاتفي بينهما عشية عملية سروج، على سماح أنقرة للطائرات الحربية الأميركية وطائرات التحالف الدولي باستخدام قاعدة أنجرليك علاوة على قواعد باتمان وديار بكر وملاطيا شرقي تركيا في حالات الطوارئ، لشن هجمات على تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا.

بينما ستقدم تركيا الدعم لتلك الغارات من خلال مدفعيتها، على أن يتم بحث إقامة منطقة حظر طيران بواقع تسعين كيلومترا بين مدينتي مارع وجرابلس السوريتين، على الحدود مع تركيا، وستقدم هذه المنطقة الدعم لمنطقة آمنة مقررة على الأرض، يمكن أن تمتد إلى أربعين إلى خمسين كيلومترا داخل العمق السوري. وبينما لا يتضمن الاتفاق وصول أي قوات برية أميركية إلى تركيا، فإنه سيسمح بدخول عدد من الفنيين العسكريين لتقديم الدعم التقني.

وبذلك، تكون الصفقة التركية الأميركية قد أعادت تحديد معالم الدور التركي في الحرب على “داعش”، بحيث لا يتجاوز ذلك الدور المهام اللوجيستية التي كانت تضطلع بها تركيا منذ بداية تلك الحرب إضافة إلى فتح قواعد جوية تركية لمقاتلات التحالف، نظير قبول الأخير بإقامة نظام أمني تركي شامل على الحدود التركية السورية.

يتضمن هذا النظام -وفقا لبولنت أرينش نائب رئيس الوزراء- منطقة حظر الطيران والمنطقة الآمنة، إضافة إلى إقامة جدار عازل بامتداد ١٥٠ كيلومترا من الحدود، تعزيز سياج من الأسلاك وحفر خنادق إضافية، تركيب أنوار كاشفة على امتداد ١١٨ كيلومترا، إصلاح طرق الدوريات الحدودية، حفر خندق بطول ٣٦٥ كيلومترا على امتداد الحدود، ونشر حوالي ٩٠% من الطائرات دون طيار وطائرات الاستطلاع على الحدود مع سوريا.

هذا فضلا عن الإجراء الأهم المتمثل في إطلاق يد تركيا بشمالي العراق وسوريا لكبح جماح التطلعات الانفصالية لحزب العمال الكردستاني والاتحاد الديمقراطي الكردي، علاوة على لجم المنظمات اليسارية المتطرفة داخل تركيا.

الجزيرة نت

 

 

 

 

السيناريو الانقلابي الذي يتهدّد تركيا/ هوشنك أوسي

لم تقتصر انتكاسة «حزب العدالة والتنمية» على النتائج المتراجعة التي حقّقها في الانتخابات البرلمانيّة الأخيرة التي شهدتها تركيا يوم 7 حزيران (يونيو) 2015 وحسب، بل فشل الحزب الإسلامي الحاكم في تشكيل حكومة ائتلافيّة أيضاً. ذلك أن تشكيل أيّة حكومة من هذا النوع سيملي تقديم تنازلات واضحة وصريحة وجدّية لأحزاب المعارضة الثلاثة (الشعب الجمهوري، الحركة القوميّة، الشعوب الديموقراطي)، بخاصّة منها ما يتعلّق بالسياسة الخارجيّة، وتحديداً التدخّل التركي في الشأن السوري. فالأحزاب الثلاثة، على رغم تبايناتها العميقة، تتّفق على ضـــرورة تجنيب تركيا النيران المندلعة في سورية، وترفض تورّط حكومة «العدالة والتنمية» وضلوعها في دعم الفصائل الإسلاميّة الإرهابيّة المتطرّفة ومساندتها، كـ «داعش» و «جبهة النصرة» و «أحرار الشام» و «جيش الفتح» وغيرها… ولكن غرور أردوغان وجنون العظمة المتفاقم لديه يحولان دون إبداء أي تنازل من هذا النوع لأحزاب المعارضة، لإخراج تركيا من الفراغ والمأزق الدستوري الحاصلين.

وبالتالي، فمن أبرز أهداف «الانخراط» الشكلي لتركيا في التحالف الدولي ضدّ «داعش»، إشعال الحرب على الكرد و «حزب العمال الكردستاني»، لكسب أصوات القوميين الأتراك، ضمن حزبي «الحركة القوميّة» و «الشعب الجمهوري»، في الانتخابات البرلمانيّة المبكرة التي يدفع أردوغان وحزبه تركيا باتجاهها، علّها تنتشل «العدالة والتنمية» من أزمته ومأزقه الداخلي العميق.

وإذا لم تفرز الانتخابات المبكرة نتائج تصبّ في طاحونة طموحات أردوغان في تحقيق حلمه بإقامة نظام رئاسي، أو أقلّه تشكيل حكومة ائتلافيّة تحفظ للحزب ماء الوجه، وإذا خسر الحزب المزيد من النقاط والأصوات، لصالح «الحركة القوميّة» و «الشعب الجمهوري»، فأيّة حكومة ائتلافيّة بين هذين الحزبين الأخيرين ستعني بداية نهاية أردوغان والأردوغانيّة، حيث ستبدأ الحكومة الجديدة بفتح كل الدفاتر القديمة كقضايا الفساد وأخونة تركيا وأسلمتها، وربما محاكمة أردوغان وحزبه وقياداته بتهم الفساد وهدر المال العام ومناهضة العلمانيّة والدستور، وربما الخيانة، ودعم الجماعات الإرهابيّة.

لذا، ينظر أردوغان وحزبه إلى أيّة انتخابات مبكرة مقبلة على أنها مسألة حياة أو موت، وفق مبدأ «نكون أو لا نكون».

وفي حال لم تفرز الانتخابات المقبلة حكومة جديدة، وبقي الوضع على حاله، وسقطت البلاد في الفراغ والفوضى، فلن يقف الجيش متفرّجاً على البلاد وهي تتّجه الى انتخابات ثالثة أو رابعة، بل سيتدخّل حاسماً الأمر، بانقلاب كالذي شهدته بلدان أخرى في منطقتنا، مطيحاً حكم الإخوان المسلمين الأتراك، الذي امتدّ من 2002 ولا يزال قائماً. عندها، سيمارس إخوان تركيا ما مارسه ويمارسه «إخوان مصر» من إرهاب وعصيان ضدّ الدولة، وبشراسة ودمويّة أكبر، وعلى نطاق أوسع، فيؤدي فعلهم ما أداه نظام بشار الأسد الذي دمّر سورية تحت شعار «الأسد أو نحرق البلد».

وإذا ما انزلقت تركيا، لا سمح الله، نحو السيناريو الانقلابي، فسيحقّق أردوغان ما هدّد به بشار الأسد من إغراق المنطقة في الحروب الأهليّة. ذلك أن كل الألغام القوميّة والدينيّة والطائفيّة الموقوتة في تركيا، ســتنفجر دفعة واحدة، وقد يمتدّ الحريق إلى مناطق البلقان والقفقاس وأوروبا.

والحال، أن لغة الكراهية التي أشاعها أردوغان في رئاسته للحكومة ثم للجمهورية، ضد معارضيه جميعاً، غذّت وعززت فاشيّة مركّبة لدى القواعد الجماهيريّة الموالية لـ «العدالة والتنمية» المستفيدة من الحكم طيلة 13 سنة، وغير المستعدّة للتنازل عنه حتّى ولو على أنقاض تركيا.

* كاتب كردي سوري.

الحياة

 

 

تركيا التي تحترق/ محمد نور الدين

اشتعلت تركيا فجأة، أعلنت الحرب على «داعش» وعلى حزب العمال الكردستاني وعلى حزب الشعوب الديمقراطي الكردي، الممثل السياسي للأكراد في البرلمان بثمانين نائباً. وأضافت أنقــرة إليهم بعض الحركات اليساريـة الراديكالية.

الإعلام الموالي لحزب العدالة والتنمية يواكب جيداً مواقف مسؤولي الحزب ويصف هذه الحرب بأنها حروب متعددة، أو حرب بثلاثة قوائم: «داعش»، حزب العمال الكردستاني، واليسار المتطرف.

بعد أسبوعين تقريباً على افتتاح هذه الحروب يتبين أنها حرب باتجاه واحد: كسر شوكة الكتلة الكردية المؤيدة لحزب العمال الكردستاني وحزب الشعوب الديمقراطي أي كسر الأكراد بجناحيهم العسكري والسياسي.

غابت نهائياً الحرب ضد «داعش» رغم أن التحول المعلن كان تفجير «سوروتش» الذي أودي بحياة 32 شخصاً وجرح أكثر من مئة واتهمت الحكومة «داعش» بالوقوف وراءه.

اللافت هنا أن تنظيم «داعش» حتى الآن لم يتبن هذا التفجير كما أنه لم يقم بأي عملية رداً على إعلان تركيا الحرب عليه فضلاً عن أن تركيا لم تستهدف إلا بخجل وبصورة استعراضية بعض مراكز التنظيم.

الحرب ضد «داعش» تقع خارج سياق أي استراتيجية تركية فعلية. الهمّ التركي في مكان آخر.

الهمّ التركي اسمه رجب طيب أردوغان. وبداية هذه المعضلة بدأت مساء السابع من يونيو/حزيران الماضي، أي بعد ظهور نتائج الانتخابات النيابية التي جرت في ذلك اليوم وانتهت إلى هزيمة مزدوجة لحزب العدالة والتنمية. الأولى فشله في الحفاظ على الغالبية المطلقة وبالتالي على السلطة منفرداً والثانية ونتيجة لهذا الفشل دفن أحلام أردوغان في تعديل الدستور والانتقال إلى نظام رئاسي والذي كان يتطلب ليس الغالبية المطلقة بل ثلثي المقاعد(367) أو 330 مقعداً لتحويل الاقتراح إلى استفتاء شعبي.

كل شيء يبدأ من هناك وكل الحروب المعلنة جاءت لاحقاً في هذا السياق. كل الانقلاب على المواقف من «داعش» إلى حزب العمال الكردستاني إلى حزب الشعوب الديمقراطي إلى إنهاء عملية المفاوضات مع عبدالله أوجالان جاءت بعد النتائج النيابية الصادمة لأردوغان.

لا يظنن أحد أن في الأمر مبالغة عندما نقول إن كل شيء مختزل ومختصر ومرتبط بحالة التوتر التي اعترت أردوغان والتي جعلت منه أسداً جريحاً وجد نفسه فجأة داخل قفص بعدما كان يرعب الغابة ويخاف منه كل من يعيش فيها.

السيناريو الذي وضعه أردوغان بعد النتائج مباشرة هو ليس التساؤل عن كيفية الانتقال إلى نظام رئاسي، فهذا بات من مستحيلات العالم السبع وليس فقط من عجائبه، بل كيف يمكن لحزب العدالة والتنمية العودة منفرداً إلى السلطة.

الجواب عند أردوغان بسيط وهو إفشال تشكيل أي حكومة ائتلافية بين حزب العدالة وأي من أحزاب المعارضة. فخيار الحكومة الائتلافية يكبل يدي أردوغان وهو الذي اعتاد على إطلاقهما ضد هذا وذاك. وبالتالي لا يبقى بعد 23 أغسطس/آب، آخر مهلة لتشكيل حكومة جديدة، سوى الدعوة إلى انتخابات نيابية مبكرة في الخريف. لكن لتحقيق النصر في تلك الانتخابات شرع أردوغان في تطبيق سيناريو يحوّل البلاد إلى بركان من نار ولهب وإلى ملعب للفتنة والقتل. وذلك عن طريق كسر القوة السياسية التي أسقطته في الانتخابات أي حزب الشعوب الديمقراطي وظهيره العسكري حزب العمال الكردستاني. وانتهج من أجل ذلك خطة عسكرية بضرب قواعد حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل في شمال العراق وفي الداخل التضييق على حزب الشعوب الديمقراطي. عسكرياً يريد أردوغان أن يظهر للقوميين الأتراك أنه الحامي الوحيد لهم ويريد أصواتهم، وسياسياً إغلاق حزب الشعوب الديمقراطي أو قطع التمويل الحكومي عنه أو رفع الحصانة النيابية عن قادته وبالتالي إرسالهم ضعفاء إلى الانتخابات النيابية المبكرة. حينها يستطيع حزب العدالة والتنمية تحسين وضعه بكسب بعض النقاط الإضافية الكافية للفوز بالنصف زائد واحد أي 276 نائباً (الآن له 258 نائباً) والتفرد بالسلطة من جديد. وحينها بالضبط تنفرج من فوق أسارير أردوغان بعد أن تكون روما قد احترقت من تحت.

الخليج

 

 

 

تركيا وترتيب البيت السوري/ محمد عاكف جمال

تركيا تقرر الدخول في حرب مزدوجة مع داعش ومع حزب العمال الكردستاني الذي استعاد نشاطاته وهجماته المسلحة على الدولة التركية. ساحة هذه الحرب هي الأراضي السورية لذلك قررت إنشاء منطقة عازلة عند حدودها الجنوبية بطول تسعين كيلومترا وعمق خمسين كيلومترا لتصبح خالية من مواقع وقوات هذين الخصمين.

