الثورة السورية وحيدة… شريدة قدرها الجيوستراتيجي
دلال البزري
غزى الشيب، حرفياً، شعر فريال الثلاثينية في أسبوعين، قامت خلالهما بزيارة الى أهلها في دمشق. «شفتْ الجثث مكوّمة على بعضها. كلهم مقتولين بالرصاص…! كلهم مقطّعين مشوهين…!»، تكرّر، لاهثة، كلما باشرت وصفها لواحد من الأحياء الدمشقية المشتعلة، إثر التجول فيها، من ضمن يوميات هذه الزيارة. «شابْ شعري…! فيهم أطفال وشباب ونساء وكهول…! مكوّمين… مكدّسين… مقطّعين… مشوهين! ما بتقدري تتعرفي عليهم!»، تردّد، متفجعة، فاقدة السيطرة على هدوئها المعهود، ولازمتها «هيك يا دلال! هيك…!»: أي بالبساطة المجنونة، يقتلون ذبحا أو بالرصاص، ثم يقطّعون. وشهادة فريال، الشخصية، غير «المغطاة إعلامياً»، ليست الأولى من نوعها. قبل فريال، كان هناك اللقاء الشخصي مع مروان وهيام وغيرهم… جميعهم كان وصفهم يفوق ما يمكن أن تعرفه مواطنة مثلي، تتابع أخبار سوريا وتلاحق التغطيات الإعلامية حول مجريات ثورة شعبها ضد ديكتاتوره.
لذلك، كان سؤالي، المكرّر بدوره، يقطع وصف فريال: «هل هذا يعني بأن التغطية الاعلامية لجرائم النظام هي أقل من واقعها الدقيق؟»، وإجابتها الواحدة، كل مرة، مثل صرخة لاهبة: «بكتيييير!»، وتتابع «ما يحصل على أرض سوريا من قتل وتدمير على يد قوات النظام، يفوق بكثير ما يغطيه الإعلام، خصوصاً ذاك المتعاطف مع الثورة».
طبعا هذا يتناقض تماماً مع ما يروجه النظام السوري وحلفاؤه الميامين، وهم لا يتوقفون عن لصق ثورة الشعب السوري بـ»إعلام متآمر»، «مزيِّف للحقائق»، ممْعن في «المبالغات والفبْركات»، «محرّض»…. إعلام، هو الذي أشعل هذه الثورة؛ لولاه، كانت «الإصلاحات» أو «الحلول السلمية» التي يتقدم بها النظام «بكل جدية وصدق»، كانت أخذت طريقها الى التطبيق… هكذا يقول النظام وحلفاؤه، زارعا الشك والحذر بروايات الناجين من المحرقة البعثية. شك وحذر ضروريان، ولكن لأسباب نقيضة. فبدل «لماذا تضخّم المنظومة الاعلامية المؤيدة للثورة السورية وقائع مجازر النظام»، يصبح السؤال الصحيح: «لماذا تقلّل هذه المنظومة من وقائعها؟».
بعد إستبعاد براءة عدم المعرفة، أو العجز عن الوصول الى المعلومة، بسبب «خطورة الاوضاع»، اذ نعتقد بأن الاقمار الصناعية والتقارير الاستخباراتية تستطيع أن تلتقط كل ترددات كوكب الأرض، بما فيها ارتدادات المجازر الجماعية الحاصلة في سوريا، بعد ذلك اذن ثمة إجابتان على هذا السؤال: الأولى ان «أصدقاء» ثورة الشعب السوري هم في الواقع ممتنعين عن مساعدته، ديبلوماسيا وعسكريا وإغاثياً، وان كل ما يقال عن «تهريب سلاح ومسلحين الى الداخل السوري…» هو عين الخطأ؛ وان المنظومة الاعلامية التابعة لهؤلاء «الأصدقاء» ليس بوسعها غير تغطية محدودة، بهذا الحجم، هي مضطرة لها، نظراً للامتناع. هذه الاجابة ضعيفة مجانبة للواقع، لأن هناك فعلا مساعدة، ولكن من أي نوع؟ هنا نأتي الى الاجابة الثانية: من أن المساعدة التي يقدمها «الأصدقاء» مرهونة بسياسات دولها التي بدورها تحددها جملة من الاعتبارات، وبالتالي لهم سياسة إعلامية تقلّل من الفظاعات البعثية كي لا تضطر الى مواجهة رأيها العام، الذي سوف يتحرك بقوة ويضغط عليها ليكون تدخلها أقوى، أفعل وأقدر على إنقاذ سوريا والسوريين من هذا الاستشراس البعثي المنفلت من عقاله.
هو أصلاً، من دون النقل الاعلامي الدقيق للمجازر الحاصلة بحق الشعب السوري، هناك سجال في الغرب حول نوعية هذا التدخل؛ في القمة السياسية، بين الجمهوريين الراغبين بالعودة الى رئاسة الولايات المتحدة والديموقراطيين العاملين على البقاء فيها، بين الرئيس الفرنسي الخاسر للانتخابات الاخيرة وغريمه الجديد الذي فاز فيها. ثم في سلم أدنى، بين مثقفين ومعلقين ومحللين: جميعهم يتناقشون حول ضرورة التدخل من ضرره، بعضهم يزايد، يأتون بالحجج والبراهين التي يعتقدونها مفحمة… من أبرزها، مؤخراً، تلك التي ساقها واحد منهم، اذ أعلن بغضب «كيف ندعم طرفاً في حرب، سوف تأتي بالسلفيين لو انتصر»؟
تصوَّر، ساعتئذ، لو كان حال منظومتهم الاعلامية على وفاق دقيق مع الوقائع التي تنقلها! هل ستتبدل الأصوات؟ باراك أوباما، هل يبقى، عشية الانتخابات الرئاسية التي ننتظرها جميعاً كأنها مفتاح النصر القادم، على نفس الموجة الروتينية من الإدانة اللفظية ودعوة بشار الى التنحي؟ على نفس نوعية «المساعدة» التي يرسلها الى «الجيش السوري الحرّ»؟
بناء على هذه الفرضية، لماذا لم يوجد «أصدقاء» سوريا المنظومة الإعلامية التي تكفل انتصار شعبها من دون ذبح نصفه وتدمير بناها وتشريد أهلها في الداخل والخارج؟ ما هي إعتباراتهم السياسية العليا؟
طبعا هناك الجيوسياسة، وحدود سوريا الحساسة، وحلفاؤها المتشبثين بنظامها، المنصهرين به، والفشل في أفغانستان والعراق، وتراجع الجبروت الأميركي الخ. وهناك سبب جوهري آخر؛ وآيته ان القضية السورية ليست من الثقل على مصالح هؤلاء «الأصدقاء» بما يدفعهم الى وضع كل طاقاتهم، ومقايضاتهم وتسوياتهم العالمية، بوجه خصومهم المتدخلين قلباً وقالباً لنصرة النظام. سوريا عندهم مثل فقير وهامشي، قريب لنائب هو زعيم العائلة، يطلب منه «واسطة» محقة؛ لماذا يعذب نفسه؟ ماذا يربح منه؟ بما يفيد كرسيه لو «خدمه»؟ ماذا يربح الغرب؟ ماذا يجني لو قايض مثلا حرية الشعب السوري بإعطاء حيز جيواستراتيجي لروسيا، حليف النظام، في القوقاز مثلا؟ ماذا يجني لو عرّض نفسه لخطر، أو لمعارضة دولية عنيفة، وعمل بكد على خلق منطقة حظر جوي على الحدود مع تركيا؟ أو أمدّ الثوار السوريين بالسلاح النوعي، أو أقله بالصورايخ المضادة للطائرات الحربية التي تقصف اللحم الحيّ عشوائيا… فيما وهو يدين، يتفرج، ينتظر؟
منذ بداية الثورة، لم نسمع من «الاصدقاء» غير دعوات بشار الى التنحي، غير توقع نهاية قريبة لبشار، غير إدانة صارمة للروس والصينيين بوضعهم الفيتو ضد أي قرار له معنى مع سوريا. لم نشاهد غير خلوات مجلس الامن المعروفة النتيجة سلفاً، ولكن الضرورية لكي يبدو للعالم بأن والله… الغرب «حاول»، لكن الشر الروسي، وخلفه الصيني، «أكبر»! بسيناريو محفوظ، تعرف نتيجة مجرياته سلفا… ومع ذلك تتأمل. (أقل من ذلك بكثير… عام 1982، وقت كان الجيش الاسرائيلي يحاصر بيروت، تدخل شخصياً الرئيس الاميركي السابق، الجمهوري رونالد ريغان، ليعيد هذا الجيش المياه الى بيروت بعدما قطعها عن أبنائها!).
