التفاؤل والسياسة اليوم
سامر فرنجيّة *
بعد سنة على انطلاق الثورات العربية ومسلسل الخيبات من بعض تعثّرها، بدأ يظهر موقف «مركّب» ونقدي يدمج بين دعم الحركات الشعبية في لحظتها التهديمية للأنظمة القمعية والتخوف من المستقبل، الطائفي أو الإسلامي أو القبلي، الذي يبدو الأفق الوحيد لهذه التحولات.
هكذا يسمّي جورج طرابيشي تلك التحركات «انتفاضات» وليس ثورات، إذ من شأن الأولى أن تسقط أنظمة فحسب، أما الثانية، فتطمح لبناء أنظمة جديدة تتجاوزها. وعن إمكانية الانتقال من الانتفاضة إلى الثورة، يختتم طرابيشي بالتشاؤم: «كان لا بد أن يحدث الربيع العربي لأن الأفق كان مسدوداً، الآن انفتح الأفق ولكن كما ينفتح الأفق، لا ندري هل ستأتي بعده عاصفة أم بحر السلام من جديد. أنا عندي تساؤل ولست متنبئاً لأعرف ما سيحدث في المستقبل، ولكن المؤثرات القائمة الآن لا تجعلني كثير التفاؤل بمصائر هذا الربيع العربي» (عمان، ٢٧ – ٠٣ – ٢٠١٢). ويتكرر هذا الموقف عند عدد من المثقفين، وإن في أشكالٍ مختلفة، دامجاً الدعم للانتفاضات والحذر من الثورات، ومعبراً عن الخوف غير المنطوق من أن تكون الأنظمة الجديدة أسوأ من المقتلعة، كونها تدعّم القمع بشرعية شعبية. ولولا إجرام الأسد، لكنا سمعنا استنتاجاً كهذا، إلا أنه بات مستحيلاً في ظل القتل اليومي في سورية.
وإذا كان التخوف من الثورات مركّباً، فالدفاع عنها أيضاً فقد عذرية الأيام الأولى، ليصبح بدوره أكثر تعقيداً. ففي وجه انتهاكات بعض الثوار في سورية، كتب ياسين الحاج الصالح في جريدة الحياة أن «عدالة الثورة لا تسبغ عدالة تلقائية على كل ما يقوم به الثائرون. ولا يكفي أن يكون المرء ضحية الظلم حتى يكون منصفاً» (١٠ – ٠٤ – ٢٠١٢). وفي سياق دفاعه عن الثورة حيال ممارسات بعض أبنائها، دقّ الكاتب إسفيناً بينها كفكرة وتجسيدها في ممارسات بعض الثوار. وعلى رغم خطورة احتمال تجريد الثورة من واقعها وحقيقة بعض أبنائها، يعبر هذا الدفاع عن نهاية فترة السماح مع الثورة، وضرورة التعاطي مع أبنائها، الشرعيين وغير الشرعيين. وفي موازاة هذا الموقف المركّب، موقف آخر بات يعترف بأن نجاح الثورة لن يكون نهاية المتاعب، بل سيؤدي إلى مرحلة من الاضطرابات، لا بد من المرور بها. يعبر ياسين الحاج الصالح عن هذا الدفاع وعن التفاؤل الحذر من المستقبل عندما يكتب أن «إلى حين تتبلور توازنات اجتماعية وسياسية وفكرية جديدة ويقوم عليها استقرار جديد، سنمر حتماً بأوقات مضطربة تتنازع فيها الآراء وتحتدم الانفعالات وتتقلب النفوس. إننا ندفع ثمن تأخر في مواجهة الذات، عمره أكثر من جيل» (الحياة، ١٥ – ٠٤ – ٢٠١٢). فإذا كان الدفاع الأول يفصل بين دعم الثورة وممارسات الثوار، يقوم الدفاع الثاني على الفصل بين الثورة وفترة زمنية ما قد تكون مضطربة بعض الشيء.
«تمرحل» تلك المواقف إشارة إلى انتهاء الطور الأول من الثورات، الذي سيطر عليه السؤال الأقرب إلى «التشجيع السياسي» مما إلى الفكر السياسي، أي سؤال مع أو ضد الثورة، وبداية فترة تتطلب أجوبة أكثر تعقيداً. فإذا كان هنالك إجــــماع على أن الأنظمة الحالية فاقدة أدنى أنواع الشـــرعية، يبقى سؤال تعريف وتقويم الأنظمة الجديدة مفتوحاً. ويمكن إعادة صوغ هذا السؤال عما إذا كانت الثورة، كفكرة مشدودة نحو المستقبل وقوة معنوية وبنية سياسية، قادرة على فرض قوانينها على تجسيداتها الحالية، من أحزاب إسلامية وثوار مسلحين.
الرجوع إلى الواقع لن يجيب على هذا السؤال، ولن يحسم النقاش بين داعم متأمل وآخر متخوف. فمقابل كل إشارة تدل إلى اتّجاه ما، توجد عشر إشارات تميل إلى الضفة الأخرى. هكذا، فمقابل انفتاح الإسلاميين في تونس، انغلاقهم في مصر، وفي وجه صعود السلفيين هناك إنزال علمهم من قبل امرأة، وفي مقابل استمرار الحركة الشبابية في مصر هناك صعود الطائفية في سورية، وفي مقابل هذا الصعود ثمة تنسيقيات تعيد ربط بلد تقطع بعد أربعين سنة من الحكم البعثي، وفي وجه انتخابات حرة، هناك تدخل لجيش يرفض أن يرحل.
فالواقع يُقدّم الكثير لمن يريد أن يتشاءم كما أنه يدعم من هو متفائل. غير أن الغموض الحالي لا ينطوي على نوع من النسبية، يبرر كل الآراء ويساوي بينها. فاستحالة الحسم من خلال الواقع لا تلغي الفارق الأساسي بين ذينك الموقفين، وهو العلاقة مع السياسة.
فالتفاؤل، ولو الحذر، يترك الباب مفتوحاً أمام وعود السياسة والتباسها. أما نعي الثورات، فهو القضاء على آخر مرتكز للسياسية، أي الفكرة الديموقراطية، والهبوط تالياً إلى محافظة مستقيلة من السياسة، حتى لو كانت مغطّاة بتطلعات «تقدّمية». فبعد تفكيك الطبقات والجماهير والتاريخ والدولة والدين والاقتصاد لم يبق الكثير لانطلاق السياسة.
هذا ليس للقول إن النقد ممنوع لأنه «غير بناء»، ولكن للتنبيه من أن الخروج من الثورات قد يكون خروجاً من إمكانية السياسة. فالتفاؤل، ليس مفروضاً من الواقع، بل من متطلبات السياسة، حتى لو كان فشله مدرَكاً تماماً.
* كاتب لبناني