رشا عمرانصفحات الثقافة

الترف الاستشراقي العربي/ رشا عمران

 

 

يحار المرء، أحياناً، ماذا يقول، وهو يقرأ أو يستمع لمبدعين عرب، عاشوا سنوات طويلة في أوروبا. يحار من قدرتهم على تزييف الواقع العربي، والتعامي عما أوصله إلى حالة الانحدار. يحار أكثر من نظرتهم الاستعلائية إلى مأساة الشعوب العربية التي أصبحت، نتيجة الحروب، مجموعاتٍ تهيم في أصقاع الأرض، بحثاً عن الأمان. ففي وقتٍ ما زال استغراب أدونيس ودهشته من (هجرة) السوريين إلى أوروبا حاضراً في ذاكرتنا، يبدأ الروائي الليبي، إبراهيم الكوني، ندوته في القاهرة، قبل أيام، ضمن مهرجان أدبي، بالقول إن الليبيين لم يُغرهم حطام أوروبا، لأن ما يبحثون عنه هو الأمان، بينما أصبحت ليبيا معبراً بحرياً  للآخرين، غير الليبيين، الطامعين في الحطام الأوروبي، كما سماه!

كما أدونيس، يعتبر الكوني أن السوريين، أو باقي العرب اللاجئين إلى أوروبا، تركوا بلادهم طمعاً بالجنة الأوروبية، لا هرباً من الموت الذي بات يستوطن بلادهم، ولا من اليأس من أي مستقبل واضح، وهم يرون أن ثوراتهم حوّلها النظام العالمي إلى حروبٍ مجنونة، أو في أحسن الأحوال، أعاد إنتاج الأنظمة السابقة نفسها بآلياتٍ أكثر فاشيةً واستبداداً. والغريب، وليعذرني الأصدقاء الليبيون على هذا، أن الكوني يعرف أن غالبية المثقفين الليبيين، كما السوريين، كما اليمنيين والعراقيين، قصدوا أوروبا واستقرّوا فيها، فهل الأمان الأوروبي من حق المثقفين فقط، بينما على العامة واجب الموت والذل في البلاد العربية؟

غالبيتنا يعرف الخطر الذي يشكله وجود تنظيم مثل داعش على شعوبنا الغارقة في يأسها، وعلى المثقف الحقيقي البحث عن أسباب وجود هذا الفكر الجهادي وانتشاره، لا إلقاء التهمة على التقنيات الحديثة التي أتاحت حرية الرأي، كما لمّح الكوني، متجاهلاً كل ما فعلته الأنظمة العربية من تجهيل وإقصاء وتفقير لشعوبها، ومن تحالفها مع المؤسسات الدينية لإبقاء هذه الشعوب متكئة على الغيبي، ومعطِّلة عمل العقل في كل شؤون حياتها، ومن تجريف مجتمعاتها من كل ما يمت للفكر المدني التنويري بصلة.

بدت الأنظمة العربية، في كلمة الكوني، بريئة تماماً، أو على الأقل، لم يُشر أدنى إشارة إلى وجودها أو مسؤوليتها عن الواقع، بينما تصبح الحرية لا معنى لها بانعدام الأمان، كما قال، مستعيداً سردية الأنظمة نفسها حول الأمن والأمان الذي أخضعت، وما تزال، شعوبها بها. ومن البديهي، بعد ذلك كله، أن لا يتطرق، في حديثه، إلى الثورات العربية، ولا إلى أسباب حدوثها، ولا إلى المتغيّرات الحاصلة في تركيبة المجتمع العربي، فكل ما يحدث ليس سوى نتيجة الأيديولوجيات التي تعمّمت على شعوبنا، لا سيما الدينية، وكأن تعميمها لم يأت بفعل فاعل، وكأن الفرد العربي خلق مؤدلجاً، أو بفعل القضاء والقدر، وهو ما يتضح، في إجابته على سؤال من أسئلة الحضور، حين قال إن الأوروبيين سعداء معافون، لأنهم بعيدون عن السياسة، على عكس العرب المسيّسين، فكأن السعادة والديمقراطية والحرية واحترام حق الإنسان في التعبير والرأي والمعتقد، التي يتمتع بها المواطن الغربي اليوم، لم تأت نتيجة عقود طويلة من الثورات والحروب الأهلية والدماء وقطع الرؤوس على المقاصل ومحاكم التفتيش. كأن فصل الدين عن الدولة الذي طالب به الكوني لمجتمعاتنا، وهو مطلب محق حتماً، لم يأت بعد ملايين الضحايا الذين قدمتهم أوروبا في سبيل وصولها إلى دول العالم الأول. كأن الكوني يرى أن شعوبنا المحاطة بالاستبداديْن، الديني والسياسي، والتي تعرّضت لموجاتٍ طويلة من الاستعمار، وحدها من تتحمّل مسؤولية تعاستها، لأنها غارقة في السياسة!

هنا، أيضاً، يتجاهل الكوني أن الثورات العربية انطلقت وهي تحمل شعار الحرية والتغيير الديمقراطي، أما أسباب انحرافها التي بات يعرفها حتى أطفال العرب المسيّسين، لم يتطرق الكوني إليها، في كلمته أو في إجاباته على أسئلة الحضور. تحار فعلا أمام هذا الاستشراق المراوغ من مثقف عربي كبير، بينما تقابل، في الوقت نفسه، شعراء وكتاباً غربيين، منتبهين لكل ما يحدث، ومؤمنين بحقك الطبيعي في التخلّص من الاستبداد. فتقول: يا لترف المثقف العربي الاستشراقي.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى