الثورة السورية وحرق الأوراق الطائفية
غازي دحمان
ثمة من بات في سوريا يطرح السؤال التالي، هل تنجو الثورة من محاولات جرها إلى الشرك الطائفي الذي يريد البعض تفجيره في وجهها كنمط من الأزمة يهدف إلى إجهاضها والقضاء عليها بالضربة المميتة، بل واعتبارها خطأ ارتكبه الشعب أو بعضه، بعد أن اتسعت تلك الثورة أفقياً وعمودياً وأصبحت معطى راسخاً في الواقعين السياسي والاجتماعي السوري؟
ولا شك أن الثورة والنظام لهما أنصارهما الموجودون في كل البيئات وبين مختلف الطوائف والفئات، وبقدر ما للنظام من أنصار يرتبطون به مصلحياً، وحتى عقائدياً من مختلف المكونات السورية، كذلك فإن الثورة، على مدار الأشهر الستة أسست بصبر وعناد قل نظيره، كتلتها الجماهيرية التي تتنامى بشكل مطرد، والتي يبدو أنها قطعت نهائياً مع النظام الحالي وباتت تتطلع إلى سوريا الغد، وترسم في إطارها أدوارها وتتفحص خياراتها وإمكاناتها، وكل ذلك بعد أن يتسنى لها عبور بركة الدم التي تخوض فيها سوريا من أقصاها إلى أقصاها.
وبما أن الحالة السورية دخلت، في هذه اللحظة على الأقل، في نوع من توازن القوى المربك للطرفين، بحيث أن النظام رغم احتكاره للسلطة والسلاح يعجز عن كسر الثورة، كما أن الثورة في انتظار حسم الكتلة الحرجة (غالبية المواطنين) بالانضمام إلى فعاليات الثورة، فلا بد من البحث عن مخارج جديدة غير تلك الوسائل التي تم تجريبها ولم تؤدِ إلى نتائج عملياتية ذات فعالية تذكر على الأرض.
بالنسبة للثورة، تشكل هذه المرحلة طوراً من أطوار التطور الطبيعي، وفي هذا الوضع تبدو أكثر اطمئناناً، رغم كل الجروح التي أصابتها عبر قتل واعتقال جزء مهم من جسمها الفاعل والناشط، لكن التطورات أثبتت أن الثورة استطاعت دائماً بناء كوادر بديلة من الشباب وتعويض الخسائر بسرعة وكيفية مذهلتين.
كما أنها من جهة أخرى تمكنت من تفعيل برنامجها الثوري، وهي في طريقها إلى تطوير أشكال رديفة من النضال السلمي، لا تقتصر على التظاهر كنمط ثوري وحيد، بل تمتد إلى الإضرابات والعصيان المدني الذي أخذت تطبيقاته الأولية تظهر بشكل واضح في العديد من المناطق.
وإضافة لذلك، فإن الثورة في طريقها إلى تحقيق شعارها الوطني باعتبارها ثورة وطنية شاملة تخص كل المكونات الطائفية والإثنية السورية، وذلك عبر الانضمام المتواتر لمختلف المكونات في فعاليات الثورة، عرب وأكراد وأشور وشركس وتركمان، وسنة ودروز وعلويون وإسماعيليون.
وبالتزامن مع تزخيم الحراك في دمشق وحلب، مما يعني أن الثورة استثمرت، وبشكل مجدٍ وفاعل، كل مراحل تطورها، وهي تسير بديناميكية تطورية وفي خط تصاعدي وصلت مرحلته الآن إلى حد التوازن، ولن تلبث أن تغادره إلى طور الأكثرية الواضحة.
بالنسبة للنظام، لا تشكل حالة توازن القوى وضعاً مريحاً، لا من الناحية السياسية ولا الأمنية، فالنظام تعاطى منذ البداية مع الثورة انطلاقاً من معادلة العلاقة الصفرية، إذ كل ما تربحه الثورة يشكل حسماً من رصيده.
كما أن النظام يدرك أن استمرار الثورة يعني استمرار بقائه في دائرة الخطر، ذلك أنه نظام مركب من جملة من مراكز القوى والمصالح والاعتبارات التي تتعرض بشكل يومي إلى الاهتزاز والتصدع، كنتيجة طبيعية لاستمرار بيئة الخطر التي تشكلها الثورة، كما يفرض نمط استجاباته التضحية ببعض الامتيازات التي يحتكرها، مما يحدث انقسامات، قد تكون غير مرئية حتى اللحظة، لكنها في طور التشكل، كنتيجة لاستمرار الأوضاع وتصاعدها.