قرار تركيا هذا حظي بمباركة الولايات المتحدة مقابل السماح لها باستخدام قاعدة “إنجرلك الجوية” في حربها على داعش.

وقد ضمنت تركيا دعم حلف الناتو التام في حربها المزدوجة هذه باعتبارها عضواً فيه. المنطقة العازلة تؤمن لتركيا حدودها الجنوبية وتسمح بالتخفيف من أعباء إيواء اللاجئين السوريين البالغ عددهم مليوناً وثمانمائة ألف، إذ سيسمح بنقل ما يقرب من مليون منهم إليها.

الحرب التي أعلنتها تركيا هدفها حماية أمنها القومي من مخاطر القضية الكردية بشكل رئيسي، فمخاطر داعش طارئة أما مخاطر الحلم الكردي على وحدة الأراضي التركية فهي دائمة.

فالثقل الأكبر لحرب تركيا في الأراضي السورية هو مع حزب العمال الكردستاني وليس مع داعش، طبيعة العمليات العسكرية وحجمها وأهدافها وطبيعة الحملة الإعلامية المصاحبة لها داخل تركيا تكشف عن ذلك، فقد خاضت تركيا حرباً دامية مع هذا الحزب لعقود في الجنوب الشرقي من أراضيها لم تستطع خلالها القضاء عليه.

على مستوى الداخل التركي وصلت المفاوضات بين الدولة وحزب العمال الكردستاني المصنف على أنه حزب إرهابي إلى طريق مسدود، فهذه المفاوضات التي بدأت منذ أكثر من سنتين شهدتا هدوءا إلا أنهما لم تشهدا انفراجا في الأزمة، إذ لم يتمخض شيء على أرض الواقع يتعلق بتلبية بعض المطالب الكردية وأبرزها الاعتراف دستوريا بالهوية الكردية.

من جانب آخر يؤشر صعود حزب الشعوب الديمقراطي الذي يعتبر حزبا كرديا إلى البرلمان بعد تمكنه من تجاوز العتبة الانتخابية بحصوله على ما يزيد على عشرة في المئة من الأصوات في الانتخابات النيابية الأخيرة، يؤشر لبدء طور جديد في طرح الكرد لهويتهم الدستورية بعد أن فرضوا هويتهم البرلمانية.

أما على المستوى الخارجي فالانتصارات التي حققتها وحدات حماية الشعب الكردي السورية، وهي قوات كردية، على تنظيم داعش في الأراضي الواقعة على الحدود التركية الحنوبية تقلق أنقرة. فهذه القوات التي صمدت في مدينة كوباني واستطاعت دحر داعش في معارك عديدة تسعى الآن لإبعاده عن المناطق التي يحتلها في شمال حلب والتي تشطر المناطق الكردية السورية إلى شطرين.

تركيا تتهم هؤلاء بالعلاقة مع حزب العمال الكردستاني وبالسعي نحو إنشاء كيان كردي على حدودها الجنوبية وقيامهم بإجراء تطهيرات عرقية في المناطق القريبة من حدودها والتي تضم عربا وتركمانا تمهيدا لذلك.

ألغت الحرب الأهلية الدائرة في سوريا منذ خمس سنوات الحدود مع العراق في مناطق عديدة، وجعلت الحدود مع تركيا منطقة اشتباكات وعدم استقرار تقلق الأمن التركي.

إذ لا يستبعد من يخطط للأمن القومي التركي في ضوء ذلك احتمال تمخض الأوضاع غير المستقرة في سوريا والعراق وفي عموم المنطقة عن نشوء دولة كردية مستقلة تزيد من متاعب تركيا وتعزز من طموح الكرد ونزعتهم للاستقلال والانضمام لهذه الدولة وفرض جغرافية جديدة للمنطقة تخسر تركيا فيها ما يقرب من ثلث أراضيها ويصبح وضعها الإقليمي ضعيفا حين تفقد حدودها مع عدد من دول المنطقة. وهو ما تعمل تركيا على منع حدوثه في سوريا.

الحرب التي أعلنتها تركيا على حزب العمال الكردستاني لم تستثن الأراضي العراقية من دائرتها فقد بدأ الطيران التركي بقصف مواقع حزب العمال الكردستاني في جبل قنديل مما أغضب الحكومة العراقية واعتبرته انتهاكا لسيادة العراق.

فعلى الرغم من أن العراق وتركيا قد اتفقا نهاية سبعينيات القرن المنصرم على السماح لقوات بلديهما عند الضرورة بالتوغل مسافة خمسة وعشرين كيلومترا في أراضي البلد الآخر لمطاردة العناصر التي تهدد أمنه، كان ينبغي على الجانب التركي احترام سيادة العراق والتشاور معه بهذا الشأن فقد سقط ضحايا عراقيون من جرائه.

دخول تركيا الحرب على داعش غير عادي فقد رفضت المشاركة في التحالف الدولي لمحاربة هذا التنظيم ما لم يُلبّ شرطها وهو معالجة الملف السوري لأنها تربط بين محاربة الإرهاب وإسقاط نظام الرئيس الأسد. وقد طالبت مرارا بفرض منطقة محظورة على الطيران السوري وحصلت على دعم فرنسا إلا أن الولايات المتحدة لم توافق عليه، لأن ذلك يتطلب الحصول على قرار من مجلس الأمن الدولي وهو أمر ترفضه روسيا والصين بشدة.

حرب تركيا المزدوجة وإقامة المنطقة العازلة عند حدودها الجنوبية قد يكون لها أهداف تتجاوز ما هو معلن، فخلال سنوات الحرب الأهلية السورية كانت تركيا، ولا تزال، الدولة الأكثر عداء لنظام الرئيس الأسد والأعلى صوتا لإسقاطه، فليس من المستبعد أن تهدف بحربها هذه الحصول على موقف أفضل في عملية ترتيب البيت السوري بعد أن وصل النظام السوري إلى حالة الإنهاك الشديد باعتراف رئيسه في خطابه الأخير.

البيان

 

 

 

تركيا و«داعش» والكرد/ حواس محمود ()

التطورات الأخيرة في المشهد الإقليمي المرتبط بالحالة السورية الراهنة تمنح المراقب مزيدا من المعطيات الجديدة والتي تأتي كتحول شبه نوعي في قواعد اللعبة القديمة التي كانت تعتمد على الستاتيكو الميداني والسياسي، والتي كان أساسها إدارة الأزمة لا حلها من قبل الأطراف الثلاثة الكرد وداعش وتركيا مع تغطية ومتابعة أميركية غير خافية لكل محلل ومتابع.

الآن الوضع اختلف، فبعد مجزرة سروجة التي حدثت في الداخل التركي على الحدود مع كوباني السورية والتي تبناها داعش، جاء رد فعل حزب العمال الكردستاني سريعا ومباشرا، فالهجوم على مركز شرطة تركي ومقتل عدد من عناصر الشرطة الأتراك، تبناه حزب العمال الكردستاني دون أن يتريث نتائج التحقيق في المجزرة، وقبل ذلك ألغى ربط عملية السلام بإطلاق صراح الزعيم الكردي عبد الله أوجلان من السجن، اعتقد أن ثمة انقلابا تركيا على داعش قد حدث أخيرا، وذلك لأن تركيا لم تعد تتحمل تداعيات الأزمة السورية داخل حدودها وخارجها، كما أن وجود عدد هائل من اللاجئين السوريين على أراضيه- يفوق المليونين – يسبب لها إرباكات شديدة الخطورة على الأمن القومي التركي ويضاف إلى ذلك اقتراب قوات الحماية الشعبية الكردية التابعة لحزب ب ي د الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني بتركيا.

إن حزب العما ل الكردستاني بتبنيه عملية قتل عناصر الشرطة الأتراك قد انقلب على عبد الله أوجلان ومشروعه للسلام مع تركيا، تماما كما إنقلبت تركيا على داعش بالتدخل في سورية وضرب مواقعه.

ومن الأمور التي لم تدخل بالمصلحة الكردية والتركية أيضا تهرب حزب الشعوب الديموقراطية التركي من التحالف مع حزب العدالة والتنمية بزعامة اردوغان لتشكيل الحكومة الجديدة، ما ضيع فرصة ذهبية لتعزيز مشروع السلام الاوجلاني وكذلك مساندة تركيا في انقلابها الأخير ضد داعش، وتركيا الاردوغانية بتحركها الأخير ربما استهدفت ايضا تحريك الرأي العام التركي باتجاه كسب متحالفين جدد من الأحزاب الأخرى المعارضة لحزب اردوغان وسياساته السابقة الداخلية والخارجية.

إذن نحن نشهد تحولا اقليميا ملحوظا بالتدخل التركي في سورية بموافقة امريكية واوروبية وصمت ايراني بعد الاتفاق النووي معها، وكذلك بإحداث منطقة حظر طيران 90 بـ50 على طول الحدود السورية التركية، الأتراك يصرحون بها ويسمونها منطقة آمنة للسوريين الا أن الأميركان يتهربون من الاعتراف بها مواربة بالقول إن المنطقة ستكون محمية بطيران التحالف والنتيجة واحدة سواء سميت منطقة حظر طيران أو أنها منطقة لن يتمكن النظام السوري من استهدافها، في الوقت ذاته النظام السوري يعلن هزيمته بلسان رأسه الحاكم بشار الأسد ويعلن تخليه عن بعض المناطق والتمركز في مناطق يراها أكثر أهمية، كما انه يدعو إلى الدفاع عن نظامه لكل الجنسيات في العالم، وهي نفس التهمة التي كان يتهم بها الجيش الحر إبان تدخل حزب الله في سورية، وهذه تطورات تنبئ باستعداد بشار الأسد لاستجلاب المرتزقة والمارقين من كل أنحاء العالم إلى سورية، وربما استشعر الأتراك ضعف الأسد وقرب دنو اجله ونهاية حكمه فقرروا أن يكونوا متماسين بصورة مباشرة مع الحدث السوري واستيعاب ارتدادات وتداعيات سقوطه المدوي ربما في الأشهر القليلة القادمة.

إن التدخل التركي يفيد المعارضة السورية بتكوين بيئة حاضنة للمعارضة المسلحة وذلك بعودة للاجئين السورين من تركيا، كما أن قوات الحماية الشعبية الكردية ليست في وارد الاصطدام مع الجيش التركي، ولا الجيش التركي في وارد الاصطدام معها، وذلك لأن الـ ب ي د ( الاتحاد الديموقراطي الكردي ) وكذلك حزب العمال الكردستاني التركي يدعو إلى وقف القصف التركي على مواقع الحزب في تركيا، كما أن الولايات المتحدة الاميركية تعتمد عليها – قوات الحماية الشعبية الكردية – في حربها على داعش في سورية.

لا أتوقع أن تخسر تركيا بتدخلها الأخير في سورية وإنما ربما الكرد سيخسرون بعض المواقع في سورية ويتوقف تقدمهم في الشمال السوري وتضعف شوكتهم بتركيا، أما النظام فانه وكما قلنا يقترب من النهاية الحتمية لسقوطه كأي نظام استبدادي في العالم

يبدو أن أمريكا اقتنعت أخيرا بصوابية الطرح التركي خاصة وان أوباما في السنة الأخيرة من عهده بالحكم في البيت الأبيض

ويبدو انه قد أدى مهمته بنجاح في إبقاء سورية مستنزفة راكدة جامدة متنازعة الأطراف الداخلية والخارجية لا غالب ولا مغلوب، ولكن الضغط التركي المتواصل منذ أربع سنوات قد أوتي أكله أخيرا وهو الموافقة الاميركية على إعادة ترتيب التوازنات المحلية والاقليمية من جديد بحيث تصب في المصلحة الاميركية والاسرائيلية.

نحن مقبلون على تغيرات شبه نوعية كما قدمنا ويبدو أن العد العكسي قد بدأ للنظام مع التحرك التركي الجديد وخطاب رأس النظام كان خطاب الهزيمة بامتياز.

() كاتب من سوريا

المستقبل

 

 

 

التحركات العسكرية التركية الأسباب والانعكاسات الإقليمية/ د. سعيد الحاج

ملخص

بعد سنوات من بدء الأزمة السورية وإعلانها موقفًا عالي السقف من النظام فيها، تدخلت تركيا للمرة الأولى عسكريًّا في الشمال السوري عبر قصف جوي ومدفعي متكرر.

وجاء هذا الموقف بعد اتفاق تركي-أميركي غير معلن، يتضمن موافقة أميركية على إنشاء “منطقة آمنة” شمال سوريا لطالما طالبت بها أنقرة في مقابل السماح لطائرات التحالف الدولي باستعمال القواعد العسكرية التركية في قتالها لتنظيم الدولة.

وتكمن أهمية هذه الخطوة التركية -إلى جانب ملف مكافحة تنظيم الدولة- في بُعدين آخرين لا يقلان أهمية، ألا وهما: الملف الكردي والمشهد السوري بشكل عام، من خلال ما تطرحه من أسئلة حول حقيقة الموقف التركي وأبعاده ومداه.

