الثورة السورية المعلم البارز في القرن الواحد والعشرين
عمر كوش
إذا كان العديد من الباحثين والسياسين قد أعلنوا أن القرن العشرين كان قرناً أميركياً، من جهة تزعم وقيادة الولايات المتحدة الأميركية للعالم، وتأثيرها فيه، إلى جانب ما أحدثته من تغيرات في الخارطة الجيوسياسية العالمية، فإن القرن الحادي والعشرين سيكون قرناً سورياً، أو بالأحرى قرن الثورة السورية، بوصفها ثورة لها ما بعدها، والمعلم البارز في العشرية الثانية منه، التي ستفيض إرهاصاته على جوارها وعلى الإقليم والعالم. ولعلها ستبقى كذلك سنيناً طويلة، لتطبع القرن بسماتها، إذ لم يشهد تاريخ العالم ثورة، كالثورة السورية، ليس من جهة أسبابها ومطالبها وطموحات ثوارها وناسها، بل لأنها أكسبت مفهوم الثورة معان ومركبات جديدة، وابتدعت كيفيات مبتكرة لمواجهة أعتى نظام استبدادي دموي، قلّ نظيره في التاريخ، نظام لم يتوان، للحظة، من توجية نيران مختلف أنواع أسلحته نحو الثوار وحاضنتهم الاجتماعية.
ولا شك في أن الثورات العربية هي المعلم الإبرز في منطقة الشرق الأوسط والعالم، في أيامنا هذه، وبالأخص الثورة السورية، التي تشكل نقطة انطلاق لدروس مستفادة، ولفهم روح الثورات والمتغيرات التي ستحدثها في تغيير عوالم الاستبداد والأنظمة الديكتاتورية. لذلك ليس غريباً أن يقف الساسة الروس والإيرانيون والصينيون، وكل أنظمة الاستبداد واللاديموقراطية ضد الثورة السورية. فساسة هذه الدول يدركون جيداً أن روح الثورة السورية، تشكل شبحاً من نوع جديد، يحوم فوق رؤوسهم وعروشهم، وأن شعوبهم المقموعة والمسلوبة الحرية، ستنظر على الدوام إلى معاني الخلاص والتضحية لدى الشعب السوري، الذي واجه الرصاص والقذائف والصواريخ والطائرات بصدور عارية طيلة أشهر عديدة من عمر الثورة. وهو اليوم يخوض معركة حرية وتحرر، ضارية، ضد النظام الأسدي المدعوم من تحالف نظم وقوى تشبهه في عدائها لإرادة الناس وتطلعات البشر وحقوقهم.
من الطبيعي أن لا يفهم كثر، من القوميين واليساريين واليمينيين والإسلاميين، الثورة السورية، التي وقفت ضدها معظم الأحزاب الشيوعية والقومية العربية، وغير العربية، وملالي إيران واتباعهم في المنطقة، ووقف ضدها أشخاص مثل أدونيس وحسين جمعة، ورصفائهما، كونهم جميعاً لايزالون يفكرون وفقاً لمفاهيم القرن العشرين، ويحاولون إرجاع الثورات العربية إلى ثورات قرن مضى وولى، تلك التي كانت منجذبة إلى شعارات أهل اليسار وأهل اليمين، وحدثت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، فأخذت ألواناً معينة، في حين أن الثورة السورية حطمت كل تلك المفاهيم، وابتدعت مفاهيم جديدة وأدوات تفكير أخرى، تليق بالقرن الحادي والعشرين.
