الثورات العربية وانتهازية السلفيين
د.خالد الحروب
انتعش السلفيون في حقبة الثورات العربية بشكل مفاجىء واندفعوا إلى قلب العمل السياسي بشكل مباشر أو غير مباشر سواء في البلدان التي انتصرت فيها هذه الثورات، مصر وتونس تحديداً، أو تلك التي ما تزال الاحتجاجات والتظاهرات تسيطر على الشارع بهذه الدرجة أو تلك، من اليمن إلى الأردن إلى دول المغرب العربي. والخطاب السلفي الذي كان يحض أتباعه على الابتعاد عن السياسة وعلى اعتبار أنه “من السياسة ترك السياسة” تخلى عن كل ذلك، وأصبح من الواضح أن التوجه الجديد هو “من السياسة خوض السياسة”. في مصر وتونس على وجه التحديد قفز السلفيون إلى واجهة المشهد السياسي، وأثاروا مخاوف عميقة، وبرزوا كجماعة أو جماعات أتقنت فن الانتهازية السياسية. فالموقف السلفي، أو على وجه الدقة المواقف السلفية بتعددها، في هذين البلدين وغيرهما من البلدان العربية إزاء الثورة على الحكومات كانت سلبية. فتاوى سلفية صدرت عن رموز هذا التيار حرمت الخروج على الحاكم والمشاركة في الثورات باعتبار ذلك فتنة يجب تجنبها. تلك السلبية الموغلة في التنظير للخنوع والخضوع للظلم، وعدم تحقيق العدالة الاجتماعية، تحولت إلى نشاط سياسي محموم بعد انتصار الثورات. لم يشارك السلفيون في هذه الثورات، ووقفوا إما ضدها أو على الحياد، لكنهم الآن يريدون سرقتها والقفز على منجزاتها. في مصر وتونس هناك الآن سيل من الفتاوى السلفية لا تترك شيئاً إلا وتنظر له، من عدم جواز وجود قبطي أو امرأة على رأس الحكم، إلى فرض ارتداء النقاب في الشارع. ولا يقف الأمر على التنظير، بل هناك عنف “التغير باليد”، الذي تمثل في هدم الأضرحة والقبور وقطع أذن أحد الأقباط وإهانة غير المحجبات ودفعهن للعودة إلى البيوت والتحجب وسوى ذلك.
على المستوى السياسي الأوسع والأهم والمتعلق بالانتخابات والحرية والاستفتاءات، التي أصبحت مُتاحة للجميع رأينا الاندفاعة السلفية خاصة في مصر والتي تجسدت في ما سمي “غزوة الصناديق”، حيث انطلقت جحافل السلفيين لتصوت بـ”نعم” للدستور الجديد معتبرة ذلك معركة إيمان وكفر. في أي انتخابات قادمة سوف يكون مدخل “الإيمان والكفر” أحد أهم المداخل التي يشارك منها وفيها هؤلاء السلفيون في أي عملية سياسية. من ناحية نظرية بحتة من حقهم التام المشاركة في الشكل السياسي الجديد طالما استخدموا وسائل سلمية. لكن الأمر ليس بهذه السهولة، ذلك أن الأمر يرتبط عندهم بـ”العقيدة” و”الإيمان” كما يفهمونه، وليس بالعمل السياسي الخاضع للخطأ والصواب. من حق الجميع المشاركة في الديمقراطية شرط الإقرار العلني القاطع بالديمقراطية كوسيلة وحيدة للتداول على السلطة والمشاركة السياسية ومن دون الانقلاب عليها. يرافق ذلك الإقرار الاعتراف غير المتردد بحق الأقليات وبحق الأطراف التي تمثل أغلبيات بأن تمارس حياتها بحرية ومن دون قهر ديني.