تتناول هذه الورقة التحركات العسكرية التركية الأخيرة، محلِّلة أسبابها الداخلية والخارجية وسياقها وتطور أحداثها والاتفاق الثنائي غير المعلن بين أنقرة وواشنطن، لتخلص إلى استشراف أثرها على الملف السوري وعموم المشهد في المنطقة من خلال ثلاثة سيناريوهات:

الأول: استثمار تركيا التطورات الأخيرة والاتفاق المذكور مع واشنطن لإنشاء المنطقة الآمنة بهدف إعاقة إقامة أي كيان سياسي كردي على حدودها، باعتباره التهديد الأكبر لها.

الثاني: استثمار تركيا الدعم الأميركي لها وانخراطها النشط في التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة، لتحويل الشمال السوري إلى نقطة انطلاق وتقوية للمعارضة السورية في مواجهة نظام الأسد.

الثالث: اكتفاء تركيا بقصف تكتيكي ضد تنظيم الدولة وحزب العمال الكردستاني، دون أي استفادة استراتيجية من ذلك.

وتخلص الورقة إلى ترجيح السيناريو الأول، لعدة اعتبارات منها التقييم التركي للملف الكردي كأهم التهديدات لأمنها القومي في المرحلة الراهنة، وعدم استقرار المشهد الداخلي بعد الانتخابات، إضافة إلى العامل الدولي المتمثل بداعمي الأسد (روسيا وإيران)، وعدم الاتفاق الكامل مع الولايات المتحدة على هدف إسقاط نظام الأسد. بينما يبقى السيناريو الثاني أقل حظًّا ورهين تطورات إقليمية ودولية أبعد وأعقد من الموقف التركي بحدِّ ذاته.

بعد أشهر من اللقاءات المتواصلة بين وزير الخارجية التركي آنذاك، أحمد داود أوغلو، والرئيس السوري بشار الأسد فشل خلالها الأول بإقناع الثاني بإجراء إصلاحات جذرية اتخذت تركيا موقفًا مُعلنًا وعالي السقف من النظام السوري(1)، إضافة لأدوار أخرى قامت بها لاحقًا مثل استضافة اللاجئين السوريين وتقديم الدعم -السياسي على الأقل وفق ما هو معلن- للمعارضة السورية.

ولأن تركيا كانت -ولا تزال- مفتقدة للإمكانيات الذاتية التي تمكِّنها من فرض رؤيتها وتحقيق أهدافها، ولأنها لم تستطع إقناع المجتمع الدولي وخاصة الولايات المتحدة الأميركية بهذه الرؤية، فقد بقي موقفها دون ترجمة عملية على الأرض.

في سبتمبر/أيلول 2014 أعلنت واشنطن عن تشكيل التحالف الدولي لمكافحة “تنظيم الدولة”، بعد ظهوره في الموصل وتمدده السريع، بيد أن تركيا لم تسارع إلى الانضمام الفعلي للتحالف ولم توقِّع اتفاق جدة(2)، وإن أيدتهما نظريًّا ولفظيًّا لعدة أسباب تتعلق بكيفية ضمان أمن حدودها ومواطنيها؛ فتركيا هي الدولة الوحيدة المجاورة لكل من سوريا والعراق على امتداد 1200 كلم، بينما كان التنظيم يختطف 49 مواطنًا تركيًّا كرهائن حين أُعلن عن التحالف، إضافة لأسباب أخرى، نظرية وعملية، داخلية وخارجية، آنية واستراتيجية.

قدَّمت أنقرة بين يدي انخراطها الفعلي النشط في عمليات التحالف ثلاثة شروط، هي:

أولًا: معالجة أسباب الأزمة (استهداف نظام الأسد) وليس مجرد النتيجة (تنظيم الدولة).

ثانيًا: إنشاء منطقة آمنة على الحدود السورية-التركية، ومنطقة حظر للطيران لحمايتها.

ثالثًا: تسليح وتدريب المعارضة السورية “المعتدلة” لإشراكها في الحرب(3).

ولأن واشنطن لم تشاركها نفس الرؤية فيما يتعلق بكيفية حلِّ الأزمة والتعامل مع تنظيم الدولة، وأصرَّت على رفضها موضوع المنطقة الآمنة وحظر الطيران(4)؛ فقد بقيت أنقرة خارج العمليات العسكرية المباشرة في كل من سوريا والعراق، رغم الاتفاق مع الولايات المتحدة على مشروع تدريب وتسليح المعارضة السورية، الذي تعثَّر بدوره ومضى بطيئًا جدًّا بسبب الخلاف بين البلدين على تعريف “المعارضة المعتدلة” واختيار العناصر للتدريب(5).

سياق وأسباب التدخل التركي

التزمت الحكومة التركية الحياد في معركة عين العرب/كوباني الدائرة على حدودها بين تنظيم الدولة وقوات حماية الشعب الكردية رغم الضغط الكبير عليها داخليًّا من الأكراد الذين سقط في مظاهراتهم الاحتجاجية عشرات القتلى(6)، وخارجيًّا باتهامها بدعم الإرهاب(7).

بيد أن الأسابيع القليلة الماضية شهدت تطورًا لافتًا وغير مسبوق، بقصف الطائرات والمدافع التركية مواقع تنظيم الدولة في سوريا ومعسكرات حزب العمال الكردستاني في العراق، وهو تطور قوبل بالاستحسان في البداية ثم بالتساؤلات والاحتجاجات داخليًّا وخارجيًّا.

ففي الخامس والعشرين من يوليو/تموز الفائت قصفت الطائرات التركية مواقع لتنظيم الدولة قرب الحدود التركية-السورية، لكن تبني حزب العمال الكردستاني لقتل عدد من الجنود ورجال الشرطة الأتراك حوَّل وجهة القصف التركي نحو جبال قنديل في العراق حيث تتواجد معسكرات الأخير(8).

وفي حين رحَّبت واشنطن بتغير الموقف التركي نحو الانخراط الفعلي في “الحرب على الإرهاب”، وُوجِهت أنقرة باعتراضات متوقَّعة من النظام السوري وإيران وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، وأيضًا من الحكومة المركزية في بغداد(9)، في حين ردَّت الخارجية التركية بأنها تمارس حق الدفاع المشروع عن النفس مؤكدة أن تحركها يأتي في إطار الاتفاقية سارية المفعول مع العراق منذ 1980(10).

وقد سبق هذه التطوراتِ حدثان مهمان يمكن اعتبارهما بداية التغير في الموقف التركي:

محاولة تنظيم الدولة السيطرة على إعزاز في حلب بداية يونيو/حزيران الماضي، وهي المنطقة التي يتم من خلالها عبور قوات المعارضة السورية من وإلى تركيا(11).

سيطرة قوات الحماية الكردية على تل أبيض وتهجير بعض سكانها من العرب والتركمان، بعد أيام قليلة فقط من الانتخابات التركية وبغطاء جوي من طائرات التحالف، وهو ما اعتبرته تركيا استغلالًا لتراجع العدالة والتنمية في الانتخابات وحالة الفراغ السياسي في البلاد، خصوصًا أنها لم تُبلَّغ بالعملية مسبقًا(12).

ويمكن في هذا الإطار تلمس مخاوف أنقرة من تشكيل كيان سياسي كردي على حدودها الجنوبية للأسباب التالية:

أولًا: سيكون أي كيان سياسي كردي (إقليم أو إدارة ذاتية كبداية) على تواصل جغرافي مع أكراد العراق وتركيا؛ مما يفتح نوافذ التأثير والتأثر، وتدويل القضية الكردية في تركيا(13).

ثانيًا: تشجيع ودعم أكراد تركيا وارتفاع سقف مطالبهم؛ مما قد يقوِّض جهود أنقرة في عملية السلام الداخلية ويذكي مطالب الحكم الذاتي أو الإدارة المحلية في مناطق الجنوب الشرقي ذات الأغلبية الكردية.

ثالثًا: لدى أنقرة تخوفات واضحة من السياسة التي سينتهجها أكراد سوريا في حال أسسوا كيانًا سياسيًّا، سيما في ظل خلافهم مع أنقرة وتقاربهم مع خصومها، ومنهم النظام السوري الذي قال رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي، صالح مسلم، مؤخرًا إنه لا يمانع في عودة قواته للشمال السوري والتعاون معه بشروط(14).

رابعًا: تخشى تركيا أن يعطي هذا الكيان مساحات إضافية لحزب العمال الكردستاني للتدريب وإطلاق عملياته العسكرية ضدها انطلاقًا منها، في فترة وصلت فيها عملية السلام إلى طريق مسدودة(15).

خامسًا: قد يشكِّل ذلك الكيان (الدولة أو ما دون الدولة) المزمع إنشاؤه عازلًا سياسيًّا وجغرافيًّا بين تركيا والدول العربية، وهو أمر له مخاطره وتأثيراته الاستراتيجية على التجربة التركية برمتها.

ولعل هذه الأسباب -وغيرها- تفسر الموقف التركي المتشنِّج من المنظمات الكردية السورية، وخاصة حزب الاتحاد الديمقراطي وقوات حماية الشعب، والمنعكس في تصريح الرئيس أردوغان بأن تركيا “لن تسمح بإنشاء دولة على حدودها الجنوبية مهما كلَّفها الأمر”(16).

أمَّا أهم الأسباب التي دعت تركيا لتغيير موقفها والتدخل العسكري سيما في هذا التوقيت، فهي كالتالي:

ترى أنقرة أن مشروع إقامة كيان سياسي للأكراد السوريين على حدودها الجنوبية خط أحمر من منظور معايير أمنها القومي للأسباب سابقة الذكر. هنا، يمكن القول: إن أنقرة عملت وفق مبدأ “إذا أردت أن تحل مشكلة فافتعل مشكلة”، مستثمرة الهجمات التي تعرَّضت لها من قبل كلٍّ من تنظيم الدولة وحزب العمال الكردستاني لتسخين الأجواء على الحدود وجعلها أكثر مواءمة لفكرة المنطقة الآمنة.

تعتبر تركيا حزب العمال الكردستاني التهديد الأبرز لأمنها القومي، والملف الكردي أكثر ملفاتها حساسية؛ ولذلك كانت الهجمات التي نفذها الحزب وأعلن مسؤوليته عنها في فترة تعاني فيها العملية السياسية من جمود ملحوظ سببًا لتغير الموقف التركي.

تفجير مدينة سوروج التركية الذي أشارت أصابع الاتهام فيه إلى تنظيم الدولة كأول عملية كبيرة له في الداخل التركي؛ مما قد يشير إلى أنه قد دخل مرحلة جديدة معها عنوانها استهداف تركيا.

كانت حالة التوازن السابقة بين تنظيم الدولة وقوات حماية الشعب الكردية فرصة لتركيا لممارسة “سياسة الانتظار” والترقب، باعتبار أن كليهما مصنَّف من قبلها كمنظمة إرهابية ويشكِّل خطرًا عليها، فكان انشغالهما ببعضهما البعض كافيًّا لتركيا وحاميًّا لحدودها، بيد أن اختلال هذا التوازن مؤخرًا زاد من المخاطر المحتملة، فأرادت أنقرة التدخل قبل فوات الأوان وارتفاع فاتورة التدخل.

الاتفاق النووي بين إيران والغرب (دول 5+1) الذي قد يعني استراتيجيًّا استبدالها بتركيا في ملفات المنطقة وإطلاق يدها في الإقليم، سيما بعد رفع العقوبات الاقتصادية عنها(17).

نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة في تركيا، والتي تراجع فيها الحزب الحاكم بنسبة تصل إلى 8.5%، وحرمته من الأغلبية المطلقة لتشكيل الحكومة بمفرده؛ وهو ما أدى إلى إضعاف موقفه في مواجهة الضغوط الداخلية والخارجية (الأميركية) وحَدَّ من إمكانية استقلاليته في السياسة الخارجية كما اعتاد مؤخرًا(18).

الانتخابات المبكرة التي تلوح اليوم كأوفر الخيارات حظًّا؛ مما جعل العدالة والتنمية والحكومة حريصين على اتخاذ موقف قوي وحازم في مواجهات الهجمات والتفجيرات، حرصًا على أصوات الناخبين، وخاصة القوميين الناقمين على العملية السياسية وما يعتبرونه تنازلات قدَّمتها الحكومة “للإرهابيين”، وهو ما دفع بعض أقطاب المعارضة التركية لاتهام الحزب الحاكم بافتعال العنف لاستثماره في الانتخابات المبكرة(19).

الاتفاق الأميركي-التركي والمنطقة الآمنة

مع الإعلان عن تشكيل التحالف الدولي لمكافحة تنظيم الدولة (داعش)، وضعت أنقرة ثلاثة شروط لانخراطها الفعلي في المعارك الميدانية، في مقدمتها المنطقة الآمنة على الحدود التركية-السورية، تحقيقًا لعدة أهداف، أهمها:

تخفيف عبء اللاجئين السوريين، سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا وأمنيًّا، من خلال نقل معظمهم إلى هذه المنطقة، خصوصًا وأن تقييم العدالة والتنمية ما بعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة يُظهر أن اللاجئين السوريين كانوا أحد عوامل تراجعه فيها، خصوصًا في المدن الحدودية(20).

