الثورة السورية ومفترق الطرق
رضوان السيد
كثرت التقولات والتخمينات بشأن اتجاهات الأحداث في سوريا، بين قائل باستمرار وقائع الكر والفر بين النظام والمعارضة، وقائل بالحرب الأهلية، وقائل بالانقسام والتشرذم وقيام الدويلات.. إلخ. أما الواقع فهو أن الأحداث في سوريا بلغت مفترق طرق صعبا ولعدة جهات:
– أحداث القتل والاعتقال والتهجير التي زادت بشكل غير معقول.
– ثبات القدرات العسكرية للنظام وزيادة فعالية المعارضة المسلحة.
– وجود مساحات واسعة في قبضة المعارضة، ومحاولات عسكر النظام في الأسبوعين الأخيرين استعادة بعضها في مناطق حمص واللاذقية. وهكذا فمن الناحيتين الأمنية والعسكرية ما كانت هناك متغيرات بارزة باستثناء ارتفاع حدة المذابح للتهجير من جهة، وازدياد قدرات جماعات المعارضة المسلحة على الاشتباك من جهة ثانية
– ارتفاع النشاط المسلح من جانب قوات النظام لمواجهة زيادة عمليات المعارضة، واستعادة بعض المناطق الحساسة.
وإذا شئنا الاستمرار في تتبع الحراك الداخلي فهناك عدة ملاحظات أيضا:
– الاستنفار الكامل للطائفة العلوية، وربط مصير سوادها الأعظم بمصائر النظام أيا تكن. والاتجاه لإنشاء مناطق صفاء طائفي لنفسها عن طريق المذابح والتهجير بدعم من بعض الجهات في النظام.
– ثبات التحالف بين النظام والطائفة الأرثوذكسية الكبيرة كما مع الطائفة المدينية الكاثوليكية الصغيرة، ومع معظم الطائفة الدرزية. وقد اقتنع النظام منهم بالثبات والسكون.
– انقطاع العلائق بين النظام والسنة ثائرهم وساكنهم. لكن المدينيين السنة من الطبقة الوسطى يؤثرون المغادرة على المشاركة، بينما يؤثر شبانهم المشاركة في التظاهر، واللجوء إلى السلاح مؤخرا أيضا.
وهكذا مرة ثانية فإن الاستنفار لدى الجميع بلغ حدوده القصوى، وعلى المستويين العسكري والشعبي. وما عدنا نسمع كثيرا عن تظاهرات حاشدة لأنها لم تعد ممكنة، وصار المجال المفتوح أو الرئيسي هو العمل العسكري الذي يشبه الحرب الأهلية من سائر الجهات خاصة السنة والعلويين. وبذلك فقد دخلت سوريا بالفعل ظروفا تشبه ظروف الحرب الأهلية في لبنان في السبعينات من القرن الماضي. فظهر النظام على طبيعته الأصلية باعتباره نظاما للطائفة العلوية ومن التحق بها من الأقليات. وفي ظروف السكينة فقد كانت البرجوازية المدينية تتعاون مع النظام، وهي اليوم ما عادت تتعاون معه، من دون أن يعني ذلك أنها ثارت أو تثور. وصار الريف السني الفلاحي والعشائري ثائرا كله، وصارت في قلب الثورة مدن وبلدات هي بيئات ذاك الريف في الأساس مثل درعا وحمص وحماة وإدلب.
لماذا حصل هذا الأمر في سوريا وليبيا ولم يحصل مثله في تونس ومصر وحتى في اليمن؟ لأن تونس ومصر واليمن فيها جيش وطني يملك قراره وهويته واستقلاليته عن السلطة المأزومة عند الضرورة. ولذا فإن سائر الأطراف – باستثناء «القاعدة» باليمن – تتعامل معه من مواقع المهابة، وحتى إمكان الاستغاثة به إذا أحست بضيق شديد يتهدد وجودها. وفي مصر وتونس – إضافة للجيش – هناك سلطة قضائية مستقرة الأسس، وتملك شبه إجماع على مرجعيتها من جانب النخب ومعظم الجمهور. وقد كان الجيش السوري كذلك حتى أواسط الستينات، والجيش الليبي حتى عام 1973. فبعد عام 1964 – 1965 مر الجيش السوري بمرحلتين، إحداهما عقائدية، والأخرى طائفية. فتحت ستار العَقَدية البعثية جرى «تنظيف» الجيش من التقليديين والناصريين.
وتحت أضواء الطائفية بعد تمرد «الإخوان» أواخر السبعينات جرى القضاء على الضباط السنة الكبار، واختراع فرق عسكرية خاصة وطليعية ذات صبغة طائفية خالصة. ثم جرى بالتساوق إنشاء الأجهزة الأمنية والاستخباراتية الضخمة التي لا مدخل للأكثرية الشعبية فيها. وقد قامت سائر الأنظمة الجمهورية ذات الصبغة الأمنية بإنشاء أجهزة أمنية ضخمة لمراقبة كل شيء وضبطه، لكن لسبب ما – ربما اقتناع رؤوس النظام باليمن ومصر وتونس بشرعيتهم – جرى إفساد تركيبة الجيش؛ في حين حصل ذلك كله في سوريا وليبيا. بل إن الجيش (التقليدي) جرى إلغاؤه في ليبيا عمليا، لصالح الكتائب العسكرية المستقلة والموزعة على أولاد القذافي وأعوانه المخلصين، وما أمكن إلغاء الجيش السوري، ربما بسبب التجنيد الإجباري، والحاجة إلى أعداد كبيرة من العسكريين تتوزع على لبنان وحدود العراق وفلسطين المحتلة والأردن.
