الثورة السورية وتاجر البندقية الروسي
محمد بن المختار الشنقيطي
من أعظم مسرحيات الأديب العالمي وليم شكسبير مسرحية بعنوان “تاجر البندقية”، وهو تاجر إيطالي يهودي يدعَى شايلوك. اقترض منه منافسه التاجر أنطونيو ثلاثة آلاف جنيه، لكن شايلوك اشترط في العقد بينهما شرطا غريبا، وهو أن يقتطع رطل لحم من جسد أنطونيو إذا لم يسدد له المبلغ في الأجل المتفق عليه. وقد فشل أنطونيو في التسديد في الوقت، وانتهت القصة بمحاكمة درامية أوشك فيها شايلوك على الحصول على مبتغاه من اقتطاع رطل اللحم من جسد أنطونيو، لولا أن الفتاة الذكية بورشيا تنكرت في ثوب محام، ودافعت ببراعة عن أنطونيو، حتى أنقذته من مصاص الدماء الجشع.
تذكرتُ مسرحية “تاجر البندقية” وأنا أتابع ما فعلته روسيا في مجلس الأمن منذ أيام. فقد استعملت حق النقض –وجرت معها الصين- بوقاحة لتمكين السفاح بشار الأسد من الإيغال في دماء شعبه، رغم أن كل الدول الأخرى الأعضاء في مجلس الأمن صوتت لصالح القرار، ووراءها جميع الدول العربية والأوروبية، كما أعربت أكثر من مائة وعشرين دولة في العالم عن تأييدها لاتخاذ إجراءات لوقف سفاح دمشق عند حده. وقد نقل أحد أعضاء المجلس الوطني السوري عن دبلوماسي روسي قوله له “فلتكن حرب أهلية في سوريا، ذاك شأنكم وليس شأننا”.
ولو كان الدبلوماسي الروسي صادقا مع نفسه وتجرد من نفاق الدبلوماسية لأضاف “نحن سنفعل ما في وسعنا لإشعالها حربا أهلية في بلدكم، لنبيع بشارا سلاحا أكثر”.
لقد تصاغرتْ في عيني جريمة التاجر شايلوك ودمويته وجشعه أمام جريمة القيادة الروسية وجشعها ودمويتها، وبدا لي أن المقارنة تجعل التاجر الإيطالي ذا القلب المتحجر رحيما جدا مقارنة مع تاجر البندقية الروسي فلاديمير بوتين وغلامه دميتري مدفيدف الذي يحكم من خلاله روسيا تحت غلالة شفافة من ديمقراطية الـ كي جي بي الزائفة. وهاكم ملامح من هذه المقارنة:
أولا: لم يكن شايلوك على جشعه وحرصه “تاجر بندقية”، أي بائع سلاح لقتل البشر، وإنما سماه شكسبير تاجر البندقية نسبة إلى مدينة البندقية في إيطاليا، أما بوتين فهو تاجر بندقية بالمعنى الحرفي للكلمة، فتسويق أطنان من السلاح الروسي المتخلف أهم عنده من أرواح الشباب السوريين الذين تحصدهم آلة الموت الأسدية حصدا كل يوم.
ثانيا: طالب شايلوك برطل واحد من لحم رجل واحد، بينما يطالب بوتين بأطنان من لحم السوريين، وبحار من دمائهم، مقابل بيع سلاحه الرديء، وهذا وحده يكفي ليضع العالم تاج تكريم لإنسانية تاجر البندقية الإيطالي، مقارنة مع تاجر البندقية الروسي.
ثالثا: لم يكن يهم تاجر البندقة الإيطالي سوى المال فقط، أما تاجر البندقية الروسي فهو –إلى جشعه للمال- يتباكى على الأمجاد الغابرة، ويعيش أوهام الهيمنة الدولية والنفوذ السياسي، ويسعى إلى بناء سلم إلى هذه الأوهام بأشلاء العرب وعلى شواطئ بلاد العرب، بعد أن انحسرت أمجاده على تخوم بلاده.
إن تاجر البندقية الروسي فلاديمير بوتين لا يزال يتغذى على عقلية الحرب الباردة، ويحلم بالمياه الدافئة على ضفاف البلاد العربية (ومن هنا حرص روسيا على القاعدة العسكرية في طرطوس). وهو جاهل تماما بمغزى الربيع العربي وتأثيره على استقلال القرار السياسي في الدول العربية. فالذي يريد نفوذا أو مكانة في بلاد العرب في المستقبل لن يكون له من منفذ إلى ذلك سوى احترام إرادة الشعوب العربية، وفك العرى مع الحكام الذين يستعبدون الشعب ويذبحونه.