المشهد السوري على درجة عالية من العبثية: من جهة نظام، يتدخل في تلابيبه الأمنية والعسكرية نظامان حليفان أجنبيان، الروسي والايراني، يمدّانه بالسلاح والخبرة والرجال معحربه على شعبه، يسميها «حربا أهلية»، ويوافق على هذه التسمية «الأصدقاء»، فيرتاح ضمير الاثنين… ومن جهة أخرى شعب يشحذ المساعدات الديبلوماسية والإغاثية والعسكرية، دفاعاً عن حياته وكرامته، أو مجرد حماية… يأتيه منها الرذاذ. ثم في الوقت عينه: هو النظام نفسه الذي يتهم شعبه بأنه منساق لتدخل عسكري خارجي، «مؤامرة»، غرضها إضعاف «محور الممانعة» الخ.
كل هذا ليس لإنكار التدخل الخارجي، ديبلوماسي وعسكري واغاثي: الديبلوماسي من طرف شفاه، إدانات ومؤتمرات وعقوبات وما شابه… العسكري يقتصر معظمه على «اللوجستي»، من مناظير وألكترونيات تعقب ونقل ومراقبة الخ. فيما الإغاثي، في الداخل خصوصاً، هو أصلاً دون الخبر المعتمد في التغطية الاعلامية الخاصة به. مساعدات مبرمجة، مقطرة، كأن غرضها التأكيد على تسمية ما يحصل بأننا ازاء «حرب أهلية»، وليست حرب نظام مدجج بسلاح كان يفترض به ان يقاتل اسرائيل، واذا به يقتل شعبه. مساعدات تديم المقتلة تحت إسم «حرب اهلية»، تمكن الثوار، وبتضحيات بشرية خارقة، من التصدي لقوات النظام، تصديا إستنزافياً، من دون ان يتغلبوا عليها، ولا حتى ان يسقطوا الطائرات أو المروحيات التي تقصفهم وتقصف ما حولهم من بشر وحجر، بـ»عشوائية» مدروسة. هكذا… حتى تهلك سوريا وتصبح دولة قاصرة، تضج بأصحاب اللحى من متطرفين جهاديين وأصوليين، لا يحبون شيئا قدر حبهم للكراهية.
الآن، يتصدّر موضوع التدخل الخارجي، قصة السلاح الكيماوي الذي بحوزة النظام. من ان هذا السلاح سوف يكون الذريعة للتدخل. قد يكون هذا التوقع صحيحاً، ولكن بشرط، ان يتأكد المتدخلون، بأن هذه المرة، انما يتدخلون لحماية مصالحهم وقدراتهم واستراتيجيتهم، الحيوية كلها. وهذا بدوره مشروط بأن لا تكون «الاسلحة الكيماوية» السورية مثل «أسلحة الدمار الشامل» العراقية، أي مجرد ابتزاز بعثي معهود، مجرد دعوة الى الموت الجماعي، الى الانتحار، ذودا عن أسطورة الديكتاتور.
الجهة الوحيدة التي وضعت كل ثقلها حتى الآن للإطاحة بالنظام البعثي هي الشعب السوري، الشعب السوري وحده؛ وهو الآن وحيد، شريد قدره الجيوستراتيجي.
المستقبل