وكانت ثورات القرن العشرين، قد تميزت بمفكريها وشخصيات قادتها الكارزمية، الذين انحازوا إلى إيديولوجيات وأفكار وبرامج، فيما أطلق شرارة الثورة السورية شباب لا يعتنق إيديولوجيا معينة، وشارك فيها الناس بمختلف أطيافهم، واحتضنتها المجتمعات الأهلية، ولم تقودها نخب متغرّبة أو متأوربة مثل ثورات القرن العشرين. الأمر الذي أفضى إلى نشوء مفهوم جديد للثورة، لا بد لمن يرغب في فهمه، من التخلي عن أساليب التفكير التي تعود إلى القرن الماضي، وينظر إلى الثورة السورية، بوصفها قضية عادلة، إنسانياً وسياسياً، لأنها قضية شعب، ينشد الحرية والتحرر، وبدأت كحركة احتجاج ورفض من لدن جماعات واسعة من السوريين، العاديين والمهمشين، على عقود مديدة من الاستبداد المقيم وامتهان كرامة الناس، وعلى الأزمة الاجتماعية العميقة، وعلى الاستبعاد والاستعباد والإقصاء والتمييز في كل شيء. وعبرت عن مدى احتقان كتلة شعبية هائلة، مأزومة وقلقة. كتلة لم تجد أي تعبير سياسي لها في ظل النظام الأسدي، العائلي والمافيوي، يمكنه أن يفتح لها في الفضاء أفقاً، ويمنح مشاركتها في الحياة العامة، معنى وتأثيراً.
وما يميز الثورة السورية عن سواها، أنها أنتجت مركبا خاصاً، جبّ كل ما تميزت به ثورات القرن العشرين، حيث كانت سلمية مطلبية في بداية انطلاقتها وحتى أشهر عديدة من عمرها المديد، وتحولت إلى ثورة شعبية. ومع إمعان، وتغول النظام في القتل، تحولت إلى ثورة تحرر شعبية مسلحة، وقدمت مثالاً متفرداً في التضحية، واستعداداً منقطع النظير في سبيل إسقاط نظام مستبد ودموي. وعلى الرغم من هول المعاناة وثقل المحنة مازال السوريون يخرجون للتظاهر، كلما سنحت لهم الفرصة من أجل حريتهم وكرامتهم، من دون أن يحنوا الجباه. وهو ما يشكل حالة جديدة، وفريدة، لا يمكن لأصحاب العقليات القديمة والأدوات الفكرية المتقادمة فهمها، خصوصاً وأن الثورة السورية أعطت معنى جديداً لعلاقة الحرية بالتحرر، بالرغم من كل ما لحقها من شوائب ومنغصات. إن ثورات العصر الحديث، ربطت بين مفهوم الثورة والحرية، وليس العدالة أو الكرامة، وهو أمر يخص الثورة السورية، من جهة أن ارتباطها بالكرامة أكثر من ارتباطها بالعدالة، لكنه قد لا يفوق ارتباطها بالحرية، ذلك أن الحرية باتت الفكرة الحاضر في عالم اليوم، بوصفها (أي الحرية) تمثل المعيار الأعلى للحكم على الأنظمة السياسية، وبالتالي ليس فهم الثورة وحده، بل مفهوم الحرية، وهو هنا ثوري بالأصل، هما اللذان عليهما يتوقف الترابط بين الثورة والحرية.
وتعبّر الثورة السورية عن لحظة تحوّل من منظومة سياسية وخطابية وأخلاقيّة قديمة ومحافظة، تشكلت منذ النصف الثاني من القرن العشرين المنصرم، مدارها القمع والضبط والمراقبة والملاحقة، إلى منظومة جديدة أكثر انعتاقاً، تحذوها ضرورة إنزال الأفكار الكليانية والشمولية من عليائها وغطرستها، والتمرد على مختلف الأطر القمعية والمقولات الحتمية والشمولية، المدّعية للشرعية المطلقة في جميع المجالات، والصلاحية في كل مكان وزمان.
وقد انزلت الثورة السورية جملة من الاحكام الإطلاقية من عليائها إلى الأرض، ومرّغت بالوحل نظام حكم أقلوي، ادعى العلمانية والاشتراكية، واعتنق طويلاً إيديولوجيا قومية استبعادية وإقصائية، وقدمت مثالاً للشعوب في كيفية إسقاط الأنظمة المعادية لها، ولعل الدور، سيأتي – أولاً – على نظام بغداد التابع والمصنع أميركيا وإيرانياً، ومن ثم على نظام الملالي في إيران، وربما تطاول رياح التغيير التي ستنشرها الثورة أقاليم وجمهوريات الاتحاد الروسي، المحكومة من طرف ساسة موسكو ومافياتها.
المستقبل