في ظل هذا السياق التصارعي بين النظام والثورة، أطلت بعض الأحداث الطائفية برأسها على المشهد السوري، ما يدفع إلى التساؤل عن ماهيتها، فهل هي واقع طبيعي خلصت إليه الأزمة السورية، أم هي مكون جرى تصديره لمسرح الأزمة بعد تصنيعه وتصميمه مخبرياً كمضاد طبيعي للثورة وكاسر لأمواجها العاتية؟
لا يفيد كثيراً نكران الحالة الطائفية في سوريا، فهي واقع موجود ومتأسس منذ قرون، وتفاصيل هذا الواقع معروفة للجميع، كما لا يمكن نكران وجود بعض الانقسامات التي تنطوي عليها هذه الحالة نتيجة معطيات متعلقة بالمناخ الإقليمي المتأثر الذي شهد في السنوات الأخيرة استنفاراً طائفياً تمظهرت تعبيراته في العراق ولبنان خصوصاً.
كما أن التسابق على إحياء بنى التخلف من عائلية وعشائرية ومناطقية وطائفية صارت سمة المرحلة، ولا يمكن استثناء سوريا من هذا السياق، غير أنه في الحالة السورية بقي هذا الانقسام ضمن أطر معينة لم يتجاوزها، كما جرى استيعابه، وإن لم يجر تفكيكه على اعتبار أن النظام لا يعترف بالحالة الطائفية أصلاً، على الأقل في خطابه السياسي.
إضافة إلى ذلك فإن معطيات الواقع السوري طاردة لنمو واكتمال حالة طائفية بين ظهرانيه، وذلك راجع بدرجة كبيرة إلى واقع تدامج المصالح ووحدتها بين مختلف مكونات الشعب السوري، فضلاً عن التمازج الديمغرافي والانصهار العلائقي بين مختلف هذه المكونات، واختفاء حدود الانقسام الطائفي، بحيث أصبحت الكثير من المدن السورية (دمشق وريفها وحمص واللاذقية) أمكنة تحتضن، وبشكل متداخل، غالبية الطيف السوري، ونشأت في ظل هذا التداخل علاقات يصعب فصمها وتفريقها.
إضافة لذلك، ثمة اعتبارات عديدة تؤكد أن الانزياح إلى الشرك الطائفي في سوريا ليس سوى صناعة يُراد منها تحقيق أهداف بعينها، لا شك أنها تتعلق بتطورات الأوضاع الحالية، منها أن النظام الحالي لا يمثل طائفة بعينها، كما أن استبداده طال جميع الطوائف من دون استثناء.
ويعرف الكثير في سوريا أن معارضي النظام ممن دخلوا السجون أو شردوا أو تمت ملاحقتهم سياسياً منذ العام 1970 وحتى الآن، من غير المنتمين إلى التنظيمات الإسلامية، ينتمون في غالبيتهم إلى الطائفة العلوية أو أبناء الأقليات الأخرى المتعاطفة مع النظام.
من ناحية أخرى فإن سوريا تملك خبرة تاريخية في هذا السياق تمنحها القدرة الكافية على التعاطي مع هذه الحالة المستجدة، فقد سبق لسوريا في الخمسينات والستينات أن حصرت “الحرب الأهلية” داخل مؤسسات الدولة ومنعت انفلاتها إلى المجتمع على النمطين اللبناني والعراقي، كما أنها تجاوزت صدمة أحداث عام 1982 رغم قسوتها ومرارة نتائجها ومترتباتها.
من الواضح أن هناك أطرافاً بعضها داخل النظام تدفع نحو صراع كهذا، لأنه يعيد تركيب الأزمة الحالية بمعطيات غير معطياتها الحقيقية، بما فيها من معطيات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، دافعاً إلى اختصارها في صراع بين طوائف.
ولا شك أن أجهزة أمنية وإعلامية من داخل النظام تمثل بعض الأطراف المنخرطة في التحشيد الطائفي وفي الدفع نحو صراع طائفي، إلا أن المؤشرات المتوفرة حتى اللحظة تفيد أن قوى الثورة قادرة ومصممة على اجتياز هذه الحالة، بل إنها بدأت تستثمرها لغير مصلحة النظام، مما يؤكد احتراق هذه الورقة ونزعها من خانة المخاطر التي تتربص بالثورة، إن لم يجرِ تحويلها إلى أحد أهم أوراق القوة بيد الثورة.
الحياة