إعاقة إعلان أي كيان سياسي كردي على حدود تركيا الجنوبية، يكون على تواصل مع المناطق الكردية في كل من تركيا والعراق، ومنع تشكيل ممر نحو المياه يحمل أهمية استراتيجية بخصوص نقل النفط.

حماية الحدود من أية هجمات انتقامية من أيٍّ من خصومها العديدين، مثل تنظيم الدولة/داعش، وحزب العمال الكردستاني، وقوات حماية الشعب الكردية، وإيران، ونظام الأسد.

تأمين نفسها في مواجهة أي تدفق محتمل من اللاجئين السوريين، ومن حملة “تطهير عرقي” ضد التركمان والعرب قد تقوم بها القوات الكردية مستقبلًا(21).

استثمار المنطقة الآمنة كنقطة تموضع وانطلاق للمعارضة السورية، وحمايتها جوًّا من قوات الأسد، تمهيدًا لتقدمها نحو دمشق تدريجيًّا وعلى المدى الطويل إن أمكن، باعتبار أن المنطقة الآمنة ستفرض -واقعيًّا أو افتراضيًّا- حظرًا على طيران النظام.

على مدى شهور عديدة، رفضت الولايات المتحدة الطلبات التركية وخاصة المنطقة الآمنة(22)، واعتبرتها غير ذات أولوية، بل وصل الأمر لإنكار وجود طلب تركي بهذا الصدد، بينما تم التوصل بين الطرفين لاتفاق على تدريب وتسليح المعارضة السورية المعتدلة، وهو المشروع الذي لم يَسِر حتى الآن كما هو مخطط له لعدة أسباب، أهمها الخلاف بين الطرفين على تحديد مصطلح “الاعتدال” وعلى اختيار العناصر.

من ناحيتها، طالبت واشنطن أنقرة بالسماح لها باستخدام قواعدها العسكرية الجوية، وخصوصًا قاعدة إنجرليك في محافظة أضنة القريبة من الحدود السورية، لما لها من أهمية استراتيجية في زيادة فاعلية العمليات وتخفيض تكلفتها وخسائرها المحتملة(23). لكن تركيا بدورها رفضت مرارًا هذا الطلب، رغم أن بعض الدوائر تحدث عن اتفاق سري أُبرم لاحقًا بين الطرفين، فُتحت من خلاله القاعدة للطائرات بدون طيار الأميركية(24).

لاحقًا، سرَّعت التطورات المتلاحقة عملية التفاوض بين الطرفين، واعتمادًا على تفويض البرلمان للحكومة التركية بعمليات خارج الحدود وفتح الأراضي والقواعد التركية لقوات أجنبية والذي ما زال ساري المفعول(25)، أعلنت الخارجية التركية عن اتفاق قد أُبرم مع الولايات المتحدة يتضمن التعاون بين الطرفين في مكافحة تنظيم الدولة والسماح لها ولقوات التحالف الدولي باستخدام قاعدة إنجرليك(26)، فيما بدا وكأنه الثمن الذي قدمته أنقرة في مقابل الموافقة الأميركية على إنشاء المنطقة الآمنة، أو على الأقل بادرة حسن نية وتراجع أملًا في هذه الموافقة.

بيد أن الطرفين، الأميركي والتركي، تجنَّبا الحديث عن تفاصيل الاتفاق الذي بقي غير مكتوب وغير معلن؛ مما أبقاه في دائرة التوقعات والتخمينات والتحليلات. فقد أشار معظم التقارير -المعتمدة أساسًا على تسريبات من الطرفين- إلى موافقة أميركية مبدئية على إنشاء منطقة آمنة غربي نهر الفرات(27)، لا يتم الإعلان عنها رسميًّا ولا تنتقل إليها القوات التركية، بل يقضي الاتفاق بطرد قوات تنظيم الدولة منها (ولذلك ستُسمَّى آمنة أو نظيفة)، بينما أشارت المصادر التركية إلى نيَّة أنقرة نقل بعض اللاجئين السوريين إلى تلك المنطقة(28). تقارير أخرى ذكرت أن إعلانًا عن حظر للطيران لن يصدر، بل سيكون -شأنه شأن المنطقة الآمنة- أمرًا واقعًا بفعل تواجد طيران التحالف في المنطقة، وهو ما سيضمن عدم اعتداء طائرات النظام السوري(29).

ولئن كان المعنى المباشر لكل تلك الخطوات هو تراجع تنظيم الدولة وتحديد نفوذ قوات الحماية الكردية بما سيعني تقوية المعارضة السورية المدعومة أميركيًّا وتركيًّا، إضافة إلى اضطرار قوات الأسد إلى التراجع لعدم الاشتباك مع قوات التحالف(30)، فإن السيناريو المفضل تركيًّا -أي سيناريو إسقاط الأسد ابتداءً من هذه المنطقة- لا يبدو سهلًا، ولا ينبغي المبالغة بتوقع توغل عسكري بري للقوات التركية في الأراضي السورية، للأسباب التالية:

أولًا: قناعة الحكومة التركية من الناحية النظرية والاستراتيجية بخطورة التورط العسكري المباشر في سوريا، خصوصًا أن الصراع يحمل أبعادًا إثنية ومذهبية تعمِّق الأزمة ولا تحلها(31). أكثر من ذلك، تعتبر تركيا أن بعض الأطراف التي لم تُسمِّها هي من تريد “توريطها” في سوريا؛ مما قد يعيدنا إلى التوجس التركي من خطط واشنطن في المنطقة في ظل الكثير من الشواهد على نيتها استبدال حلفائها في الإقليم.

ثانيًا: عدم الاتفاق حتى الآن على الرؤية حول حل الأزمة السورية مع الولايات المتحدة، قائدة التحالف الدولي والحليف الاستراتيجي لتركيا، بدليل تعثر مشروع تدريب وتسليح المعارضة السورية، وغياب الدعم الأميركي الكامل لفكرة المنطقة الآمنة، واقتصارها على رقعة جزئية فقط من التصور التركي الأولي مع ترك مناطق مهمة شرقي نهر الفرات للقوات الكردية؛ الأمر الذي يظهره الفرق الواضح بين تصور أنقرة السابق للمنطقة الآمنة وما تم الاتفاق عليه وفق التقارير الصادرة.

الخريطة رقم 2: المنطقة/المناطق الآمنة المفترضة وفق الاتفاق التركي-الأميركي في يوليو/تموز 2015، بطول 90 كلم بين المعرة وجرابلس (غربي نهر الفرات)، وبعمق يصل في بعض الأماكن إلى 50 كلم (المصدر صحيفة الصباح)(32).

ثالثًا: حالة عدم الاستقرار السياسي في البلاد، في ظل محاولات تشكيل الحكومة الائتلافية والغموض بشأن الشريك المحتمل فيها، إضافة لسيناريو إعادة الانتخابات.

رابعًا: معارضة قيادة الجيش التركي لأي عملية موسعة حاليًا، وتفضيلها انتظار تشكيل الحكومة الجديدة وترقية قيادة جديدة للقوات المسلحة لاتخاذ قرار بهذا الحجم(33).

خامسًا: حسابات التورط في المستنقع السوري، ومواقف داعميه روسيا وإيران المحتملة، خصوصًا بعد الاتفاق النووي.

سادسًا: رفض الرأي العام التركي في أغلبيته للتدخل التركي في سوريا(34).

سابعًا: الانعكاسات الاقتصادية المتوقعة في حال تدخلت تركيا عسكريًّا في سوريا واستطال الأمر، وهو ما سيُعمِّق الأزمة الاقتصادية الحالية في البلاد.

ثامنًا: ضعف فصائل المعارضة السورية وعدم جاهزيتها بما يصعِّب من إمكانية التعاون معها أو الاعتماد عليها في أي عملية محتملة.

تاسعًا: التحوط من أية عمليات انتقامية في الداخل التركي أو على الحدود من قبل التنظيمات الكردية أو تنظيم الدولة أو النظام السوري.

عاشرًا: الحاجة لقرار دولي لمثل هذا التدخل الذي لن يكون بمقدور تركيا استصداره، إضافة إلى عدم توقعها دعمًا من دول التحالف أو الدول العربية، لارتباطها الوثيق بالقرار الأميركي وانشغال بعضها بالحرب في اليمن.

السيناريوهات المتوقعة

في ظل المعطيات السابقة والتطورات المذكورة والتوقعات المستقبلية، يبدو المشهد أمام ثلاثة سيناريوهات محتملة إزاء التحرك التركي الأخير:

الأول: استثمار تركيا التطورات الأخيرة والاتفاق مع واشنطن لإنشاء المنطقة الآمنة، وصولًا إلى منع إقامة أي كيان سياسي كردي على حدودها، وهو السيناريو المرجح في رأينا لثلاثة أسباب رئيسة:

المحاذير الجوهرية التي تمنع تركيا -نظريًّا وعمليًّا- من التوغل في العمق السوري.

كون الأكراد (حزب العمال الكردستاني وقوات حماية الشعب) الخطر رقم واحد وفق منظور الأمن القومي التركي.

الاتفاق المبدئي بين أنقرة وواشنطن على إنشاء المنطقة الآمنة بالحدِّ الأدنى وبسيناريو الأمر الواقع، فضلًا عن أن الانخراط التركي الحالي في التحالف الدولي سيخفِّض من الوزن النوعي للقوات الكردية ويقلِّل من اعتماد واشنطن عليها، وهو ما انعكس على التصريحات الأميركية بدعم تركيا “في مواجهة الإرهاب”(35)؛ مما يعني ضمنيًّا أن واشنطن ليست في وارد دعم الأكراد السوريين في مشاريعهم الانفصالية، كضمانات قُدِّمت لأنقرة بين يدي إقناعها بالمشاركة(36).

الثاني: استثمار تركيا الدعم الأميركي لها وانخراطها النشط في التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة، لتحويل الشمال السوري إلى نقطة انطلاق وتقوية للمعارضة السورية في مواجهة نظام الأسد، وهو سيناريو أقل حظًّا من سابقه بطبيعة الحال.

ذلك أن الانخراط التركي الفعلي في عملية إسقاط تدريجي للنظام في دمشق عن طريق دعم المعارضة السورية يحتاج إلى قرار أممي غائب وغير مرجح بسبب الفيتو الروسي، وموافقة أميركية مترددة تضطر تركيا أحيانًا لخطب ودها عبر وسائل الإعلام(37)، ومساعدة إقليمية ليست في الوارد في الوقت الحالي على الأقل، فضلًا عن الاستعدادات التركية غير المكتملة وتصريحاتها المعلنة بعدم نيتها التدخل برًّا(38).

كما يمكن إضافة عامل مهم آخر، وهو أن أي تدخل تركي في عمق الأراضي السورية سيتطلب من تركيا ضربات أقوى وأعمق لمعسكرات حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل في العراق، وهو ما يمكن أن يُعمِّق الأزمة مع الحكومة المركزية في بغداد، عدا أنه غير مضمون العواقب.

بيد أن هذا السيناريو يبقى مؤجَّلًا لوقت لاحق وظروف أكثر مواءمة، كخيار احتياطي إذا ما توفرت شروطه الموضوعية أو حصلت تطورات استثنائية تفرضه فرضًا.

الثالث: اكتفاء تركيا بقصف تكتيكي ضد تنظيم الدولة وحزب العمال الكردستاني، دون أي استفادة استراتيجية من ذلك، لا على صعيد تحقيق رؤيتها للحل في سوريا، ولا حتى على مستوى تنفيذ فكرة المنطقة الآمنة.

وهو سيناريو مستبعد جدًا إذا ما وضعنا في عين الاعتبار التطورات الأخيرة وقيَّمناها وفق سياقها الطبيعي، سيما الاتفاق الأخير بين أنقرة وواشنطن، لكنه قد يكون السيناريو المنفَّذ فعليًّا حتى تاريخ تشكيل الحكومة التركية المقبلة أو إعادة الانتخابات.

خاتمة

لا شك أن التحرك العسكري التركي مؤخرًا أدخل تركيا والمنطقة في مرحلة جديدة مختلفة تمامًا عن سابقتها، عنوانها الانخراط التركي النشط في ملفات المنطقة عسكريًّا.

بيد أن هذا التحرك يكتنفه الكثير من العوائق والمثبطات، الداخلية والخارجية، الآنية والاستراتيجية، مما يجعله حذرًا جدًّا وبطيئًا للغاية وفي الحدود الدنيا؛ فما زالت تركيا من الناحية النظرية معتمدة في سياستها الخارجية على القوة الناعمة ورافضة للتورط في الحروب المباشرة إلا اضطرارًا، كما أنها غير قادرة على فرض ما تريد من الناحية العملية، في ظل ثبات خصومها على مواقفهم واستمرار خلافها مع حليفها الأميركي حتى إن المنطقة الآمنة لم تنتقل بعد إلى حيز التنفيذ ولا يُتوقع لها ذلك في القريب العاجل، فالاتفاق حولها -مبدئيًّا أو على تفاصيلها- ليس شيئًا مقطوعًا به حتى الآن، بل ربما لا تزال المفاوضات جارية بين الطرفين.