وقد كان هناك اقتناع بعد خروج مصر من المواجهة مع إسرائيل بأنه لم تعد هناك حاجة للجيوش الكبيرة والقوية التي تستطيع الانقلاب على النظام. وبذلك تطورت فكرة أمن النظام واستقراره وخلوده (= القائد الخالد)، إلى أن يصبح الجيش الحقيقي هو ذلك المختص بحماية النظام وأمنه، وبالطبع ليس من العدو الإسرائيلي، بل من «أعداء الداخل». ولذا فحتى الألوية التي كانت تأتي إلى لبنان كانت من عسكريي النظام المحظوظين، الذين كانوا يأتون للغنى والغنائم! أما المؤسسة القضائية فقد ظلت هامشية جدا في سوريا وليبيا، وضعيفة في اليمن؛ بينما حرص النظامان التونسي والمصري على ترك المؤسسة القضائية وشأنها حرصا على الدولة من جهة، ولتبييض الوجه أمام الغرب من جهة ثانية. وهذا هو معنى قول بشار الأسد بأنه لا دولة في سوريا ولا نظام من دونه هو (!) ليس لأن القوة العسكرية والأمنية بيده وحده؛ بل ولأن كل السلطات والمؤسسات الأخرى ألغيت. بل إن التخصيص المصطنع الذي جرى في عهد بشار الأسد، اقتصر على توزيع المغانم على الأقارب والمحاسيب، أما الآخرون فعليهم أن يحصلوا على ما يستطيعون دفع تكلفته من خلالهم!
إن حل الانقسام الحاصل صعب إذن: فالنظام صامد لدعم فئات قوية بالداخل له إلى جانب قواته الخاصة، ولأن إيران والعراق لا يزالان يصران على دعمه بشتى الوسائل حفظا للمحور الذي أقامته إيران بالمنطقة. والمعارضة صامدة ومتقدمة لحصولها على الدعم من الأكثرية السنية، ولأنها صارت تتلقى الدعم اللوجيستي مؤخرا من الخارج. بيد أن قوى النظام ما عادت تستطيع الحسم، كما أن توازن القوى الذي حققته المعارضة لا يتيح لها في المدى المنظور قلب الطاولة على النظام، وإنما قصارى ما تستطيع تحقيقه مناطق آمنة أو عازلة. فكيف إذن يمكن الخروج من المأزق وتحقيق التغيير؟ لا يبدو ذلك متاحا حتى الآن إلا من خلال توافق روسي – أميركي على المرحلة الانتقالية. ويبدو أن موسكو عرضت معالم خطة على الولايات المتحدة، فطلبت أميركا التشاور بشأنها مع إيران.. والنظام السوري. وهي خطة أو معالم خطة تعني شيئا شبيها بالحل اليمني: تشكيل حكومة انتقالية توافقية تتولى السلطة عمليا لحين انتهاء مدة بشار الأسد عام 2014. وخلال ذلك تُوضع القوات العسكرية والأمنية تحت قيادة مجلس عسكري يعيد توحيدها بعد خروجها من الشارع؛ ثم تجرى انتخابات، ويتشكل مجلس تأسيسي يكتب الدستور، وينتهي الأمر بانتخاب رئيس جديد للجمهورية. وبذلك يصبح المعارضون مشاركين في السلطة. ويتوقف عنف النظام ضد الناس، ويعود المهجّرون، وتبدأ إجراءات العدالة الانتقالية، وتبدأ إعادة الإعمار. ولا تعاد هيكلة الجيش وقوات الأمن إلا بعد عام 2014!
إن هذا الحل إن جرت الموافقة عليه من سائر الأطراف العربية والإقليمية والدولية، يظل صعب التنفيذ، لأن المشروع – إن صحت تفاصيله – يتطلب انضباطا عاليا وصبرا من سائر الجهات الداخلية، وهو أمر غير متوافر الآن لدى الطرفين. بيد أن الصعوبة الرئيسية تبقى لدى إيران التي يعني التغيير في سوريا انهيارا لمحورها المتمدد بين طهران وبغداد ودمشق ولبنان. فهي كما تريد ضمانات في النووي، تريد ضمانات في مناطق نفوذها، وهي ضمانات لا يبدو أحد مستعدا الآن لإعطائها إياها حتى أنقرة.
لقد اتضحت الجبهات، واتضحت القدرات والإمكانيات. وما بقي غير مسارين أو خيارين: التوافق بمظلة روسية – أميركية على الحل السالف الذكر.. أو تهدئة الأزمة من دون إخمادها إذا تعذر التوافق، من خلال المناطق الآمنة، وخطوط التماس. أما الإمكانية الثالثة، أي استمرار الوضع الحالي، فلا أحد يقدر على الصبر عليها لا النظام ولا المعارضة، ولا المجتمع العربي والدولي، وهذا هو معنى بلوغ مفترق الطرق!
الشرق الأوسط