الثورات العربية.. وحقوق الإنسان
أكرم البني
مفعمة بحيوية الثورات العربية مرت الذكرى السنوية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان في العاشر من الشهر الجاري، ليس لأن الانتهاكات المريرة لحقوق الإنسان العربي كانت الدافع الرئيس والمحرك لهذه الثورات، وأوضح صورها إذلال البوعزيزي وقتل خالد سعيد وتعذيب أطفال درعا، بل بسبب الملامح الجديدة التي بدأت تتشكل في ظل هذه الثورات وتعطي حقوق الإنسان معانيها الأصيلة كجزء طبيعي من القيمة المعنوية والدلالية للإنسان وكعامل ناجع في مواجهة ما تعانيه مجتمعاتنا من أزمات وأمراض!
الحقيقة، لقد هزت الثورات العربية في العمق مكانة الآيديولوجية الوصائية في حياتنا التي كانت تعطي الأفضلية المطلقة لتصوراتها المسبقة وقيمها الثابتة على حساب الإنسان وحقوقه، وتعتبر هذه الحقوق مسألة كمالية ونافلة لا تحتاجها مجتمعاتنا، وتروج لثقافة مشوهة وذرائع مضللة تخلق تعارضا بين مبادئ حقوق الإنسان، والبرامج التنموية والسياسات الوطنية والقومية، فباسم الكفاح من أجل التحرير والوحدة العربية برر التيار القومي رفضه لمبادئ حقوق الإنسان على أنها وسيلة استعمارية لتمكين النفوذ الغربي ومطامعه، ووقف التيار الاشتراكي ضدها لأنه رأى فيها بوابة تستخدمها الليبرالية للتفريط بالعدالة الاجتماعية، بينما رفضها تيار الإسلام الأصولي لأنه يراها في حسابات الخصوصية العربية والإسلامية بدعة غربية وغريبة عن مجتمعانا وكونها تمنح البشر القدرة على تقرير مصائرهم وتجعلهم مصدر السلطات بينما تقول مرجعيته بأن الحاكمية هي لله، والأسوأ الطعن بأهلية الناس في ممارسة هذه الحقوق وأن إطلاقها يهدد أمن المجتمع واستقراره، أو استغلال ما تمارسه بعض الدول الغربية وإسرائيل على وجه التحديد من انتهاكات لحقوق الإنسان كحجة لحرمان المواطن العربي منها!
وأن نعترف بوجود خصوصيات ثقافية يجب مراعاتها، لا يعني إنكار حقيقة أن الناس في عموم الأرض هم بشر متساوون ولديهم حاجات مشتركة يتعين تلبيتها، فحق الإنسان في الحياة وضمان حريته والحفاظ على كرامته قيم لا تتغير أبدا، بل هي ثابتة في كل وقت وفي كل مكان، وجوهرها يتخطى التنوع والتعددية الثقافية، بل إن الخصوصية الحضارية والدينية لمجتمعاتنا التي يدعو البعض للتمسك بها هي، بداهة، خير من يرسخ شعور الإنسان بالحرية والكرامة والمساواة!
رسالة الثورات العربية واضحة في رفض مقولة أن لا معنى للحرية مع الفقر ولا لحقوق يعجز السواد الأعظم عن التمتع بها بسبب الأمية والحرمان، وفي إرجاء تمكين المواطنين من بعض حقوقهم المشروعة بحجة أولوية أهداف التنمية والقضية الوطنية. والدليل تقدم شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان التي رفعت في كل ساحات التظاهر والاعتصام، وقد استشعر الناس ربما بحسهم العفوي أن نيل هذه الحقوق هو الخطوة الصحيحة التي توفر فرص استقرار الحياة السياسية ونجاح النهضة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية.
إذا كان من الخطأ أن تقتصر فكرة التنمية على البعد الاقتصادي لأنها، ومن دروس التجارب الملموسة في عصرنا الحديث، محكومة بالفشل إن لم تتسع لتتضمن دولة القانون وحقوق الإنسان والحريات، فمن الخطأ أيضا وضع تعارض بين حقوق الإنسان وأي مهمة قومية أو هدف وطني، بل التأكيد على أن تمكين الناس من حقوقهم هو السند الحقيقي والداعم للانتماءين الوطني والقومي، وأن الذود عن البلاد وصيانة الاستقلال والواجب القومي لن يستقيم إن سادت روح قهرية تحجب حقوق البشر وحرياتهم أو تسحق شعورهم الإنساني بالمواطنة والمساواة!