لكن بكل الأحوال، تبدو اللحظة الآنية مناسبة لأنقرة لمحاولة فرض وقائع تكتيكية على شكل منطقة آمنة تريحها من هاجس دولة كردية على حدودها الجنوبية، وتزيد من فرصها في التأثير على الملف السوري برمته مستقبلًا، من خلال تفعيل مشروع تدريب وتسليح المعارضة السورية، وأيضًا عبر تواجدها على الأرض السورية فعليًّا أو افتراضيًّا.

إن التأثير التركي العميق والمباشر في كل من سوريا والعراق لا يبدو ممكنًا في الوقت الراهن ولا في المستقبل القريب جدًّا؛ فالتطورات المستقبلية ليست رهنًا بالقرار التركي أو حتى بالاتفاق الأميركي-التركي وحده، بل أيضًا باتفاق آخر لم تُعرف كل تفاصيله حتى اللحظة، وهو الاتفاق النووي بين إيران والدول الغربية، والذي يفترض أنه رسَّم أو حدَّد مناطق ومساحات النفوذ الإيراني في قضايا المنطقة، وهو ما سيؤثر بشكل مباشر على حدود وإمكانيات وآفاق الدور التركي المفترض في المنطقة، تحديدًا في كل من سوريا والعراق.

د. سعيد الحاج: باحث متخصص في الشأن التركي

 

الهوامش والمصادر

1-   أردوغان: أيام الأسد في الحكم معدودة، الجزيرة نت، 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2011، (تاريخ الدخول 3 أغسطس/آب 2015): http://goo.gl/lFzhsO

2-  تركيا لم توقِّع على البيان الختامي لاجتماع جدة، أخبار تركيا، 12 سبتمبر/أيلول 2014، (تاريخ الدخول 3 أغسطس/آب/ 2015): http://akhbarturkiya.com/?p=33728

3-  Erdo?an Sets Three Conditions to Join Anti-?S?L Coalition, Yeni?afak English, 31 October 2014, (Date of Entrance: 3 August 2015): http://goo.gl/01KFlc

4- Liz Sly, For Turkey and U.S., at odds over Syria, a 60-year alliance shows signs of crumbling, The Washington Post, 29 October 2014, ((Date of Entrance: 3 August 2015): https://goo.gl/265JNO

5-   واشنطن تقر ببطء برنامج تدريب المعارضة السورية، الجزيرة نت، 19 يونيو/حزيران 2015، (تاريخ الدخول 3 أغسطس/آب 2015): http://goo.gl/fm56Hz

6- At least 31 dead as Kobani protests rage on Turkish streets, Todays Zaman, 11 October 2015, (Date of Entrance: 3August 2015): http://goo.gl/s9WTjX

7-  President Erdogan Lambasts NYT Over ?S?S Allegations, Daily Sabah, 18 October 2014,(Date of Entrance: 3August 2015): http://goo.gl/RgmrHK

8-  حزب العمال الكردستاني يتبنى قتل شرطيين تركيين، العربية نت، 22 يوليو/تموز 2015، (تاريخ الدخول 3 أغسطس/آب 2015): http://goo.gl/VfJRhS

9-  بغداد تصف القصف التركي بالتطور الخطير، سكاي نيوز عربية، 29 يوليو/تموز 2015، (تاريخ الدخول 3 أغسطس/آب 2015): http://goo.gl/JhG8AY

10-  Turkey disappointed by Iraqi PM’s criticism of airstrikes against PKK, Hurriyet Daily News, 31 July 2015,(Date of Entrance: 3August 2015): http://goo.gl/FfKE3m

11-  تنظيم الدولة الإسلامية يسيطر على مناطق للمعارضة السورية في ريف حلب الشمالي، BBC  عربي، 1 يونيو/حزيران 2015، (تاريخ الدخول 3 أغسطس/آب 2015): http://goo.gl/pYRaKF

12-  Erdal ?afak, PKK-linked PYD’s takeover of Tal Abyad direct threat, says president Erdo?an,Daily Sabah, 14 June 2015, (Date of Entrance: 3August 2015): http://goo.gl/sm4Hov

13- تُشدِّد الحكومة التركية على أن القضية الكردية شأن تركي أو مشكلة داخلية وليست قضية إقليمية أو حربًا بين أعداء؛ ولذلك فهي تفضِّل استعمال مصطلح “الحل” أو “التسوية” وليس “السلام” لوصف العملية السياسية الجارية.

14- صالح مسلم: الأكراد مستعدون للانضمام للجيش السوري إذا غيَّر عقليته، وكالة أوقات الشام الإخبارية، 27 يوليو/تموز 2015، (تاريخ الدخول 3 أغسطس/آب 2015):

http://www.shaamtimes.net/news-detailz.php?id=35134

15-  Berat özipek, Kürt devleti kurulsa ne olur, t24, 2 August 2015, (Date of Entrance: 4 August 2015): http://t24.com.tr/haber/kurt-devleti-kurulsa-ne-olur,209955

16-   أردوغان: لن نسمح بإنشاء دولة شمالي سوريا، الجزيرة نت، 27 يونيو/حزيران 2015، (تاريخ الدخول 4 أغسطس/آب 2015): http://goo.gl/xWKPAq

17-  يرى الكثير من التقارير والدراسات أن الاتفاق بين إيران ودول (5+1) لم يقتصر على الملف النووي، بل تعدَّاه لرسم العلاقة بين الطرفين وحدود النفوذ الإيراني، انظر مثلًا:

الصمادي، فاطمة، ما بعد الاتفاق النووي: حسابات إيران وعلاقاتها، مركز الجزيرة للدراسات، 28 يوليو/تموز 2015، (تاريخ الدخول 4 أغسطس/آب 2015): http://goo.gl/t5Ytjk

18- الرنتيسي، محمود، الانتخابات والسياسة الخارجية التركية، مركز الجزيرة للدراسات، 1 يوليو/تموز 2015، (تاريخ الدخول 4 أغسطس/آب 2015): http://goo.gl/JbrzpN

19-  المعارضة التركية تتهم أردوغان بعرقلة مساعي تشكيل ائتلاف حكومي، القدس العربي، 3 أغسطس/آب 2015، (تاريخ الدخول 4 أغسطس/آب 2015): http://www.alquds.co.uk/?p=381790

20- ملحوظة أوردها عدد من الإعلاميين والمحللين السياسيين المقربين من العدالة والتنمية على لسان رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو في أحد اجتماعات هيئة حزب العدالة والتنمية المركزية.

21- تركيا: مؤشرات على ارتكاب “تطهير عرقي” شمالي سوريا، BBC عربي، 16 يونيو/حزيران 2015، (تاريخ الدخول 4 أغسطس/آب 2015): http://goo.gl/RSjaHN

22-  LESLEY WROUGHTON AND PHIL STEWART, U.S. playsdown idea of safe zone along Syria – Turkey border, Reuters, 1 December 2014, (Date of Entrance 4 August 2015): http://goo.gl/n3tgRw

23- Ishaan Tharoor, This Turkish base could be a game-changer in the U.S.-led war against the Islamic State, The Washington Post, 24 July 2015, (Date of Entrance 4 August 2015): https://goo.gl/a2QCmW

24- Ali ünal, Deployment of armed drones to ?ncirlik Air Base nothing new, sources say, Daily Sabah, 9 July 2015, (Date of Entrance 4 August 2015): http://goo.gl/jhflwT

25-  تركيا: البرلمان يفوِّض الحكومة في إرسال القوات المسلحة للخارج، أخبار تركيا، 2 أكتوبر/تشرين الأول 2014، (تاريخ الدخول 4 أغسطس/آب 2015):   http://goo.gl/tDiAf7

26-   الرقم: 212، التاريخ 24 يوليو/تموز 2015، بيان حول الاتفاق الذي تم التوصل إليه مع الولايات المتحدة الأميركية بخصوص مكافحة تنظيم داعش، موقع وزارة الخارجية التركية، (تاريخ الدخول 4 أغسطس/آب 2015):

http://goo.gl/nnE12k

27-  Karen De Young and Liz Sly, U.S. – Turkey deal aims to create de facto ‘safezone’ in northwest Syria, The Washington Post, 26 July 2015, (Date of Entrance 4 August 2015): https://goo.gl/BMDpmW

28- أردوغان: المنطقة الآمنة أرضية لعودة اللاجئين إلى سوريا، ترك برس، 26 يوليو/تموز 2015، (تاريخ الدخول 4 أغسطس/آب 2015): http://turkpress.co/node/10982

29- Turkey says parts of Syria to become ‘safe zones’, Aljazeera, 25 July 2015, (Date of Entrance 4 August 2015): http://goo.gl/5NHr7q

30- خلفيات التفاهم التركي-الأميركي وتداعياته على الأزمة السورية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2 أغسطس/آب 2015، (تاريخ الدخول 4 أغسطس/آب 2015): http://goo.gl/6wZAEd

31- للمزيد حول نظرية “تصفير المشاكل”، انظر:

داود أوغلو، أحمد، العمق الاستراتيجي: موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية، ترجمة محمد جابر ثلجي وطارق عبدالجليل، (مركز الجزيرة للدراسات، الدوحة، 2010)، ص170.

32-  ?ncirlik’e kar?? güvenli bölge, Aljazeera Türk, 24 July 2015, (Date of Entrance: 4 August 2015): http://goo.gl/tODf3I

33- الجيش التركي يعارض مطالب الحكومة بالتدخل في سوريا، القدس العربي، 27 يونيو/حزيران 2015، (تاريخ الدخول 4 أغسطس/آب 2015): http://www.alquds.co.uk/?p=363786

34-  الرنتيسي، محمود، التحالف ضد “تنظيم الدولة”: معطيات وشروط تركية، مركز الجزيرة للدراسات، 20 أكتوبر/تشرين الثاني 2014، (تاريخ الدخول 4 أغسطس/آب 2015): http://goo.gl/lmPZrn

35- واشنطن تؤيد الغارات التركية بشمال العراق، الجزيرة نت، 26 يوليو/تموز 2015، (تاريخ الدخول 4 أغسطس/آب 2015): http://goo.gl/VdAF6J

36-  US ‘opposes’ establishment of autonomous Kurdish entity in northern Syria, Middle East Monitor, 15 July 2015, (Date of Entrance: 4 August 2015): https://goo.gl/Yn3uQP

37-  نشر رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو مقالًا في صحيفة واشنطن بوست لشرح موقف بلاده في حربها على “الإرهاب”، انظر:

DAVUTO?LU Ahmet, Turkish prime minister: We will stop at nothing to defeat terrorism, The Washington Post, 30 July 2015, (Date of Entrance: 4 August 2015):

https://goo.gl/34URej

38- داود أوغلو: لن نرسل قوات برية إلى سوريا وعملياتنا يمكن أن تغيِّر التوازن في المنطقة، TRT العربية، 27 يوليو/تموز 2015، (تاريخ الدخول 4 أغسطس/آب 2015): http://goo.gl/qQXISg

 

 

 

 

التركية لا يفهمها الجميع/ مصطفى زين

من مبادرات الجامعة العربية (هل تذكرون الجنرال الدابي وإفشال مهمته؟) إلى الأمم المتحدة (هل تذكرون أنان والإبراهيمي ومؤتمري جنيف ولقاءات موسكو؟). كلها انتهت. الجميع شارك في إفشالها. النظام وجد فيها انتقاصاً من سلطته وسيادته، المعارضة التي لم تكن موحدة، وما زالت حتى اليوم، ولكل من الحلفاء برنامجه وأطماعه في بلاد الشام والعراق أيضاً. كل ذلك ساهم في إفشال تلك المبادرات، فكل طرف معني بالمسألة السورية كان يفضل الحل العسكري وكسر إرادة سورية الدولة والشعب، وتغيير سياساتها المتعلقة بالموقف من إيران وإسرائيل وأميركا وتركيا، ومن الوضع الجيواسترتيجي المتحوّل في الإقليم وخارجه، ولن نذكر الأطراف الضعيفة القادرة على التعطيل.

بعد أكثر من أربع سنوات على الحروب في سورية وعليها، وطحن شعبها وتشريد نصفه، عادت المبادرات الديبلوماسية، والعسكرية أيضاً، إلى سابق نشاطها. هناك مبادرة روسية بالتفاهم مع أميركا، ومبادرة إيرانية «معدلة» سترسلها طهران إلى الأمم المتحدة بعدما تشاورت مع النظام وحلفائها الآخرين. وعلى أساسها انتقل الوزير وليد المعلم من طهران إلى مسقط للقاء المسؤولين العمانيين الذين اضطلعوا بدور فاعل في التقريب بين أميركا وإيران في مفاوضات الملف النووي.

