الثورة السورية إذ تتحدث عن نفسها/ أكرم البني
أصبح عمري ست سنوات، فاجأت الكثيرين ولادتي، فالمخاض كان عسيراً والمعوقات كثيرة، أهمها الاستبداد المديد الذي كمم أفواه الناس وأخضعهم لتربية وتعبئة قاسيتين كي يحجموا عن تداول أية أفكار أو رغبات في التغيير.
كان موضع شك أن أبصر النور في سورية، بلد الاستقرار الأمني والممانعة والمقاومة، وأن أجترح حضوري من رحم منظومة تحكمها الشعارات القومية ومواجهة المخططات الامبريالية والصهيونية، وتغذيها الدعاية الرسمية بأن كل من يناهض الحكم متآمر ومندس ويرتبط بأجندة خارجية، وكان موضع استغراب نجاحي في فضح زيف هذه الادعاءات الوطنية، وتعرية سلطة لا يهمها من السيادة والاستقلال سوى ما يضمن امتيازاتها واستمرارها في الحكم!
من دوني ما كانت لتسمع شعارات صريحة تدل على أنانية التشبث بالسلطة حتى لو اضطر أصحابها إلى إحراق الوطن، وما كان ليكتشف كيف استخدمت أسلحة «المقاومة والصمود والتصدي» لتدمير المدن والأرياف وسحق حيوات البشر وأحلامهم، وكيف استسهل أهل الحكم تسليم قرارنا السيادي لقوى خارجية جرى الاستقواء بها، كروسيا وإيران وتوابعها.
كان قدري أن أنطلق وأنمو كأني أواجه مصيري وحيدة، فعلى رغم تعاطف الشعوب مع مشاهد الدمار والضحايا وحرج السياسات الرسمية من العنف السلطوي المفرط، لم ترق مواقف معظم الدول الغربية والعربية إلى شدة ما يكابده السوريون، وآثروا المراوحة بين السلبية والتردد، ربما لأن غالبيتهم تخشى التداعيات التي سيخلقها انتصاري الديموقراطي على أنظمتهم ومصالحهم، وربما لعدم ثقتهم بفرصتي في النجاح وتحسبهم من قدرة نظام مجرب أمنياً ومدجج بالسلاح والتحالفات على هزيمتي.
ولدت من دون تخطيط مسبق، بلا مرجعية أو رموز تاريخية تقودني، لم يكن لأحد دور في نشأتي سوى عزم شباب منتفض، تأثراً بشباب تونس ومصر، ضد استشراء الحرمان والقهر والفساد والتمييز، كنت أصارع ومنذ اللحظات الأولى شتى محاولات جري إلى السلاح أو إلى الأتون الطائفي وأجاهد للحفاظ على شعاري الحرية والكرامة، وعلى وجهي الوطني العريض كعابرة للمذاهب والأديان والقوميات، لكن أعترف بأنني لم أنجح في الحفاظ على سلامة قيمي وأفكاري وشعاراتي، بينما نجح النظام في دفعي، بإستفزازاته المفرطة بالعنف والطائفية نحو العنف المضاد، ومكن الدخلاء والمتشددين الاسلامويين، الذين أطلق سراحهم عامداً، كي ينالوا مني. عزز هذا الخيار الخاطئ، انسداد الأفق واستمرار العجز الأممي عن التدخل لوقف العنف وفرض حل سياسي، والأهم إخفاق المجالس والائتلافات المعارضة على تنوعها، في تنسيق نشاطاتها وتجاوز أمراضها وتشتتها، وفي التمفصل مع المكونين المدني والعسكري لضمان أفضل أداء وأقل الأخطاء والخسائر، لأقف حائرة أمام تنامي شعور المحتجين بأن التظاهرات بالصدور العارية، عاجزة عن هز أركان النظام، والأسوأ حين طاول القتل والاعتقال والتهجير عدداً غير قليل من رموزي القديمة التي عرفت بنزعتها السلمية، وبدا كأن أعدائي تواطأوا جميعهم للنيل من تلك الرموز التي كان استمرارها يغذي فرصتي في مقارعة الدخلاء والتمسك بقيمي وشعاراتي ومساري السلمي، كمشعل تمو، غياث مطر، يحيى الشربجي، خليل معتوق، عبدالعزيز الخير، باسل شحادة، فائق المير، يوسف الجادر، خلدون زين الدين، ناجي الجرف، رزان زيتونة وسميرة الخليل وغيرهم كثيرون.