وبالفعل، دفعت الثورات العربية مفهوم المواطنة إلى الصدارة وهتف أهلها بالمساواة بين البشر في الحقوق والواجبات بغض النظر عن الدين والقومية، وأيضا بمساواتهم أمام القانون كأحد أهم مبادئ حقوق الإنسان، ولعل خير بادرة في هذا السياق، إصرار الشعوب، وعلى الرغم مما عانته من حكامها، على مبدأ المحاكمات العادلة سبيلا وحيدا للحساب والعقاب بعيدا عن الثأر والانتقام، ولا يغير من جوهر هذه الحقيقة ما حصل مع القذافي وأولاده، كما لو أن هذا الحدث هو أشبه بالاستثناء الذي يؤكد القاعدة!
والنتيجة، فقد قالت الثورات العربية كلمتها بأن أوضح عنوان لتخلفنا ولحالة الضعف والارتباك التي نعانيها هو عندما ذهبت مجتمعاتنا العربية منذ فجر الاستقلال حتى اليوم إلى اعتبار حقوق الإنسان قيما غريبة عن ثقافتنا، واختارت معاداتها ومواجهتها بمناخات لا تؤمن بالإنسان وحريته ومشاركته، بل تسوغ، على النقيض من ذلك، أساليب القوة والاضطهاد والعنف.
في ضوء ما سبق، وعلى الرغم من النقلة الكبيرة التي حققتها الثورات في معاني حقوق الإنسان العربي، يبدو أن ثمة الكثير من المهام لا تزال أمامها لنصرة هذه الحقوق وتمكينها، تبدأ بالتشديد ودون تهاون على أن الأعلى والأنبل في دنيانا هو الكائن الإنساني الماثل من جسد وعقل وروح في مواجهة طغيان الآيديولوجية وغطرسة المصالح الضيقة وحماقة العنف والقوة، وتتجه للتأكيد على أهمية ثقة البشر بأنفسهم وبجدوى دورهم في انتشال مجتمعاتهم من الحال البائسة التي وصلت إليها.
وبعبارة أخرى، لقد تبدل العالم بسرعة كبيرة وكذلك أنماط الحياة والأفكار وباتت حقوق الإنسان تحتل مركز القلب من كل اهتمام، لكن ثقافتنا العربية وللأسف بقيت عموما أسيرة ثوابت وأصول، محاصرة بالعقائد والشعارات العتيقة وتتعامل مع مهام المجتمع الملحة على أنها أمر يمكن القبول به أو رفضه بناء على المرجعية الآيديولوجية، وبقي قطاع مهم منها يحمل الأمراض ذاتها في موقفه من الكائن البشري، ويستسهل التضحية به وبحقوقه على مذبح رؤية سياسية أو فكرية، أو في أحسن الأحوال، مترددا أو مقصرا في إحداث فك ارتباط مع أفكار الماضي وتصوراته، لجهة الدفاع عن جديد العلاقة بين الأهداف الوطنية والقومية وبرامج التنمية وبين حقوق الإنسان وإعطاء هذه الأخيرة الأولوية التي تستحقها، مما يتطلب ولحماية حلم الثورات العربية، الاستمرار في تنظيف البيت من الوعي الإقصائي العتيق، ورفض أي تحديد أو تحجيم لمفهوم حقوق الإنسان بحجة الخصوصية أو تحت أية ذريعة كانت، والتأكيد على أن هذه الحقوق تبدأ من حيث الجوهر بالاعتراف بالإنسان بصفته روحا بشرية جديرة بالحياة والاحترام التام، بغض النظر عن اللون والجنس والعرق والمعتقد، وتصل إلى حد الاعتراف به بصفته ذاتا حرة وندّا ذا حقوق متساوية في الحرية والكرامة والعمل والاجتهاد.
الشرق الأوسط