تدعو المبادرة الإيرانية المعلنة إلى: وقف النار، وإجراء انتخابات نيابية، ووضع دستور جديد يأخذ في الاعتبار مختلف مكونات الشعب السوري، وتشكيل حكومة وطنية جامعة. لكنها لم تذكر مصير الأسد الذي تعتبره واشنطن والرياض وأنقرة وكثير من العواصم فاقداً الشرعية، ما يوحي بأن تفاهماً ما حصل مع روسيا وأميركا على عدم ذكره، واعتبار بقائه تحصيل حاصل، مع تحديد صلاحياته ونقل بعضها إلى الحكومة العتيدة، فالمسؤولون الأميركيون، على سبيل المثال، يكررون قولهم أنه فقد الشرعية، لكنهم في الوقت ذاته لم يعودوا يدعون إلى رحيله. ويؤكدون دائماً وجوب المحافظة على الجيش ومؤسسات الدولة كي لا يحصل في سورية مثلما حصل في ليبيا والعراق، وتتحول إلى ملاذ للإرهاب، ما يعني أن إطاحته قد تؤدي إلى تفكيك هذه المؤسسات.

تركيا وحدها تغرد خارج هذه المبادرات، معلنة البدء بغزو سورية، وإقامة منطقة عازلة بإشراف «المعارضة المعتدلة» التي تدربها بالتعاون مع الولايات المتحدة، ومعظم عناصرها من التركمان الموالين لها. هدفها ليس إعادة اللاجئين السوريين إلى هذه المنطقة، على ما أعلنت، بل تشكيل حاجز «تركماني» بين أراضيها والأكراد الذين يتعاونون مع الجيش النظامي ضد «داعش» و»النصرة» في الشمال السوري، وإيجاد «مكون» تابع لها يتكلم باسمها عندما يحين وقت المساومات والتسويات، أي الاعتماد على العنصر الإثني لتنفيذ سياسة قصيرة النظر، فقد ثبت فشل هذه السياسة في العراق وفي غير بلد.

لتحضير المنطقة العازلة، اتخذت أنقرة خطوات عملية. غيرت رئيس الأركان. وبدأت إعادة نشر حلفائها من المنظمات المسلحة، بالتفاهم مع «جبهة النصرة» التي أخلت بعض مواقعها الحدودية وانتقلت إلى الداخل. وسمحت للطائرات الأميركية بالانطلاق من قاعدة إنجيرليك لضرب «داعش» في الداخل السوري.

كان المؤمل إقامة هذه المنطقة العازلة في الشمال السوري بالتوازي مع أخرى مشابهة في الجنوب للضغط على النظام من الجهتين والوصول إلى حلب ودمشق، أي إلى العاصمتين الاقتصادية والسياسية، وخوض المعركة الفاصلة فيهما. لكن المهاجمين فشلوا في الجنوب، وبقي السيد أردوغان مصراً على المضي في تحقيق مخططه الذي وضعه منذ بداية الحرب قبل ما يزيد على أربع سنوات، وكانت واشنطن تعارضه وتطرح بدائل لم تحقق ما يريده الطرفان، أي إطاحة النظام، وذلك لأسباب كثيرة منها أن البديل (المعارضة) غير قادر على الإمساك بالحكم. والأهم من ذلك أن لكل من الحلفاء هدفه المختلف في «سورية الجديدة»، لا يجمعهم سوى العداء للنظام.

المبادرات الديبلوماسية ما زالت في بداياتها وقد تفشل كما فشلت سابقاتها، أما المبادرة العسكرية فلها ركائز على الأرض بناها أردوغان وغيره منذ بدايات الحرب. لذا ليس مستغرباً أن ينجح الغزو. لكن ما سيخلقه من وقائع جديدة، مثل تصعيد الأكراد في الداخل التركي، وتحرك باقي المكونات فليست واضحة في ما يعلنه السلطان الجديد، وقد تأخذ المنطقة إلى حروب وفتن جديدة، فضلاً عن إطالة أمدها في سورية.

لم يكن الجميع يفهم اللغة العثمانية. وليس الجميع يفهم التركية الآن فقد تغيرت حروفها!

الحياة

 

 

 

 

السياسة التركية بحاجة إلى براغماتية أخلاقية/ ارشد هورموزلو

سألني محدثي قائلاً: واكبت السياسة التركية منذ عقود عدة، وكنت قريباً من مراكز اتخاذ القرار لسنوات عدة، فماذا ترى أنه الأصلح للسياسة التركية إتباعه داخلياً وخارجياً؟

أجبت من دون تردد: البراغماتية الأخلاقية. ولكي لا يساء الفهم فإنه يقتضي أن اذكر هنا ما يتم تداوله حول البراغماتية، فهناك الكثيرون ممن يعتبرون البراغماتية نوعاً من تغليب المصالح مهما كان الثمن، فقد ذكر مراراً أن الحقيقة هي مطابقة الأشياء لمنفعتنا، لا مطابقة الفكر للأشياء وبمعنى أن الثوابت التي تم اعتمادها منذ القدم ليست حقائق مطلقة بل ربما أمكننا أن نقول أنها خاطئة.

في حين نرى نحن الذين نعبر عن إيماننا دوماً أن ثوابتنا مطلقة يجب الحفاظ عليها ويجب تغليبها على المصالح مهما اختلفت معتقداتنا الدينية والأيديولوجية، ولكننا يجب أن نكون في نفس الوقت واقعيين في اتخاذ القرار بما يؤمن المنفعة والقدرة لأوطاننا، بل وحتى على مستوى الأفراد بما لا يدع المجال لتغليب الخيال على الواقع حتى لو كان مريراً.

ما أعنيه هو أنك إذا رأيت نفسك وقد اعترض طريقك نهر دافق فإن من الطبيعي أن لا تقف على شاطئه منتظراً توقف الماء عن التدفق بل أن تجد الحلول اللازمة لعبور هذا النهر وهي كثيرة ومتنوعة، فما بال بعض السياسيين ينتظرون توقف المياه عندما نعلم نحن علم اليقين أنها سوف لن تتوقف؟

وعلى مستوى الدول والأفراد أرى أنه يجب الحفاظ على مبادئنا وثوابتنا ما دمنا مؤمنين بصحتها وصلاحها مع عدم التفريط بأسس السياسة الواقعية التي تحفظ الأمن والأمان لبلداننا.

في الشأن السوري مثلاً هناك الكثيرون ممن كانوا يعيبون على تركيا أنها تتحدث كثيراً ولا تفعل شيئاً. وعندما بدأت الأمور تتضح أصبح آخرون يتحدثون عن خطر التدخل التركي. وإذا ما تمت المقارنة بين الأمرين رأينا أن كل طرف يتحدث بما يؤمن به أو بما يخدم مصالحه.

لقد قلت دائماً أن دم المتظاهر في شوارع درعا ودمشق وحمص وغيرها ودم رجل الأمن الذي يتصدى مرغماً لهؤلاء بناء على أوامر ظالمة سيان في نظري، فهم في النهاية سوريون وإخوة وأقارب، وما يراق هو دم سوري للأسف. من هذا المنطلق دعونا لحل سياسي لا تجهضه ألاعيب المنتفعين ولا يكون من قبيل «رفع العتب» كما يقال، مثلما حدث في جنيف مرة وأخرى، فالظلم واقع في سورية وهناك قمع وتنكيل لا أصدق أن هناك من يرضى به وإن كان البعض مغلوباً على أمره فإنه سيجهر بمعارضته لهذا التنكيل في أول فرصة تتاح له.

مقابل ذلك لننظر إلى ما حدث في مصر، فقد كان هناك رئيس منتخب على رغم أن طريقة انتخابه كانت مثاراً للجدل وهو الرئيس حسني مبارك، وقد نزل عشرون مليون مواطن مصري إلى الشوارع يطالبون برحيله فرحل. وجاء المجلس العسكري يحكم فذهبنا إلى مصر وقدمنا التهنئة بانتصار إرادة الشباب وتحدثنا مع الطنطاوي وعنان والفنجري وآخرين.

ثم تم انتخاب رئيس جديد هو الرئيس مرسي بالطرق الديموقراطية، على رغم أن الكثيرين قالوا أن قلة من الناخبين فقط شاركت في الانتخابات وأن مرسي حاز على ما يزيد على نصف هؤلاء بقليل. ولكن الديموقراطية لعبة معروفة النتائج فقد تم اختيار الرئيس وكفى. ثم نزل عشرون مليوناً يطالبون برحيله فرحل. وأصبح للعسكر سطوة كما يقال. عندها قلنا أن ذلك غير جائز، فما هي هذه المفارقة وأين تكمن؟ فإذا كان موقفنا يتمثل في الدعوة إلى الأسس الديموقراطية وإذا كان الشعب المعني يرضى بذلك فذلك أمر حسن. ولكننا إذا انتظرنا أن يتوقف تدفق النهر فسننتظر طويلاً ولن نحصل على ما نتمناه ولا ما يتمناه الآخرون وهذا ما لا ترضاه براغماتيتنا الأخلاقية قطعاً.

اعتقد أن من الضروري اعتبار رضا الشعوب هو الأهم في اختيار طريقة الحكم أو الامتثال له، فنحن ندعو إلى الديموقراطية واحترام حقوق الإنسان وتغليب الاحتكام إلى صناديق الاقتراع، ولكننا يجب أن لا ننسى أن جميع الدول والمجموعات ليست مرغمة لا للإصغاء إلينا ولا لإتباع ما نراه صحيحاً، إذ لا توجد هناك حقيقة مجردة، ولكن أليس علينا أن نحترم تلك الإرادة كما نريد لإرادتنا أن تحترم؟

ذلك ما قلته لأحد زعماء الدول الذي التقيته مؤخراً، فقد كنت أتحدث معه عن ارتدادات ما سميناه «الربيع العربي» وما تعنيه الديموقراطية لنا، عندها ابتسم قائلاً: يا صديقي لا تنسَ أننا بلد غير ديموقراطي ولنا أسلوبنا الخاص.

قلت له أن ما يهمنا وما يهم الإنسانية هو رضا الشعوب، فإذا كان الشعب أو مجمله راضياً عن الوضع فلسنا في مقعد الواعظ والناصح رغماً عما يبديه الشعب من رغبة حميمة لا تناقش. وفي الحقيقة كنت أعني أننا يجب أن نكون مع كل صحيح ولا نأخذ على عاتقنا مقارعة الخطأ فذلك هو واجب ذلك الشعب أو تلك المجموعة عندما يقرر ذلك وليس عندما نقرر نحن ذلك.

خلاصة القول أن السياسة الواقعية من دون إغفال الثوابت والمبادئ هي الأمر المطلوب فذلك سيخلق لنا جواً مفعماً بالصداقة والود بين تجمعاتنا المختلفة بشرط احترام قرار أية مجموعة أو شعب في ما ينتهجه، فقد قلنا مراراً أن الحدود الجغرافية الموجودة في منطقتنا مقدسة ومعترف بها ولكن حدوداً أخرى يجب إزالتها وهي الحدود والحواجز بين مفاهيمنا وأفكارنا وشعورنا المشترك.

* كاتب وسياسي تركي

الحياة

 

 

 

 

تركيا عكس إيران وروسيا/ سميح صعب

تبدو سوريا الآن في خضم مسارين: الاول ديبلوماسي تقوده روسيا وايران والثاني عسكري تخوضه تركيا رجب طيب اردوغان. والخريطة العسكرية والسياسية لسوريا ستكون رهن أي تطور للاحداث في اتجاه من هذين الاتجاهين.

لن يكون اردوغان راضياً عن اية تسوية في سوريا تبقي الرئيس بشار الاسد في الحكم. وهو يخوض حربه ضد الاكراد تحت مسمى الانضمام الى الائتلاف الدولي لمحاربة “داعش”، والآن يستعد تحت الشعار نفسه لخوض معركة “المنطقة الآمنة” في شمال سوريا التي يعتبرها مقدمة لإسقاط النظام في سوريا أكثر منها لمحاربة “داعش” لأن ثمة شكاً فعلياً في انتهاء الوظيفة التركية للتنظيم وكذلك يصح القول عن “جبهة النصرة” وسائر التنظيمات الجهادية التي نمت في رعاية تركيا ودول الخليج العربية في الآونة الاخيرة باعتبارها الطرف الوحيد الذي يحرز تقدماً في مواجهة النظام السوري ومن خلفه ايران وروسيا.

من هنا ليس عبثاً ان يبحث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن صيغة تعيد رسم خريطة الصراع في سوريا بحيث يتشكل محور معادٍ لـ”داعش” يضم دمشق وانقرة والرياض. لكن الجواب التركي عن المسعى الروسي دخل أيضاً دائرة الابتزاز عندما لمح اردوغان قبل ايام الى انه لمس لدى بوتين مؤشرات تخلّ روسيّ عن الاسد. لكن المضمون الفعلي لكلام الرئيس التركي هو ان القبول التركي بمحور مناهض للجهاديين يضم دمشق مرهون بتخلي موسكو عن الاسد، تماما كما كان شرط اردوغان للسماح للولايات المتحدة باستخدام قاعدة انجرليك، ان تطلق واشنطن يد تركيا في مقاتلة الاكراد.

العقدة التركية جعلت موسكو تذهب في اتجاه السعودية بحثاً عن اختراق سياسي في الازمة السورية من شأنه توفير الجهود لمحاربة الجهاديين الذين لن يقتصر خطرهم على دولة دون أخرى اذا ما تمكنوا من الساحة السورية كلياً. وليس بعيداً من روسيا تنشط طهران بدورها من أجل تغليب الحل السياسي في سوريا على الحل العسكري الذي لا يعني في النهاية سوى سيطرة الجهاديين على سوريا وزعزعة استقرار كل دول المنطقة.