أس المشكلة يكمن في أن الفكر السلفي لم يتسيس، وبسبب غياب هذا التسيس، بقي هذا الفكر يغوص في أدبياته وينتقل من مربع تطرف إلى آخر، وفي كل انتقال من هذه الانتقالات يتم تقليص دائرة من تنطبق عليهم تعريفات المسلم النقي والحقيقي بحيث لا تتعدى هذه المجموعة أو تلك. وعندما يتم النظر إلى بقية الناس والشعب بكونهم مسلمين غير مؤهلين حتى لا يدلوا برأيهم أو صوتهم إزاء قضية من القضايا الكبرى، فإن تلك هي البداية الطبيعية لأي فكر إقصائي.
الثورات العربية والمناخ الذي أفرزته أنتج حالة تناقضية في مربع الفكر والممارسة السلفية (العنفية وغير العنفية). في جانب السلفية الجهادية، القاعدة وما تناسل عنها، أضعفت الثورات العربية منطقها وأثبتت ضحالة الفكر والممارسة القاعدية من أكثر من زاوية. فأولاً ثبت أن النهج السلمي للثورات أكثر فاعلية من نهج العنف الذي تتبناه “القاعدة”، وثانياً، كان شعارات هذه الثورات الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وليس لها علاقة بشعارات “القاعدة” وزعمها بأن أيديولوجيتها العمياء تعبر عن الشعوب، وثالثاً، ثبت أنه بإمكان استخدام واستغلال الإعلام العالمي والمعولم وتوظيفه لتغطية وخدمة قضايا عادلة من دون الاضطرار للعنف والعمليات الإرهابية الكبيرة لجلب الانتباه. لكن نفس الثورات العربية أتاحت للسلفية غير العنيفة حرية مفاجئة وغير مسبوقة تُستغل الآن بطرق بشعة. لنا أن نقول إن جدة الحرية في المجتمعات العربية سوف تنتج ظواهر سلبية عديدة مجاورة لثمار الحرية التي لا تُحصى. وإن التعايش بين مكونات أي مجتمع من المجتمعات في مناخ الحرية يحتاج إلى وعي عميق وكبير يضع خطوطاً حمراء واضحة بين الخلاف في الرأي ومحاولة التخلص من الآخر المختلف معه، وهذا كله ما زال في أوله. لكن في الوقت ذاته هناك شكوك عميقة بأن يتبنى السلفيون موقفاً ديمقراطياً من الآخر المختلف دينياً وفكرياً (غير المسلمين، المسلمين العلمانيين، …، ألخ).
خطورة السلفية تكمن أيضاً في جانب آخر، وهو سهولة الانقلاب الكلي على المبدأ النظري الذي قد يطمئن بعض الناس، والحكومات، له. فقد رأينا كما تمت الإشارة كيف انتقل الفكر السلفي من عدم التدخل في السياسة إلى التدخل الفج فيها، وكيف تغير الموقف بسهولة. معنى ذلك أن كثيراً من المواقف التأسيسية والمرتكزات الفكرية التي تعتمد عليها التيارات السلفية يمكن أن تتغير بشكل مفاجىء، وهي المواقف والمرتكزات التي تخلق أرضية التواطؤ والتحالف مع الأنظمة الديكتاتورية (مثل عدم جواز الخروج على الحاكم). في لحظة ما يمكن أن يتغير هذا الموقف، وطالما أن التربية السلفية الإقصائية والبنية الفكرية للتيار السلفي العريض بأفراده وتابعيه هي واحدة، فإن تغير موقف فكري أو سياسي معين لن يغير من تلك البنية، بل إن كل التيار العريض سينتقل وراء الرموز، التي تتبنى هذا الموقف بحسب تعاليم الطاعة العمياء التي يتربى عليها الأفراد.
السطور السابقة لم تصل إلى تأمل تعبيرات السلفية العنيفة عندما تستخدم العنف ضد الآخر بطريقة تجلب الكوارث على القضايا العادلة، كما حدث في اغتيال السلفية الجهادية للناشط الايطالي فيتوريو اريغوني في غزة الأسبوع الماضي. السلفية غير الجهادية تؤهل وتربي أفرادها على العنف الفكري والإقصائي وتجعلهم جاهزين لاستقبال وممارسة العنف.
الاتحاد