عشت العامين الأخيرين بوجه ليس وجهي، وبلغة ليست لغتي، تمكنت جماعات التطرف الإسلاموي من التغلغل في صفوفي والعبث بمكوناتي وقيمي، شوهت ممارساتهم الشائنة صورتي وكثرت الأخطاء والارتكابات التي تلصق بي، ما عزز الخوف الدفين من وصولهم إلى الحكم وخطورتهم على الديموقراطية والمجتمع، وزاد الأمر تعقيداً التقدم الملح للملفات الإنسانية المتعلقة بالمعتقلين والمشوهين والنازحين واللاجئين، ونجاح التدخل العسكري الروسي بإحداث اختلال في توازن القوى لمصلحة السلطة، ما مكنه من التفرد في وضع المشاريع الكفيلة بإخماد الوجهين المسلح والسياسي للصراع الدائر.
لا يكفي تعريفي بشعاري الحرية والكرامة أو بصور الاستبسال المذهل والمقارعة المكلفة بين شعب ينتفض لنيل حقوقه ونظام لم يتوان عن استخدام أشنع وسائل القهر للحفاظ على موقعه وامتيازاته، أو بما حل بي من نكسات وانكسارات وتشوهات مع تقدم منطق العنف وتصدر الفصائل الاسلاموية المشهد، بل بما كرسته من رصيد معرفي ومفاهيم وقيم جديدة، ولنقل ثقافة بديلة تنقض كل ما هو استبدادي ووصائي، تستمد من الوعي الديموقراطي وحقوق الإنسان جذورها، وتؤسس لفصل الدين عن الدولة واستلهام الميراث التقدمي للإسلام وتفعيله بما يتناسب وروح العصر، بخاصة وقد جاءت حصيلة العامين المنصرمين محبطة ومخيبة للآمال، وأكدت الصورة النمطية للإسلام السياسي الذي لا يهمه سوى تسخير الدين لقهر وإكراه البشر وجعلهم أدوات عمياء لتطبيق رؤيته المتطرفة للشريعة الإسلامية.
وإذ أعترف بأنني لا أزال أعاني وأكابد وتكتنفني الصراعات والعثرات على طريق إعادة السياسة إلى المجتمع والتي تتعاون على تغييبها سلطة القمع والجماعات الاسلاموية، أجزم بأني لم أكن لحظة ولادتي خياراً أمام السوريين يمكنهم قبوله أو رفضه، بل رداً اضطرارياً، تاريخياً وأخلاقياً، ضد نظام استبداد وفساد أوصل المجتمع إلى حالة لا تطاق من القهر والتمييز والعوز، نظام لا يتحمل فقط، مسؤولية اندلاع مختلف الانفجارات الشعبية، بسبب أنانيته وتعنته وشدة عنفه وظلمه، وإنما أيضاً مسؤولية الأثمان والتكلفة الباهظة التي تكبدها المجتمع، وأجزم تالياً بأن كثرة الأعداء وما ينصبونه من أفخاخ لاعتراض نجاحي، لا تضعف مشروعيتي، بل تؤكدها، مثلما تؤكدها اجتهادات نقدية لم تهدأ، لاستخلاص العبر وحفز أسباب استمراري.
يخطئ من يعتقد أن الثورة لا يمكن أن تهزم أو تشوه وإن هزمت لا تعود ثورة أو لا تستحق هذا الاسم، ففي التاريخ أمثلة كثيرة عن ثورات حقيقية وشاملة ومشروعة هزمت موقتاً، والأنكى أن تلي الهزيمة مرحلة دموية وسوداء يقاسي فيها الشعب الثائر الأمرين قبل أن يتمثل الدروس وينهض من جديد.
* كاتب سوري
الحياة