وحده اردوغان وبعض المعارضين الليبراليين العرب وجلّهم من اليسار السابق لا يزالون في المربع الاول للازمة يعتقدون بسذاجة مطلقة ان “داعش” صنيعة النظام السوري وانه بمجرد سقوط النظام يزول “داعش” ويتحول منظمة من منظمات الاغاثة الدولية!

والى ان يحسم السباق بين الديبلوماسية الروسية – الايرانية والخيار العسكري لأردوغان، تبقى سوريا مسرحاً لتصعيد في مسرح العمليات العسكرية شمالاً وجنوباً ووسطاً. لكن الكارثة الكبرى ستكون في حال انتصار الخيار الاردوغاني ليس على سوريا فحسب وانما على المنطقة كلها.

النهار

 

 

 

أردوغان يسترضي أوباما.. في الطريق إلى انتخابات مبكرة/ محمد نور الدين

«تحركت» الجبهة التركية في الداخل والخارج. وكان في مقدمها الاتفاق العسكري بين أنقرة وواشنطن حول استخدام قاعدة انجيرليك من جانب طائرات التحالف الدولي ضد «داعش» وأخواته.

وبالفعل فقد بدأ استخدام القاعدة فعليا منتصف الأسبوع الماضي، حيث أعلن «البنتاغون» شن أول غارة أميركية على قواعد تابعة لـ «داعش» في سوريا انطلاقا في انجيرليك.

الاتفاق الذي أعلن تحوطه تساؤلات عديدة:

1 ـ لقد وقّع الاتفاق منتصف تموز، أي قبل تفجير سوروتش الذي حصل في العشرين من تموز. ولهذا أهميته، إذ إن رئيس الحكومة التركية أحمد داود اوغلو قال إن السبب في إعلان «الحرب» التركية على «داعش» كان تفجير سوروتش وقتل «داعش» لأحد الضباط الأتراك عبر الحدود السورية. وهذا أيضاً حصل بعد تفجير سوروتش. وهذا يطرح علامات استفهام حول تبريرات تركيا للحرب على «داعش»، كونه في الحقيقة استجابة لمطلب أميركي وليس رد فعل على مجزرة سوروتش التي لم يتبنّها «داعش» حتى الآن.

٢ ـ إن القول إن تركيا قدمت القاعدة العسكرية مقابل ضوء أخضر أميركي لحرب أنقرة على «حزب العمال الكردستاني» أمر يعوزه المنطق والوقائع. صحيح أن واشنطن تضع «الكردستاني» في قائمة المنظمات الإرهابية منذ أكثر من عقدين، وساهمت في اعتقال زعيمه عبد الله أوجلان في 15 شباط العام 1999، وسلمته إلى تركيا، لكنها كانت تقف عائقا أمام ذهاب أنقرة حتى النهاية في حربها ضد «الكردستاني». إذ في وقت سابق كانت تريد مراعاة مشاعر الأكراد في شمال العراق قبل أن ينالوا «استقلالهم» الفدرالي، وواشنطن لا تنظر إلى «الكردستاني» على أنه حالة تركية فقط بل جزء من القضية الكردية عموما في الشرق الأوسط.

وواشنطن تنظر الآن إلى الحزب الكردي على أنه جزء من حالة المقاومة ضد «داعش». ولقد حارب «حزب العمال الكردستاني» وبشجاعة دفاعا عن أربيل وسنجار وغيرها من المناطق في شمال العراق عندما تقدم «داعش» في اتجاه أربيل وكان جزءا من الحرب التي وفرت الولايات المتحدة بعض الغطاء الجوي لها. أي أن القوات الأميركية كانت تحارب، إذا جاز التعبير، في الخندق نفسه حيث حارب «الكردستاني».

وإذا كانت تركيا ترى أن «حزب الاتحاد الديموقراطي» الكردي في سوريا هو حزب إرهابي، مثل شقيقه التوأم «حزب العمال الكردستاني»، فإن واشنطن لا تنظر إلى الحزب الكردي في سوريا سوى انه حزب مناضل ضد «داعش» وليس إرهابياً، مع علمها اليقيني انه شقيق لـ «حزب العمال الكردستاني». وتعرف تماماً أن مقاتلي «الكردستاني» كانوا شركاء أساسيين في الدفاع عن عين العرب (كوباني) وعن تل الأبيض.

وبالتالي فإن الولايات المتحدة رغم إعلانها أن لتركيا حق الدفاع عن النفس، فإنها لم تعط أساساً الضوء الأخضر لعمليات قصف الجيش التركي ولن تكون في وارد ذلك. كل ما في الأمر أن واشنطن تترك لأنقرة بعض «فش الخلق» لعلمها استحالة القضاء على «حزب العمال الكردستاني»، لا من جانب تركيا ولا من جانب أميركا، فهو حالة تعكس الروح الوطنية الكردية في تركيا وخارجها، ومواجهته ليست في مصلحة أميركا، وليست حتى في استراتيجياتها حيث الورقة الكردية في كل المنطقة ستبقى موضع استغلال، وهذا حصل سابقاً في العراق وحاليا في سوريا ومفتوح على مصراعيه في تركيا.

كذلك فإن إضعاف القدرة العسكرية الكردية، المتمثلة بـ «حزب العمال الكردستاني»، سيعني إضعافا للمقاتلين الأكراد في سوريا الذين يشكلون الآن العصب الأساسي، مع الجيش السوري، في محاربة «داعش». وبالتالي فإن أميركا يمكن أن تكون منزعجة من تركيز أنقرة حربها على الأكراد لأنه يحرف النظر عن الحرب الأساسية ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» بل يضعفها.

3- قيل إن تركيا فتحت قاعدة إنجيرليك مقابل إقامة منطقة عازلة في سوريا. وهذا يفتح على أكثر من بعد في مسألة المنطقة العازلة. حيث إن أميركا لم تكن موافقة سابقاً على ذلك، لأنه سيدخلها في تعقيدات مع روسيا وإيران الرافضتين، مع النظام السوري، لهذه المنطقة. وهي لم تبدل موقفها، لا سيما في ظل تجديد التحذيرات الروسية والإيرانية والسورية. ومن غير المنطقي في ظل تصاعد الحراك التسووي للأزمة السورية، ومنها اجتماع علي المملوك – محمد بن سلمان واللقاءات الدولية في قطر وطهران، أن تذهب واشنطن إلى خطوة تصعيدية، مثل منطقة عازلة، لم تستطع ترجمتها عندما كانت الموازين لمصلحة المحور المعادي للمحور السوري، فكيف الآن.

لكن يمكن أن تدعم الولايات المتحدة إقامة منطقة «نظيفة» من «داعش» بين جرابلس وعفرين، تكون تركيا هي الداعمة اللوجستية لها بالعدد والعتاد. وهنا كثر الحديث في الأيام الأخيرة عما كنا نشرناه السبت الماضي في «السفير» عن تحضير تركيا لإقامة شريط حدودي داخل سوريا في تلك المنطقة، بحماية آلاف من المسلحين التركمان السوريين، بحيث لا تكون أنقرة بحاجة للتدخل البري المباشر. لكن هذا المنطق في المقابل، يعني أن هناك احتلالاً تركياً غير مباشر لتلك المنطقة.

لقد جاء فتح قاعدة إنجيرليك مباشرة بعد حدثين مهمين: هزيمة رجب طيب أردوغان و «حزب العدالة والتنمية» في الانتخابات النيابية من جهة، وتوقيع الاتفاق النووي بين إيران والغرب من جهة ثانية. وجميع التصريحات التركية بعد إعلان الحرب على «داعش» وعلى «حزب العمال الكردستاني» غير مقنعة وغير مبررة. فلا مقتل جندي تركي هنا أو هناك يدفع إلى هذه الغارات الفجائية والمكثفة على جبال قنديل، ولا تفجير سوروتش وحده، ولم يتبنَّه «داعش» حتى الآن، يفسر إعلان الحرب على «الدولة الإسلامية»، خصوصا انه قبل شهر واحد من تفجير سوروتش كانت أنقرة تقول إن أكراد سوريا أخطر من «داعش» على تركيا. ومن الوقائع على وهن التبريرات التركية أن العمليات التركية ضد «داعش» كانت كاريكاتورية، فيما التركيز كان ولا يزال على قصف «الكردستاني».

كل ذلك يدفع إلى القول إن رجب طيب أردوغان اختار بملء إرادته استرضاء واشنطن ليقدم لها قاعدة إنجيرليك بصورة شبه مجانية، ليس حباً بأميركا ولكن لأنه كان يراهن على تحسين صورته في الغرب كمحارب ضد «داعش»، ولأنه كان يريد، في سياق الحرب ضد «داعش»، «قنص» تأييد الغرب لضرب الأكراد عسكرياً، ونيل غض نظرهم، على الأقل، عن التهشيم السياسي الذي يمارسه في الداخل ضد «حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي. إضافة إلى أن تأخذ تركيا موقعها الجديد، ومن جديد، في إطار المنظومة الغربية الأطلسية لموازنة الانتصار الديبلوماسي الإيراني بعد الاتفاق النووي.

الهدف الأردوغاني من نيل تغطية غربية ضد الأكراد في الخارج والداخل يبقى دائما هو نفسه: استعادة السلطة منفرداً عبر انتخابات نيابية مبكرة في الخريف المقبل. ولأن الأكراد هم الذين كسروه في الانتخابات فإن العودة إلى السلطة منفرداً تتطلب كسرهم هم بالتحديد، من خلال الضغط والتهديد بإغلاق حزبهم ومحاكمة قادته فيذهبون ضعفاء إلى الانتخابات، في حين أن إضعاف «حزب العمال الكردستاني» عسكرياً يسهل على أردوغان إقامة شريط احتلال غير مباشر في شمال سوريا، بعيداً عن تهديدات الأكراد السوريين، فيخرج على الأتراك بأنه حمى الأمن القومي التركي وكسر المشروع الكردي في استكمال شريطهم داخل سوريا، فينال نسبة من أصوات القوميين الذي يؤيدون اليوم «حزب الحركة القومية».

كل الحركة التركية الحالية تعكس من جهة خشية من تعاظم خسائر أنقرة الإقليمية، ومن جهة ثانية سعياً لتوظيف كل هذا التوتير والفوضى والتهديدات والدم والدموع من أجل هدف واحد: استعادة سلطة الحزب الواحد والزعيم الواحد في انتخابات مبكرة. فهل تصح رهانات أردوغان أم تحدث المفاجأة بتشكيل حكومة جديدة تحت ضغط الخارج، أم تعيد انتخابات مبكرة النتائج نفسها؟

السفير

 

 

 

 

أردوغان نحو تحسين حظوظه/ مصطفى كركوتي

لم يعد سراً أن حكومة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تركز في هجماتها الجوية في مناطق الأكراد السورية على أهداف تابعة لقوات حزب العمال الكردستاني أكثر من ما تفعله ضد أهداف تابعة لـ «داعش». وهذا التحول في العمليات العسكرية لتركيا أصبح ممكناً إثر إعادة أردوغان فتح القاعدة الجوية التركية «إنجيرليك» أمام القوات الأميركية لشن هجمات جوية على مراكز «داعش» في شمال وشرق سورية. وبوضع هذه القاعدة تحت استخدام القوات الأميركية، يضع أردوغان أيضاً تركيا على طريق استعادة الدور الإقليمي لبلاده ويعيد بناء علاقاتها الأطلسية. من ناحية، قد يبرهن القرار التركي في الأسابيع أو الأشهر المقبلة نجاعته الحيوية في الحرب التي تبدو طويلة ضد ميليشيات «داعش»، ولكن من ناحية أخرى سيُمَكِّن القرار أردوغان من تثبيت دوره القيادي في الحرب الدائرة كي يحَسِّن حظوظه المحلية كزعيم أول في بلاده.

قاعدة «إنجيرليك» التركية، التي تأوي الجناح الجوي الرقم 39 من القواعد الجوية الأميركية المنتشرة حول العالم، تشكل من الناحية الإستراتيجية عاملاً مهماً في أي محاولة جادة للقضاء على مراكز «داعش» في المنطقة المعنية ولوضع نهاية تامة لأنشطة هذا التنظيم داخل سورية والعراق في آن. فقد تشاركت الولايات المتحدة وتركيا في استخدام تلك القاعدة في عمليات حربية عدة منذ عام 1954، لا سيما في العمليات العسكرية الأميركية في أفغانستان والعراق. وبسبب مكانها الجغرافي الملائم، إذ هي من أكبر قواعد حلف شمال الأطلسي (ناتو) وأكثرها قرباً من شمال سورية، يعتقد استراتيجيو الحرب ضد «داعش» بأن «إنجيرليك» ستساهم في تقصير زمن الطيران باتجاه أهداف الخصوم وستحقق توفيراً مهماً في كلفة الوقود.