ومن الواضح أن الأميركيين والفرنسيين كانوا أحسن فهما من الروس لهذه المعادلة الجديدة التي أسفر عن وجهها الربيع العربي. فقد قبل الفرنسيون بسقوط طاغية تونس بروح رياضية، وأشاد الأميركيون بإسقاط مبارك على الملأ، رغم أن خسارة الدولتين أكبر من خسارة روسيا في حالة سقوط الأسد.
لكن القوى الغربية أدرى بواقع المنطقة وأبعد نظرا من تاجر البندقية الروسي. ولذلك قررت أميركا وأوروبا أن ترحب بما لا تستطيع دفعه، وأن تقبل بما ليس منه بد. أما بوتين ورهطه –وقد استعبدتهم عقلية الحرب الباردة العتيقة- فهم يظنون أن في وسعهم إيقاف الفجر العربي المطل، وحرمان شعوبنا من الحرية بدعم سفاح لم يعد له مكان أو مكانة في قلوب شعبه.
لقد تبدل الزمان العربي في بلدة سيدي بوزيد التونسية منذ عام، وأدرك الأميركيون والأوربيون أن الدول العربية لن تكون أداة لنفوذ الكبار بعد اليوم، إلا بقدر ما تستلزمه مصالح شعوبها. وأصبح الأميركيون والأوروبيون مستعدين لعقد جديد مع دولنا يتأسس على إرادة الشعوب لا على نزوات المستبدين، ويؤسس لعلاقات جديدة بين أنداد، بعيدا عن الصلات القديمة المجحفة. لكن تاجر البندقية الروسي جاهل بهذا التحول العظيم في نظرة الإنسان العربي لنفسه وللآخرين، وفي سعيه إلى الحرية من نير الاستبداد الداخلي والاستعباد الخارجي، وهو سعي لا رجعة عنه مهما تكن التضحيات.
ولا ننسى أن موقف تاجر البندقية الروسي فلاديمير بوتين من الربيع العربي يحمل في ظلاله شيئا من هموم الداخل، ففي الوقت الذي كان مجلس الأمن الدولي يناقش مسودة القرار العربي الأوروبي حول سوريا، كان عشرات الآلاف من المواطنين الروس يتجمعون في قلب موسكو المتجمد (أربع درجات تحت الصفر) في مظاهرات شجاعة، تسعى إلى منع بوتين من الفوز بولاية جديدة الشهر القادم.
ليس خفيا أن الربيع العربي كان ملهما للشعب الروسي كما ألهم كل الشعوب التي تعاني من الاستبداد. فعداوة بوتين للربيع العربي عداوة شخصية إلى حد بعيد، إذ هو لا يريد أن يصدر عنه ما يضفي أي شرعية على مطالب الحرية في البلاد العربية، حتى لا يضعف ذلك موقفه المتزعزع داخل روسيا.
لقد حكم بوتين روسيا اثني عشر عاما رئيسا، ثم وضع غلامه مدفيدف في الكرسي، وظل بجنبه رئيسا للوزراء. وها هو بوتين يعود اليوم حالما باثني عشر عاما أخرى من حكم روسيا. وهو ما يدل على هشاشة التجربة الديمقراطية الروسية، ويفضح برقعها الشفاف الذي يخفي وراءه استبدادا مقنَّعا. فليس غريبا أن يوالي تاجر السلاح الروسي السفاح السوري، وهما يحملان نفس الأوهام والأحلام الدكتاتورية في زمن الحرية.
إن من الضروري أن تحمل الشعوب العربية رسالة لا لبس فيها إلى روسيا، وهي أن مصالحها المستقبلية في الدول العربية مرهونة بدعمها لتطلعات الشعوب العربية إلى الحرية، وفك الارتباط مع بشار الأسد. وما أحرى أن تكون الجمعة القادمة “جمعة نصرة الشعب السوري” في كل الحواضر العربية، وأن تستمر الجمعات متواليات حتى تسحب كل الدول العربية اعترافها بسلطة الأسد، ويتم طرد سفراء الأسد وبوتين من كل العواصم العربية، ويفهم تاجر البندقية الروسي أنه أساء إلى الشعب العربي كله من المحيط إلى الخليج، وأن لتلك الإساءة ثمنا.
لقد فتح بوتين وزمرته ثغرة خطيرة في علاقات الشعوب العربية بروسيا، وهم يكادون اليوم يجتثون ما تبقى من تركة الشراكة القديمة التي ترجع إلى منتصف القرن العشرين. لكن الشعب الروسي سيظل شريكا سياسيا وثقافيا وإستراتيجيا مهما للشعوب العربية. وهو شعب يعيش بواكير ربيع ديمقراطي يحاول بوتين ورهطه وأده في مهده.
فالشعوب العربية والشعب الروسي في الهم سواء، وواجب الطرفين السعي لنسج صلات وثيقة لا يكون السفاح بشار ولا تاجر السلاح بوتين جزءا منها.
الجزيرة نت