ولكن السؤال: لماذا لم تُجرِ حكومة أردوغان هذا التحول في سياستها قبل الآن؟ حتى نهاية تموز (يوليو) الماضي كانت تركيا ترفض كل الدعوات لاتخاذ موقف صارم ضد «داعش»، علماً أن هناك مؤشرات تؤكد دور أنقرة في تأسيس هذا التنظيم وانتشاره في المنطقة. وعلى رغم الادعاء بالعكس، فإن دعم تركيا للمعارضة السورية، لا سيما «الجيش الحر»، لم يكن يوماً مواتياً لمواجهة الأحداث منذ انطلاق «الربيع العربي» في 2011. ولكن الوقائع قد تغيرت على الأرض إثر حدوث تطورين مهمين: الأول محلي يتمثل بالعملية الإرهابية في بلدة «سيروج» التركية الحدودية لشمال سورية، والثاني دولي/إقليمي وهو الاتفاق حول الملف النووي بين إيران والدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن زائداً ألمانيا. بعد إتهامها «داعش» بالمسؤولية عن عملية «سيروج» التي أودت بحياة 32 ضحية وعشرات الجرحى، أكدت الحكومة التركية التزامها بما وصفته بـ «العمل الحاسم» ضد إرهاب «داعش». لا شك في أن هذه العملية غيّرت ديناميات الحركة السياسية داخلياً وخارجياً حيث بات يعتقد «حزب العدالة والتنمية» أن بقدرته -إن أحسن استخدام الظروف الجديدة- إستعادة مركزه القيادي بزعامة أردوغان إثر تراجعه في الانتخابات العامة الأخيرة.

في النهاية، ما يهم «حزب العدالة» في الحقيقة آنيا ليس خوض حرب ضد «داعش» في سورية، بل ما هو أكثر أهمية بالنسبة الى أردوغان هو كبح جماح القوة المتصاعدة لأكراد تركيا بزعامة «حزب الشعوب الديمقراطي» ولأكراد سورية بزعامة «حزب العمال». سياسة إردوغان الراهنة في هذا المجال ثنائية المسارين: فهو من جهة يتحدى قيادة «حزب الشعوب» الجديدة بخطر فقدان نسبة الـ13 في المئة التي حصلت عليها في الانتخابات وخولت أكراد تركيا للمرة الأولى بالدخول إلى البرلمان التركي، إذا ما أعلنت عن وقوفها إلى جانب «حزب العمال». ومن جهة أخرى، وضع عراقيل سياسية أمام قيادة «حزب الشعب الجمهوري» القومي وقطع الطريق أمام أي تفاهم لقيام تحالف محتمل بينه وبين «حزب الشعوب الديمقراطي». فأي ائتلاف بين هذين الحزبين سيشكل قوة معارضة رئيسية أمام أي محاولة يقوم بها إردوغان لتشكيل حكومة من دون مشاركتهما فيها.

الآن، بعد التوقيع على النووي الإيراني، تغيّرت ديناميات ساحة الإقليم والمسرح الدولي على نطاق واسع، حيث تم وضع طهران على مسافة كبيرة تفصل في ما بينها وبين قوى الشرق الأوسط في المناطق المجاورة، بما في ذلك تركيا طبعاً، على الصعيدين الاقتصادي والسياسي. فالإتفاق النووي يضع إيران بمواردها الكامنة والضخمة إثر حظر دولي استمر ثلاثة عقود على الأقل، على مقربة من الولايات المتحدة ومن أسواق دول الاتحاد الأوروبي الواسعة. وإذا ما أحسنت القوى الحاكمة والمتنافرة أحياناً موارد دولتهم القوية والمتنوعة، فإن هذا سيجعل من إيران قوة لا يستهان بها عند صنع القرار في شأن التطورات العامة ليس في الشرق الأوسط فحسب، بل في منطقتي القوقاز وآسيا الوسطى. وبعبارة أخرى، فإن الاتفاق النووي يتوقع أن يجعل من طهران طرفاً نشيطاً ولاعباً مقبولاً في المجتمع الدولي. في مثل هذه الظروف الجديدة، تصبح تركيا أكثر قلقاً على دورها ونفوذها في الإقليم المحيط بها لأنها ستواصل البحث عن مكانها في اللعبة الجديدة وستسعى للمحافظة على ما تحمله من أوراق بعد خلطها إثر الإتفاق. ولا شك في أن موقف أنقرة المتشدد ضد الأكراد لن يلقى أي معارضة لأي سبب من الأسباب من قبل طهران، بل ستجد الأخيرة فيه دعماً لإبقاء المسألة الكردية في إيران تحت الرماد.

فقد لحظنا كيف أن بعض صناع الرأي وسط أطياف مجتمع الأعمال التركي رحبوا بالفرص التي تتيحها عودة إيران لتنضم إلى سوق رأس المال الغلوبالي إثر التوقيع على الاتفاق النووي. فهؤلاء يدركون حجم حركة الإقتصاد بين العالم وإيران كرابع أكبر مصدّر للنفط وثاني أكبر احـتيــاط من الغاز الطبيعي في العالم. ولذلك فإن الشركات العالمية، والتركية بينها، دخلت في اصطفاف يلهث للإستثمار في إيران. ومعروف أن إيران ستستعيد مستويات انتاجها النفطي خلال عقد من الآن ورفعه من 2.8 مليون برميل يومياً في الوقت الحالي إلى 3.8 مليون برميل. وفي ضوء حقيقة أن تركيا تعتبر أحد أهم مستوردي الغاز الطبيعي من إيران بقيمة عشرة بلايين دولار سنوياً وتصديرها الى إيران بما قيمته أربعة بلايين دولار في السنة، فإن تركيا بدأت تستعد للتغيير وإعادة النظر بسياساتها في الإقليم.

 

 

 

أنقرة تذهب الى الحرب … لكن ضد من؟/ هوشنك وزيري

أخيراً وبعد طول انتظار، أعلنت تركيا الحرب وحشدت قواتها على حدودها الجنوبية، متأهّبة لدخول المنطقة العازلة المزمع إقامتها داخل الأراضي السورية. يأتي ذلك بعد إصرار الدولة التركية ولأكثر من سنة، على رفضها دخول نادي التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة لمحاربة «الدولة الإسلامية»، التي نهضت حدودها فجأة بمحاذاة أجزاء واسعة من حدود تركيا الجنوبية، وفضّلت في تحدٍّ واضح للعالم أجمع غضّ الطرف عن النشاطات المحمومة والفاضحة لمسلّحي هذه «الدولة» الجديدة على حدودها، من تهريب وقود الى عمليات تجنيد وتهريب جهاديين قادمين من كل صوب وحدب، مستخدمين الأراضي والمعابر التركية.

كثيراً ما كانت هذه النشاطات تجري تحت أنظار أجهزة المخابرات التركية وجندرمتها، بل بتعاون معهما في أحيان كثيرة ما دامت هذه «الدولة» تشكّل ضغطاً على النظام السوري من جهة، والأهم من ذلك، أنها تزيل، بتوسّعها السريع، خطراً تقليدياً يتمثّل في الأكراد، وتحديداً الأوجلانيين الجدد منهم. وهذا الخطر الكردي لا يتوجّه نحو الكيان الجغرافي للدولة التركية، كما كان الجنرالات الأتراك التقليديون يقرأون في الماضي التهديد الذي كان يشكّله حزب العمال الكردستاني، بل يتوجّه مباشرة، وفق قراءة تركيا الأردوغانية، نحو جوهر أيديولوجيتها الإسلامية المتمثّل في الحنين الى إمبراطورية الخلافة العثمانية ووصايتها على أراض شاسعة.

لكن، ما الذي تغيّر على الأرض ليقنع الأتراك بضرورة دخولهم الحرب قبل فوات الأوان؟ الجواب الأولي الذي يقترحه المشهد على الأرض، يشير الى خسارة مسلّحي دولة «داعش» أراضيَ وبلدات كثيرة، منها استراتيجية، أمام الأكراد، وآخرها بلدة تل أبيض الحدودية، الأمر الذي أدى الى توسّع الكيان الكردي الجديد داخل سورية، وهيمنته التدريجية على ما يقارب 400 كلم من الشريط الحدودي مع تركيا. وبعد خسارة الحرب في مدينة كوباني (عين العرب)، التي أضافت هالة من الأسطرة الى المقاتلين الكرد، لم يعد في وسع تركيا تحمّل مزيد من تضخّم الكيان الكردي الحديث المنشأ على حدودها.

هناك عاملان في غاية الأهمية يجب أخذهما في الاعتبار في سياق قراءة القرار التركي بدخول الحرب، أولهما استيلاء الأكراد على تل أبيض عسكرياً في 15 حزيران (يونيو) الماضي، الحدث الذي شكل ناقوس تحذير دفع بالرئيس أردوغان الى الدعوة في اليوم التالي، الى اجتماع أمني طارئ مع رئيس الوزراء، ومع أبرز قادته العسكريين والسياسيين. وقد عقد الاجتماع على مدار يومين في 17 و18 حزيران، لمناقشة «تطوّرات الشمال السوري»، ووضع «خطوط حمراء» للتقدّم الكردي على الأرض، خصوصاً في المناطق الحدودية.

وتمثّل العامل الآخر في اكتساب المقاتلين الكرد، والنساء قبل الرجال، من جماعة وحدات حماية الشعب المرتبطة بحزب العمال الكردستاني وهم يرتدون الزي الكردي الخاكي، صورة الحليف العسكري لدول التحالف، الذي يعتبر وجود الكرد على الأرض ضرورياً ومكملاً للحرب الجوية لطائرات التحالف على مسلّحي «داعش». وتضخّمت هذه الصورة تدريجياً ليس عبر الانتصارات العسكرية فقط، بل عبر استقبال زعماء كرد بزيّهم الحربي التقليدي في قصور رئاسية ومحافل ديبلوماسية دولية. هكذا، أخذت الصورة أبعاداً أخرى ذات دلالات رمزية وسياسية رفيعة.

مثّل هذان العاملان، الانتصار العسكري والرمزية السياسية، الكابوس الذي أوقظ الأتراك من وهم انتظارهم واعتمادهم على «داعش» لتغيير موازين القوى والقضاء على الخطر الكردي، ودفعهم بالتالي الى دخول الحرب مع الأكراد لإنهاء المهمة بأنفسهم. ولكي تكتسب الحرب على الأكراد شرعية دولية ورضا عالمياً، كان عليها أن يصاحبها إعلان حرب أخرى، أقلّه في الخطاب الرسمي التركي، فكان إعلان الحرب على دولة «داعش» أفضل غطاء شرعي. ولسبب الشرعية هذا، يتم دوماً زجّ اسمَي «داعش» وحزب العمال في جملة واحدة في سياق تصريحات المسؤولين الأترك وخطاباتهم، متبوعةً بصفة الإرهابي.

وكثيراً ما ردّد الإعلام التركي اليميني ومسؤولون كبار أخيراً، أن الأكراد وتقدُّمهم على الأرض أخطر كثيراً من «داعش» على أمن الدولة التركية. ومن الممكن إثبات عمق إيمان الدولة التركية بهذه المقولة، ورعبها من نتائجها عبر مقارنة بسيطة بين القصف الجوي التركي ضد مواقع «داعش» في أجزاء محدودة من الشمال السوري، والقصف المكثّف والقوة النارية المدفعية المصاحبة في ضرب مواقـــع العمــال الكردستـاني على طول الشريــط الحـــدودي من تركيا الى إيران داخل محافظتي أربيل ودهوك في إقليم كردستان العراق، حيث يظهر أن ما تقوم به تركيا ضد «داعش» ليس حرباً جدية بقدر ما هو استرضاء دولي وشرعنة لإعلان الحرب الموازية الأخرى ضد الكردستاني، وهي الحرب الأكثر ضراوة وجدّية بالنسبة اليها.

لكن على رغم الاتفاق التركي – الأميركي، لا يزال الخلاف عميقاً في سلّم الأولويات بين استراتيجّيتي الدولتين، بل بين تركيا ودول التحالف عموماً. فقد أصرّ أردوغان، الذي لا يزال مجبراً على الجلوس تحت صورة عملاقة لأتاتورك يشبه فيها صدراً أعظم عثمانياً، ولمدة أكثر من عام، على أن يطالب الغرب باتباع رؤيته للحل السوري، التي تتجسّد في تجفيف مستنقع النظام السوري، وبعد ذاك الالتفات إلى مسلّحي «داعش» الذين لا يمثلون، في نظر أردوغان، إلا بعوضاً وذباباً. لكنْ في هرم أولوية أميركا والدول الأخرى في التحالف، يأتي أولاً القضاء على «داعش» الذي تحوّل سرطاناً في المنطقة، ومن ثم الالتفات الى العملية الانتقالية في سورية.

لكن على رغم الخلافات، حصلت أميركا على قاعدة أنجرليك الجوية مقابل حصول تركيا على منطقة داخل الأراضي السورية، لا لكي تفصل بين الحدودين السورية والتركية وتخلق منطقة آمنة، كما يسود الوهم وسوء الفهم، بل لتعزل المناطق الكردية عن بعضها وتضمن الفشل الكردي في تجربة الإدارة الذاتية.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى